
مشاهد ورؤى من جنازة زياد
جنازةُ زياد الرحباني، بدايةً من لحظة خروج الجثمان من المستشفى، مهداةٌ إلى صاحبها، إلى زياد نفسه. يقع فيها الموت في مكان احتفالي يتراوح بين الرقص بالتابوت والبكاء والزغاريد والتصفيق، كأنه محمولٌ على الأعناق في نهاية إحدى حفلاته. ثم انزياح غطاء التابوت، ليظهر من زاوية عُليا الجسد المسجى داخله ببذلة سوداء، وربما هي أيضًا لحظة اتصال أخيرة بين الطرفين، الحياة والموت، داخل وخارج التابوت.
لا أحاديث كثيرة عن مرض زياد، وإن عرضًا، بعد وفاته، عن معاناته من تليف الكبد وحاجته إلى زراعة آخر. غطى موته على ماضي مرضه لأنه فجَّر عناوين وأحاسيس أخرى، كان حضورها في وداعه أكثر أهمية، لتثبِّتَ صورته الأخيرة لدى محبيه.
كان ماضيًا في طريقه إلى النهاية بعيدًا عن الناس والإعلام في صمت جلل يحوط به نفسه، خوفًا من تلوث أو مزايدة أو ضعف لا مكان له داخل اختياره، وإن كان حدث، أعتقد أنه سيجد صيغةً قويةً للتعبير عن إحدى النزوات الإنسانية الأخيرة لإنسان مساقٍ إلى الموت.
الموهبة.. العائلة.. الموقف
كان زياد فتى مدللًا ارتكز مشروعه على موهبة مبكرة جدًا يصفونها بالعبقرية، بجانب انتماء يساري بالسليقة، فيصفونه بالشيوعي الأخير، وإن كان المصطلح بلا أهمية الآن إلا أمام التاريخ، أو رثاء لرحلة حياة، بجانب انتماء بالسليقة، أيضًا، لعائلة فنية استثنائية.
لم يستغل زياد أيًّا من هذه الهبات التي منحتها له الحياة، ليغرق في صورة نمطية، وأيضًا لم يقاومها، لأن مقاومتها ربما تحملها بما هو أكثر مما تحتمل. كان يدع صورته حرة.
الثلاثة كانوا يعملون لصالح مشروعه وليس ضده، فلم يكن عليه ذنب يسدده لأحد، ليمرر موهبته أو موقفه السياسي، أو انتماءه لهذه العائلة الفنية. حدث التضافر بين الثلاثة لإنجاح هذا المشروع الفني والإنساني.
هذا الثلاثي الذي عجنه بحياته وبسخريته وبمواقفه الشخصية، ليمنحه الإجابة عما يجب أن يدافع عنه، وليواجه به أي تطرف غير مسؤول، كأنه يصوغ فردانية خاصة، بها الكثير من الدلال النرجسي، الذي عادله بالموهبة الحراقة، والكثير من الالتزام الإنساني، بجانب الموقف الوجودي المتسامي من الحياة ومشاغلها وتصاريفها المربكة.
كان زياد يمثل هذا الاستثنائي العاقل الذي ثبَّت وجوده وسط حالة الاحتراب والانقسام الأهلي في لبنان، بهذه الصفات المتعالية، بصدق، على الانتماءات، وغير القابلة في الدخول في صدام مباشر مع أي منها، فقد كان في النهاية فردًا، نادرًا، ونافرًا، لا يمثل تيارًا، ولا حزبًا، منتميًا لإنسانية كانت تتشكل سماتها مع خطوات رحلته، بكل تناقضاتها، وبكل انتكاسات هذه الفردانية واكتئاباتها. بجانب استمتاعه بلذة موهبته الاستثنائية، تلك الهبة التي تمنح صاحبها، وتحت حمايتها، جرأة الخوض أولًا في نفسه، في جدل ذاتي مستمر، وثانيًا في المحظورات، من حوله، أيًّا كانت.
ورغم كل هذه الحدود المفروضة على الذات، فقد أصبحت ظاهرة زياد الرحباني ممثلة لتيار جمعي، وأكثر من كونها ظاهرةً فرديةً، وأعتقد أن هذا ظهر بوضوح عند وفاته، وسيستمر.
فردانية بلا ضفاف
فردانية زياد صاغت مفهوم الجموع، بالنسبة له. كانت هناك جموع أخرى، غير الدهماء، تملأ هذا التناقض؛ جموع الأصدقاء، والمحبين، والمعجبين، وأي تكتلات إنسانية أو فنية، تنشأ بحثًا عن موقف أو انحياز، وسط فوضى وعشوائية الحياة والفن والسياسة.
جميعها ملأت معنى الجموع في فردانيته، وربما أنقذتها من أن تتحول إلى نرجسية لا تنظر إلا لنفسها فقط، وهو نوع من الانتحار الذاتي، وإنما تمد عينها للخارج.
هذه الروح الحادة، الساخرة، خفيفة الدم، وتلك الابتسامة الرائقة، هي نقطة التقاء مهمة، أو محطة استراحة، بين جذريته والعالم من حوله، مكان لقاء بين الداخل والخارج. صفات، منها ما أتاه بالسليقة، ومنها ما رباه في نفسه، وهو الأسلوب الذي كان يتبناه في ممارساته وألحانه وأشعاره، وربما هو أيضًا مادة وجوهر هذه الفردانية التي بلا ضفاف، التي كان يواجه بها الحياة.
كان يرتجل مواقفه، لأنه كان مطالبًا من الآخرين بإثبات موقف وإبداء رأي سياسي في زمن موت السياسة بجانب موت المجتمع بمفهوم الجماعة المتجانسة، لذا كانت المساحة، في العموم، متقلصة لإبداع فردانية متسامية ونقية، ولكن رغم هذا نجح في أن ينقذ جذريته من الابتذال، والتنميط.
موت وحياة طازجان
نحن الجموع بالنسبة لزياد الذي نالت منا وفاته، ورغم عمره السبعيني، ولكن هناك طزاجة فاجعة ظهرت وغلفت موته، مثل طزاجة موت أحد الشباب، موت ينفض التراب عن الحياة نفسها. لم ندرك من قبل أن هذه الموهبة، وهذه السخرية المرة، هما من أهم عناصر طزاجة حياته وموته، وستعيشان بعد موت صاحبهما، ولكن مع زياد أُضيف لهما هذا السائل السحري؛ الضمير الجمعي الذي استيقظ على فقدِ أحد أهم موهوبيه وساخريه وثواره.
تتصاعد وتيرة تأثير موته، يومًا بعد يوم، حتى وصل المشهد إلى الذروة ولا يزال. كلنا نبكي أمام التليفزيون بسبب هذه الخسارة الشخصية، ونعيد تقييم تاريخ الرجل، من ناحيتنا، باستقامة نفسية ليس فيها مكان لأي عاطفة شفقة، أو تعاطف زائد.
ليس أي موت يفتح باب الضمير الجمعي، الذي أصبح زياد جزءًا منه، فهو لا يمكن أن يُزوّر انتخابيًا؛ يجب أن يكون موتًا ذا دلالة يتقاطع عاطفيًا مع هذه الذاكرة الجمعية، وأن يكون ممثلًا لتاريخ، ربما لن يكون حاضرًا في المستقبل، لذا فهذا الموت رثاء لهذا التاريخ والتقرير النهائي له.
لملم موت زياد شظايا هذه الأمة المنكوبة، التي كان يسبقها بالموهبة، والسخرية، وبفردانية بلا ضفاف متعددة الرؤوس، عكست قوة حضوره داخل هذه الأمة. كتب بلال خبيز الكاتب والشاعر اللبناني في تدوينة له عن زياد "كان بلا شك أكبر من البلد ومنا".
كتابة بالسليقة
أيقظ مشهد موت زياد أنواعًا مندثرةً من المواقف والأفكار والمراجعات، والأهم أنه لم يُوقظ هذا الآخر الضد الذي يتشفى عادة في موت الرموز. ليؤرخ نقاء مشهد موته ورمزيته لهذا العصر المتسم بالندرة والاستثناء، الذي سنسعى جميعًا لإيجاد مكان لنا لإثبات حضورنا ولو بالكتابة أو وضع علامة ما، حتى ولو مررنا بالشوارع الخلفية، عبر شاشات بعيدة.
هذا النزق النهائي وغير المحدود في قول الحقيقة، وسيطرتها عليه، وتسخيرها لمواهبه، وتحويلها شعرًا، فيغني بكل وضوح أنا مش كافر بس الجوع كافر أو بلا ولا شي .. بحبك. هل هناك بساطة أو حقيقة مغدورة داخل هوامش حياة مجتمعات تم إخراجها للسطح؛ بهذا النقاء، والتلقائية؟
إنها كتابة السليقة، مثل كتابة سيد درويش وتجربته، وأشعار الفاجومي، جميعم يسيطر عليهم قول الحقيقة، المتقافزة على سطح الحياة وداخلها، فيجدون صيغة لاستمرارها، والعبور بها من زمن لآخر، لأنها بسيطة ولا وجه آخر لها أو قناع، هي نفسها الوجه والقناع.
ربما جنازة زياد لا تقارن في ضخامتها بجنازات أخرى لمغنين رموز كأم كلثوم وعبد الحليم، ولكن أيضًا بالنسبة للبنان وبالنسبة لسيطرة العالم الافتراضي على الحزن، وبالنسبة لامتداد الجنازة وتشعبها وتعدد وسائلها خارج الواقع وداخل الميديا، وبالنسبة للأصداء الواقعية غير المبالغ فيها، التي طرحها موته؛ تساوت رمزيًا مع جنازات الكبار الذين ماتوا وما زالت فكرة الجموع بعد طازجة.
يردُّنا موت زياد لزمن المعايير، هو موت بوجهين، رغم عدميته الظاهرة، لكنها عدمية تهزنا وتحيي فينا أملَ أن نحاول، لا أن نتمثل نموذجه. أعاد موته فِلاحة تربة الأمل، وأن نعيد تنسم هذه الزهور الإنسانية في حديقة أنفسنا. تفتح حياة/موت زياد الباب لزمن تصنع فيه نفسك بنفسك يدويًّا وعلى عينك.
الشيوعي الأخير
ربما كان زياد الشيوعي الأخير كما يحلو لكثيرين تسميته، منهم سعدي يوسف. بات مصطلح الشيوعي الأخير الأكثر انتشارًا، فالأرض تنبئ بعالم جديد، بعدالة في توزيع الثروة، فطرحت هذا الشيوعي وهذا الأخير، النبي بشكل ما.
موت زياد يكشف أن الحياة ممكنة ليس حالة جماعية متوسعة، ولكن نموذج فردي، كحلقات جماعية صغيرة، وحميمة، كفرقة موسيقية تغني في بار وتربح ما يكفي استمرارها.
أيضًا يُثبِت موته هشاشةً وخروقًا داخل هذا الحلم الرأسمالي الذي يولد أشكالًا من المقاومة العشوائية لن تهدأ مهما تطاول هذا الحائط المعتم ولم يعد يمر منه الضوء، أو ازداد الإمعان في الاغتراب، كما في قصيدة معنى الحياة لـ جورج حنين:
"في اللحظة التي يوشك المرء فيها أن يباغت شيئًا ما أن يقترب من الإجابات الشفافة العظيمة، وأن يتمكن من إبطال الأصوات المتعادلة في نفسه، أن ينتصر على قانون ثقل الروح، أن يمعن في الاغتراب، أن يكبر من جميع الوجوه، أن يراوغ القدر، في اللحظة التي يوشك فيها أن يكون ذلك كله قريب الحدوث، يصطدم المرء بعتامة حائط".
لقد تأخر الزمن ليطرح هؤلاء الأخيرون رؤاهم، ويكبر الطابور والمسيرة فأهلًا بالجميع، الذين يعطلون ظهور هذا العالم الجديد، كونهم "يتشعبطون" في ذيل العالم القديم، ويلقبون بالأخير.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.