
خبز فيروز الذي لن يحن إليه زياد
جسَّد رحيل زياد الرحباني امتدادًا لحالة الحزن والشجن والفقد التي سرت عبر عقود، في عائلة هي الأهم فنيًا في عالمنا العربي الممتد من الخليج إلى المحيط.
عائلة الرحابنة التي انضمت لها فيروز بالزواج في خمسينيات القرن العشرين، كانت ملء السمع والبصر وذاع صيت التحالف الفني بين أفرادها دون منغصات، حتى وقع الانفصال بين فيروز وعاصي عام 1979، ثم وفاة عاصي في 1986، مرورًا برحيل ابنتهما ليال عام 1988 في شبابها بسكتة دماغية مفاجئة، ليقيم الحزن في بيت العائلة التي طالما صدرت البهجة والمتعة.
لم يكن الهم شخصيًا لدى العائلة، فقد ترافق الوجع الخاص مع همٍّ عامٍ أغرق لبنان في الحرب الأهلية ومزّقه بين الطوائف، ليصبح الألم والتعبير مزدوجًا.
فيروز وزياد
علاقة زياد بأمه نُهاد وديع حداد، الشهيرة بـ"فيروز"، كانت استثنائية في احتمالها كل شيء من التعاون الفني إلى الهجر الشخصي، فقد تباعدا حتى القطيعة وامتزجا حتى الإبداع.
سجلت العلاقة ارتقاءً وتماهيًا وانسجامًا أنتج ألحانًا حلَّقت في الآفاق، كما سجّلت انخفاضًا حد الخصام، ثم انفتاحًا وعود على بدء. هكذا دائمًا كان هناك ما يُقال ويُروَى عن مياه النهر الذي يجري بين فيروز وزياد؛ الأم والابن، المطربة والمؤلف. قطبين يتجاذبان ثم يتنافران. كان هناك دائمًا تدفقٌ يعقبُه كدرٌ أو فيضٌ يتبعه غيضٌ.
شبَّ زياد عن الطوق وخطَّ لنفسه مسارًا متفردًا عن تراث الرحابنة
دخل زياد بنضجٍ نادرٍ عالم الفن عبر حنجرة أمه الذهبية، فلحن وهو بعدُ مراهقٌ أغنية سألوني الناس، لكنه منذ خطواته الأولى لم يعش في جلباب أبيه ولا كنف أمه، بل اختار مسار التجديد، ومزج الموسيقى العربية بألوان أخرى، وسحب فيروز لمناطقه الجديدة بعيدًا عن "البلدة القديمة".
قدم زياد أمه "صوت الجبل" للأجيال الجديدة بلغةٍ فنيةٍ حديثةٍ ميّزت إبداعه وقربت السيدة التراثية لمن هم أدنى في العمر وأكثر تمردًا وتقلبًّا في المزاج والهوى.
شبَّ زياد عن الطوق وخطَّ لنفسه مسارًا متفردًا عن تراث الرحابنة؛ لا يهدمه أو ينكره لكنه لا يقف أمامه جامدًا في محراب الفن دون حراك، مفضّلًا النزول بآرائه وفنه من الأبراج العالية لمجالسة الناس في الطرقات، والاشتباك على المقاهي مع آمالهم وآلامهم.
ضد الطائفية
زياد الساخر الذي يقطر كلامه نقدًا ومرارةً يشبه الناس العاديين في سلوكه ومظهره وكلامه، فتشكلت شعبيته من خليط من محبي الفنان الجامح بخياله، وأنصار السياسي بواقعيته، وأتباع الفيلسوف بحكمته، وكان أحد التعابير الرائعة عن مزاج من يرغبون في وحدة لبنان كارهًا الطائفية البغيضة التي ألقت بلاده في أتون حرب أهلية امتدت 15 سنة (1975-1990).
من بين السياسيين والنخب مَن حرص على تكريس الطائفية في لبنان، ودفع نحو تجذيرها في كل مناحي الحياة. لكنَّ زيادَ سعى لتفكيك الخطاب الطائفي بإطلاق سهام الفن نحو مروجيه والداعين له، وفضح في مسرحياته بالنسبة لبكرا شو؟ التي قدمها 1978 وفيلم أمريكي طويل 1980، وشي فاشل 1983، وبخصوص الكرامة والشعب العنيد 1993 تناقضات لبنان في أعوام الحرب وتحكم الطائفية في القرارات والمصالح، حتى في علاقات الحب والعاطفة وربما في الموت والحياة.
هاجم زياد قادة الطوائف معبرًا عن خيبة أمله الشخصية وخيبة أمل بلاده في السياسيين، الذين لم يستوعبوا دروس الحرب الأهلية واستمروا في النفخ بنيران الطائفية والمحاصصة.
لقي أسلوبه الساخر والجريء في أعماله وبرامجه ومقابلاته صدى لدى الشباب الذين حفَّز لديهم التفكير النقدي، كما لم يكتفِ بنقد السياسيين بل وجه سخريته للمواطنين الذين يقبلون الطائفية ويسكتون، معتبرًا أن ما يشهده لبنان فوضى لا حرية.
بلا شبكات بلا أمل
لم ينسجم زياد مع السوشيال ميديا، وكان أقل الشخصيات العامة حضورًا عبر الفضاء الافتراضي في بلاد الأرز، وليست له حسابات يديرها هو أو غيره وذلك بدفعٍ من طبيعته التي تفضل العزلة والتعبير بالموسيقى أو المسرح بعيدًا عن الإنترنت التي يراها ساحةَ ضجيج ليست لها قدرة على التغيير. مع ذلك كان نجمًا متداولًا على شبكات التواصل بمقاطع كثيرة يتناقلها النشطاء تتضمن أحاديثه وآراءه ومداخلاته واشتباكاته وكلماته المأثورة.
سيطر فقدان الأمل في إصلاح لبنان على روح زياد المتمردة مع تلاشي أي خطوات لتغيير الوضع البائس. وحكى في إحدى حلقات برنامجه الإذاعي العقل زينة بتهكمٍ أنه أبلغ عن مواطن متهم بالتمسك بالأمل، داعيًا إلى عدم ترك هؤلاء الحالمين بيننا.
وفي مرضه الأخير لم يتمسك بأمل الشفاء من تليف الكبد، ورفض الخضوع لجراحة معقدة لزراعة كبد، ملمحًا بأن الوضع العام لا يدعوه لأي أمل، مفضلًا انتظار المصير بدلًا من المقاومة.
خبز أمي
سيطرت فكرة موت الابن قبل أمه على تفكير مبدعين من بينهم زياد، الذي نُقل عنه دون توثيق دقيق، بسخريةٍ لازمته، أنه وعد أمه ألا يموت في حياتها، وهو نقل يتفق مع طبيعته الساخرة والمتمردة، لكن أشهر من وثق هذه الحالة الشاعر الفلسطيني محمود درويش بقصيدته إلى أمي:
أحنُّ إلى خبر أمي
وقهوة أمي
ولمسة أمي
وتكبر فيَّ الطفولة يومًا على صدر يوم
وأعشق عمري لأني إذا مت أخجل من دمع أمي
التراجيديا أن ما خشيه محمود درويش حدث بالفعل، فغيّبه الموت عام 2008 في حياةِ أمه التي شاركت في تشييعه ودفنه، ثم لحقت به بعد أشهر.
الخبر الأقسى على أي أمٍّ هو أن تُسلِّم ولدها، أن تضع يدها على نعشه وهو يدلف إلى القبر والرقاد الأخير .
رحيل زياد موجعٌ ومؤلمٌ للكثيرين في لبنان والعالم، لكن أحدًا لن يضاهي وجع أمه التي لن تكون لديها فرصة لأن تتمتع بحنينه لخبزها وقهوتها ولمستها، ولأنه في سخرية أخيرة ومعتادة منه قد يكون خالف وعدًا لا يملكه.