
زياد الرحباني الذي جلس على الزمن!
آه لو كان الكلام كالخبز يُشرى
فلا يستطيع أحد أن يتكلم
إلا إذا اشترى كلامًا(*)
الكلام عن الموسيقى أصعب استخدام للغة. وصف الشعر أو الأدب أو السينما ليس سهلًا؛ ولكن من المستحيل وصف الموسيقى، التي تبدو وكأنها ظاهرة تعود إلى المرحلة الأولى من نمو الإنسان، منذ أن يتكوَّن جنينًا؛ حين يبدأ في الاستماع إلى رتمِ نبض أمه مع الأصوات القادمة من الخارج، وحتى الشهور الأولى من عمره، قبل دخوله في مرحلة اللغة، الرمزية، حسب جاك لاكان.
أتخيل أن الناس في الجنة سيتحدثون بالموسيقى. بالتأكيد، فالكلام لن يكون له معنى، ولا التصوير أو الرسم، ولن يحتاج المرء إلى تأويل شيء أو محاولة فهمه، أو البحث عن الكلمات المناسبة لوصفه. كل شيء سيكون واضحًا ونقيًا، ولن يكون أفضل من الموسيقى للتعبير عن أي شعور أو فكرة.
جاء زياد الرحباني، نطفةً ثم جنينًا ثم طفلًا، في بحر من الموسيقى. أتخيله أحيانًا مثل شخصية 1900 في فيلم جوزيبي تورناتوري البديع أسطورة 1900؛ ذلك الطفل الذي يولد فوق بيانو على متن سفينة وحين يجرب أن يهبط إلى البر يُحبط، ويعود مرة أخرى إلى البحر. مُدهشٌ الشبه بين زياد وتيم روث، بطل الفيلم، حين تراه مُنكبًّا على البيانو، مستغرقًا في العزف.
في هذا الوضع الجنيني نوع من العودة الرمزية إلى البحر/الرحم/الأم، أو بالأحرى إعلان رفض للخروج إلى العالم.
لعبة الرحيل والعودة
أمي لماذا أرحل إلى المدرسة؟
أتُحبِّين هذا؟
وتقول:
أشتاق إليك في نهاري.
وأقول لأمي:
ما دمت أنا لا أحب أن أرحل
وأنت لا تحبين
فلماذا أرحل؟
في عمر الثانية عشر كتب زياد الرحباني بعض قصائد الطفولة البسيطة، من حسن الحظ أن أباه عاصي انتبه لها. وللتفاخر بنبوغ ابنه البكر، جمعها وأصدرها في ديوان صغير هو صديقي الله، وزّعه على الأصدقاء والأقارب.
في هذه القصائد نعثر على الكثير من مفاتيح شخصية زياد وأسرار خياله الإبداعي. العديد منها عن علاقته بأمه؛ مرةً وهي تحكي له قصص قبل النوم، ومرةً وهي تسأل رأيه في فساتينها، ومرةً وهو يصف حزنه ووحدته حين يبتعد عنها ليذهب إلى المدرسة.
في العديد من حوارته، بصراحته نقية القلب، يتحدث عن علاقته المعقدة بأبويه. عن تأثير الخلافات والشجارات المتكررة بينهما على نفسيته، ومحاولاته اليائسة للاصلاح بينهما. عن آراء أبيه الرجعية في المرأة، واحتجاجه عليها، وعن تقديسه للنساء اللاتي ارتبط بهن، وخيانتهن.
في أغانيه التي كتبها على ألسنة هؤلاء النساء، ومنهن أمه، نوعٌ من التماهي الأوديبي المزمن. فشل زياد المتكرر في علاقاته الزوجية والعاطفية هو نوع من إعادة سيناريو الانفصال عن الأم، إحساسه بأنها نبذته حين سلمته إلى العالم، والمدرسة، والأب.
https://youtu.be/X5WTBhg8bb0?si=9XhRLg-qSuRDF7wYعقدة الابن البكر
اخترت اسمي مغيرًا عن كل الأسماء
حتى إذا ندهتني
صرخت وحدي: نعم
وما ظننت النداء لغيري
ارتباط زياد بأمه وصوتها أبدي. لم يجد بديلًا لها في حضن امرأة أخرى، أو في صوت مطربة أخرى. ظلَّ ينفصل عنها ثم يعود إليها بنمط متكرر/pattern، وكأنه يستعيد دومًا إحساس الطفل العائد من المدرسة للقاء أمه. وربما تكون اللحظة القاضية في حياة زياد هي التي أدرك فيها أن العلاقة العائلية والفنية التي كانت تجمعه بفيروز بعد انفصالهما الأخير، ورغم العودة، لن تعود كما كانت.
من ناحية ثانية، ارتبط زياد الرحباني بأبيه ارتباط الابن الذكر البكر في مجتمع عربي قبلي شرقي يُعلي شأن الانتساب إلى الأب فوق أي شيء.
في حواراته التي تحدث فيها عن علاقته المعقدة بأبيه، حكى زياد أيضًا عن الموهبة التي ورثها عنه واكتسبها من التتلمذ على يديه. تحدث عن تركه للبيت وهو في الرابعة عشر للاستقلال عن الرحابنة، وأيضًا عن حكمة أبيه وآرائه التي اكتشف صحتها لاحقًا، باستثناء رأيه في المرأة، كما يقول. في نهاية المطاف لا يستطيع الابن التخلص من قوانين الوراثة.
في كتاب "شخصية المولود البكر: نشأةً وبلوغًا" يحلل كيفن ليمان شخصية الابن البكر، المتميز، المختلف، وكأنه يصف شخصية زياد الرحباني!
يتحدث عن سعيه للكمال، هوسه بالإتقان، مغالاته في النقد، وعدم شعوره بالرضا عن النفس. عن التخطيط لحياته، تعرّضه الدائم للضغط. عن غياب حيز المرونة في حياته، ثقافته، قدرته على حل المشاكل، المبالغة في التفكير الجاد. عن شخصيته القيادية، عدوانيته النسبية، واستعداده لارتكاب الحماقات.
رزح زياد الرحباني تحت عبء الابن الأكبر، الذي يشعر بالمسؤولية عن أسرته، ومجتمعه، ووطنه. وتجلى ذلك في تمسكه بالبقاء، ونزعته الملحة للتغيير، وراديكاليته، ومثاليته المطلقة، وتقديسه للإتقان في العمل، وأيضًا في وقوعه فريسة وضحية للخداع والغدر، وفي غضبه وصراحته الجارحة.
في فيلم Little Buddha/بوذا الصغير (1993) للمخرج بيرناردو بيرتولوتشي، يُجسّد كيانو ريفز، في واحد من أوائل أدواره، الأمير سيدهارتا، الذي عاش حياته كلها في قصر منيف لا يعرف شيئًا عن العالم، لكنه تسلل ذات ليلة خارجًا بمفرده، ليفزعه قبح ما رآه من فقر ومرض وبؤس، فيبدأ تحت وقع الصدمة رحلةً روحيةً طويلةً تنتهي بتحوله إلى الإله بوذا.
فيما يروي زياد كيف هزّه من الأعماق ذلك الطفل الفقير الذي كان يقف حافيًا بائسًا على الطريق، يطرق زجاج السيارة الخاصة التي كانت توصله إلى المدرسة وهو في التاسعة من العمر. كيف جعله ذلك يتساءل عن العدالة في فترة مبكرة من طفولته. هذه التساؤلات التي انتهت بأن أصبح شيوعيًا، وتجلَّت في العديد من أعماله.
لا أعرف هل قرأ زياد الرحباني قصة سيدهارتا، بوذا، أم لا. ولكن استوقفتني إجابته عندما سُئل عن البلد الذي يتمنى أن يعيش فيه: الصين أو اليابان!
https://youtu.be/gZF_t13rszE?si=mhyM1DMsFScfhZWfL’enfant terrible
لا أريد أن أصلي إلا ما أفهمه
لا أريد أن أصلي
أريد أن أصرخ
لا يمكن فصل شخصية الابن البكر، ذو النزعة الأوديبية، عن شخصية الابن المزعج/L’enfant terrible، حسب المصطلح الفرنسي المستخدم لوصف الأطفال الذين يتِّسمون بالصراحة وكراهية مظاهر الكذب والزيف والنفاق، والاستمتاع بصدم الأهل والمعارف بهذه الصراحة التي تهدد "السلم الأسري والاجتماعي" غالبًا.
هذا الابن المزعج نجده مثلًا في شخصية هاملت، التي يعتقد فرويد أنها الامتداد الطبيعي لشخصية أوديب نفسيًا ودراميًا وحضاريًا. ذلك أن الطفل الأوديبي، في لحظة ما، يبدأ في تحرير مشاعره وإسقاطها على العالم الخارجي، فيُحوِّل كراهيته للأب إلى العم أو مؤسسات السلطة والسياسيين الفاسدين ومظاهر الاستبداد بأشكالها.
ولعلنا نجد هنا ذلك الشبه الذي يجمع زياد الرحباني بيوسف شاهين، ويمكن أن يمتد إلى آخرين كُثُر، في الحرص على تكريس العمل من أجل الصراحة الصادمة وهجاء مؤسسات السلطة والفساد بأنواعها. "هناك شيء عفن في الدنمارك" كما تقول العبارة الأولى في مسرحية "هاملت" لشكسبير. وهي عبارة تتردد، بالنسبة للبنان، في كل أعمال زياد الرحباني.
الصدق مع الذات والله والآخرين هو مفتاح فهم شخصية زياد الرحباني. هو ما يُفسِّر نفوره الشديد من الادعاء والتكلف والكلمات الجوفاء من المعنى. ويُفسِّر أيضًا بحثه عن أبسط الكلمات وأقصر الطرق للتعبير عن المعنى. وكذلك خلو أعماله الموسيقية، على كثرة ما تحفل به من توزيعات، من الحشو بالعُرَب والحُلي الصوتية والراش، أو من المبالغات والميلودراما، أو الاستخدام المفرط لبعض الآلات الموسيقية "العاطفية" مثل النايات والوتريات، وتفضيله الواضح للبيانو والبُزُق.
هذا الصدق هو ما جعل زيادَ، من بين عشرات الفنانين حولنا، أكثر من تتسق أفكاره وخطابه وأعماله مع نمط حياته وسلوكياته اليومية.
الصمت.. والصوت.. والوقت
تعبت فجلست
ومرَّت بي فتاة وقالت:
ما بِك تجلس على الوقت؟!
هذه الصورة الشعرية العبقرية، التي يصعب أن نستوعب كيف خطرت ببال صبي قبل أن يتجاوز الثالثة عشر، تُلخِّص نبوغ زياد الرحباني الموسيقي المتمثل في إدراكه الاستثنائي للزمن وعلاقته بالموسيقى.
كل الفنون تقريبًا توجد في المكان: الكتاب، اللوحة، التمثال. وبعض الفنون تجمع المكان بالزمان مثل الشِعر والسينما والرقص. الموسيقى، وحدها، المُشيّدة بالكامل في الزمن. هي، وحدها، من بين كل الفنون، التي تحاول الامساك بالزمن.
كل شيء بخصوص الموسيقى يتعلق بالوقت؛ الصوت، والصمت. تقسيم الزمن الفاصل بينهما هو ما يصنع الموسيقى. وولع زياد في التلاعب بهذا الزمن ملحوظ في أعماله.
بشعور دقيق ومُلِحٌّ بالإيقاع؛ يُفجّر زياد الزمن الفاصل بين الصوت والصمت، كما تنفجر الذرة فتتحول إلى طاقة ومادة هائلة. بعض المقطوعات لا تتعدى بضعة "موازير" أو "نوتات" أو "أصوات" معدودة مثل وقمح، وبعضها لا تتعدى مقطعين أو ثلاثة مثل ميس الريم وأبو علي. ولكن التوزيع يحولها إلى بناء وصرح عملاق، باللعب بالوقت والآلات الموسيقية المختلفة.
تتجسد موهبة زياد الرحباني الحقيقية في التوزيع/orchestration أكثر من التلحين/composing. بالطبع ألحانه رائعة، ولكن التوزيع هو ملعبه ولعبته المفضلة. ويعكس هذا الاهتمام بالتوزيع ولعه بالزمن، بالوقت، بتلك العلاقة السرية الميتافيزيقية بين الصمت والصوت.
في نهاية المطاف، على الجانب الآخر من الكون، في الجنة، أو نيرفانا بوذا، سيلتقي الصمت والصوت معًا، ويتوقف الوقت، ليجلس عليه الصبي الصغير، سابحًا في بحر الموسيقى الأسمى.
(*)الفواصل الشعرية التي تتخلل هذا المقال مقتبسة من ديوان صديقي الله لزياد الرحباني (1971)