
نساء "أبو زعبل".. عن فردوس بهنسي وليلى سويف
في اليوم الـ158 من إضراب الدكتورة ليلى سويف، وفي بلدة صغيرة في ولاية ميسوري الأمريكية، أُتيحت لي فرصة مشاهدة فيلم "أبو زعبل 89" لمخرجه وبطله بسام مرتضى. عُرض الفيلم لأول مرة في مهرجان القاهرة السينمائي في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وحصد 3 جوائز من بينها جائزة أفضل فيلم وثائقي.
تعرَّفت على موضوع الفيلم من عنوانه ووجدت في نجاحه مفاجأة نادرة بتسلل فيلم مسّيس إلى الصفوف الأمامية. يركز مرتضى عدسة فيلمه على الماضي، على تجربة والده السجين السياسي خلال فترتي حكم السادات ومبارك. إلا أن التاريخ، الذي لا يكرر نفسه بل يتمدد في مكانه، يلفت انتباهنا إلى اللحظة الراهنة حيث يقبع الآلاف من السجناء السياسيين داخل السجون، وفق تقديرات منظمات حقوقية.
التمرد على كليشيهات النضال
تبدأ القصة بحوارات بين بسّام ووالديه محاولا التقاط خيط الحكاية، من الطفولة أو من الاعتقال الأخير الذي كان الأطول في حياة أبيه محمود مرتضى. ندرك مع حركة السرد أن الفيلم مشغول بتأثير عنف الدولة ومؤسساتها الأمنية على الفرد وأسرته، لتلعب هذه السردية دورًا أكبر في التعبير عن التاريخ النضالي في مصر بين لحظتين، أو جيلين ثوريين.
تستخدم المؤسسات الأمنية أفراد الأسرة أسلحةً حادةً ضد بعضهم البعض
يسعى المخرج لتفادي فخ الرواية الكبرى، لنلاحظ مثلًا كيف يسّرع شريط الزمن بين نقطتي الاعتقال الأولى والأخيرة من ماضي أبيه. نفهم أنه غير مشغول باسترجاع تفاصيل تلك الفترة بل بحياتها المعاشة واللاحقة، ويركز جهوده في نبش ذكرياتها وتأثيراتها عليه وعلى والديه.
يتمرد المخرج على إرث متراكم من الكليشيهات النضالية التي تمجد أو تهمش تجربة الحبس، التي لم تعد تفصيلة عابرة في التجربة السياسية الحديثة بل جزء أساسي منها. تولدت هذه الكليشيهات ضمن مزيج من الأفكار العربية والإسلامية عن الشهادة والبطولة، وأخرى يسارية عن النضال والتحرر؛ بمعنى أنها ابنة المخيلة السياسية الذكورية المهيمنة.
ذكورية المؤسسات الأمنية
يحاول المخرج تحويل الضوء إلى التفاصيل وقوتها الكامنة في طرح أسئلة معقدة عن العمل السياسي والتنظيم والتضامن والحلم والأمل والخيانة والخيبة والهزيمة والهرب، وكيف تتقاطع مع هشاشة الإنسان وضعفه وأنانيته وشجاعته وقوته وتجارب الأمومة والتربية والأسرة والذكورة.
على الرغم من الحضور المختصر لوالدة بسّام التي تُوفيت خلال تصوير الفيلم، فإن شخصية المناضلة والباحثة النسوية فردوس بهنسي تفرض حضورها عليه. تنطلق الحكاية معها من مداهمة بيتها في 1989 لاعتقال زوجها محمود مرتضى.
تهرع فردوس إلى غرفة ابنها الذي يعترف في الفيلم أنه لا يتذكر إن كان نائمًا بالفعل أم أنه تظاهر بالنوم. كثيرًا ما تمتزج ذاكرة الابن بذاكرة أمه، حتى أحلامهما تختلط وتتداخل خاصة تجاه الأب كثير الغياب. وبينما يغط الأب في النوم، كانت فردوس في مواجهة مع رجال الأمن لتحرس ابنها منهم. هددها الضابط قائلًا إن بإمكانه حبسها هي أيضًا، فملفها عندهم كاملًا وجاهزًا، إلا أنه سيكتفي باقتياد زوجها إلى المعتقل.
في تلك الجملة، وجدت تمثيلًا بليغًا عن الطبيعة الذكورية للمؤسسات الأمنية، كيف توّزع الأدوار بين الرجال والنساء، موكلة للمرأة دور حبيسة العالم، في تلك المنطقية البرزخية بين الحياة والموت، وبين الحرية والاعتقال. في هذه التوزيعة الثلاثية، تقوم المؤسسات الأمنية باستخدام أفراد الأسرة أسلحةً حادةً ضد بعضهم البعض.
يقبع الأب في السجن مسلوبًا من دوره الراعي، وتجلس الأم خارج السجن بمعاناة لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة، بينما يحاول الطفل أن يشغل فراغ الغياب ويتشارك المعاناة ويلعب دور الطفل السعيد في آن واحد. يربي كل منهم أفكاره وأحلامه وتخيلاته ومفاهيمه بصمت عن حياة معلقة وكيف ستبدو بعد استئنافها.
تبرز فردوس في التفاصيل وفي إجاباتها الظريفة التي تطلقها بصوت ضعيف ومبحوح. تشرح لبسّام أنها اختارت مصارحته بحقيقة حبس والده واصطحابه في الزيارة لأن ذلك أفضل حل لمواجهة أسئلته كطفل. قررت الأم، وبتعبير سياسي، أن تشرك ابنها في الواقع الذي لا يمكنه الهرب منه، لتتمرد على الطبيعة السلبية المناطة للأمومة كخط دفاع لا هجوم.
إعادة توجيه الوصم
تعرف فردوس المناضلة أن تجربة الحبس مرتبطة بوصمة اجتماعية، لذا قررت عبر اختيار المواجهة ألا تدع هذه الوصمة تأكل روح ابنها. أطلق اختيار المصارحة والمشاركة مسارًا طبيعيًا للابن لمواجهة الماضي والمستقبل في ظل نظام شمولي قمعي.
وكأن فردوس اختارت الشجاعة قرارًا مطلقًا تتحرك على أثره عبر الحكاية. نقتفي أصداء هذا القرار في مراحل مختلفة من حياتها وحياة ابنها، ليصل بها أحيانًا إلى حالة انتحارية مثل رفضها الخروج من بيتها بينما زلزال 1992 يهز المدينة!
طوال أحداث الفيلم، لم تجمع لقطة واحدة والديّ المخرج المنفصلين، فالفيلم يفرد أحداثه عبر خطين حواريين بينه وبين والده في شقة الأب، وبينه وبين والدته في شقتها. قد يكون اختيار المكان طبيعيًا وعمليًا إلا أنه يبعث قوة لقصة تفكك أسرة صغيرة.
تنبش فردوس الماضي بلا تردد، بل إنها على الأرجح ناقشت وفككت هذا الماضي كثيرًا على مر السنين حتى عرفت خُلاصته. تتحدث عن زيارات السجن وشرائط الكاسيت التي تبادلتها وابنها مع زوجها وعن توقعاتها بأن علاقتها وزوجها ستكون أقوى بعد السجن.
الأيديولوجيات الذكورية للدولة وللثوار فرضت ممارسات ضيقة لمعاني الصمود والصراع والهزيمة
يعود الأب الضال إلى أسرته رجلًا معطوبًا بحاجة مستمرة إلى الهروب. يقضى أغلب وقت الفيلم يحزم حقائبه لينتقل للمرة السادسة إلى بيت جديد، بينما تصر فردوس على العيش في الشقة ذاتها. عاد محمود من السجن ملوثًا بحاجة ماسة للبدايات الجديدة وكأن الماضي لا يقف له بالمرصاد عند الباب الجديد.
وفي منتصف الفيلم حين تموت فردوس، يعلن بسّام في جملة عابرة أن التخلي عن غضب أمه تجاه أبيه بمثابة خيانة. يُعشمنا بتحول ما في مسار القصة، بأنه سيستعير القليل من روح أمه لمواجهة الأب.
لم أُطالب، كمشاهد أعزل، شخصيات الفيلم بتقديم علاج أو حل سحري لما ارتكبته الدولة في حقهم. ولكن بحكم الانشغال الواضح للفيلم بتجربة السجن وأثرها على الأسرة، لم يبدو المخرج أو والده مستعدين للخوض في هذه الحفرة العميقة، على عكس فردوس.
تستمر دورة الحكاية بعد رحيل فردوس، حيث الأب والابن يجلسان متجاورين على الكنبة، يتحدثان بينما ينظر كل منهما بعيدًا متفاديًا نظرة الآخر. يبدو الابن تائهًا أمام التركة الملقاة عليه، وهي تركة مشتركة بين جيل تربى في نوستالجيا وانكسارات الهزيمة وآخر جديد عليها. ترسم فردوس خطًا أفقيًا يقطع جسد هذه التركة، خط النساء المناضلات وأدوارهن المتعددة كحبيسات منسيات، أمهات وآباء، ناشطات مهمشات، وحبيبات مهجورات.
يفضح هذا الخط نقطة مشتركة بين السرديات الكبرى والصغرى، الدولة التي توزع أدوار الحبس على أفراد الأسرة، الابن الذي يخشى المواجهة، والأب الذي يلجأ لعبارات جاهزة عند الإشارة إلى شبح فردوس. يعيد الفيلم تدوير استحقاقية الرجال في سرد تجربة الحبس عبر تركيزه على شخصية الأب وأصدقائه وجيله.
تبقى الكثير من الأسئلة معلقة حول شخصية الأب الذي لا يملك من الإجابات إلا ما يخص تجربة السجن داخل الأسوار. يسمح السجين السابق لنفسه بالهشاشة مرة واحدة عندما وبخ نفسه لأنه لم يتعاطف مع سجين آخر انهار في وجه السجانين. نفهم من محمود مرتضى أن الأيديولوجيات الذكورية للدولة وللثوار فرضت ممارسات ضيقة لمعاني الصمود والصراع والهزيمة.
عالم بلا سجون
في 2012، وفي الفترة القصيرة التي كان فيها علاء عبد الفتاح حرًا، اعترضتني لأول مرة فكرة إلغاء السجون. كتب علاء تغريدة ما بهذا المعنى، وجدت نفسي حائرة أمامها. لم يسبق لي تخيل عالم بلا سجون، وكأن السجن جزء مُسلّم به من حياة البشرية. قدم علاء الفكرة بلا مقدمات أو حتى استطرادات، مثل ضوء يتوهج في نهاية نفق.
لم أعرف وقتها كيف عليّ التعاطي مع هذه الفكرة لكنها بقيت على رف ما في ذاكرتي لتظهر بعد سنوات مع مظاهرات السود في أمريكا التي طالبت بإلغاء منظومة السجن وجهاز الشرطة عقب مقتل جورج فلويد. لم يكن مقترح علاء الأول من نوعه، لكنه قد يكون أول من نطق به بالعربية. مر أكثر من عقد من الزمن على علاء في السجن، ليبدو مقترحه على هذا البعد وكأنه محاولة من علاء الماضي لإنقاذ علاء المستقبل.
أكتب عن أبو زعبل 89 وأنا أفكر بفردوس بهنسي وليلى سويف والألوف المؤلفة من النساء اللواتي حاربن من أجل الحريات المسلوبة لرجالهن أو أبنائهن وبناتهن، ومن أجل حرياتهن المؤجلة في آن واحدٍ. عن ليلى سويف التي تحاول أن تخلق الحياة من قلب الموت، أن تنتزع حرية ابنها بموتها البطيء بمساندة من ابنتيها، أن تهدم الجدران الوهمية بين السجن الاسمنتي والسجن المطلق.
تحاول ليلى، كما حاولت فردوس من قبل، أن تقلب وصمة الحبس ضد السجان، تعلمنا أنه على الشارع الالتفاف حول سجنائه، وأن يعي حقيقة وطبيعة الحرية باعتبارها حالة جماعية لا تتجزأ، وأن نرفض أي هرمية أو تجزئة لتجربة الحبس محصورة في بُعدها المباشر.
تذكرنا ليلى بتلك الليالي المقمرة لثورة يناير حين بدت لنا الشجاعة ممارسة سهلة وطبيعية لا خلاف عليها. لم تتراجع ليلى عن خيار المقاومة، لا في وقت الثورة ولا في زمن الثورة المضادة. تحوي حياتها طيفًا لا متناهيًا من الرفض، من الحبس خلف القضبان إلى النوم على ناصية أمام بوابة السجن بانتظار تمرير هداياها إلى علاء. ومع كل كتاب ورسالة تأتي بها ليلى، يستمر علاء في تخيل وتشييد عالم جديد لنا بلا سجون.