منشور
الأربعاء 12 يوليو 2023
- آخر تحديث
الخميس 13 يوليو 2023
بعد عشرة أيام فقط من قتل مخبري شرطة لخالد سعيد (28 سنة) ضربًا في يونيو/حزيران 2010، طالب محاموه من النيابة العامة بحبس ومحاكمة الشرطييّن، وتغريم وزارة الداخلية بتعويض مدني مؤقت لأسرة الضحية قدره خمسمئة ألف جنيه. كان السعر الرسمي وقتها للدولار الأمريكي نحو خمسة جنيهات ونصف، أي أن مبلغ التعويض المبدئي المطلوب كان يساوي نحو تسعين ألف دولار.
يوم الاثنين الماضي، وبعد مرور 13 سنة على مقتل خالد وأول طلب تعويض مدني، قضت محكمة استئناف القاهرة بتعويض، لأخيه وأخته المتبقين كوارثَين، بمبلغ خمسمئة ألف جنيه مصري، بدلًا من التعويض الذي طلبه المدعون بقيمة مليون جنيه. أي أن المبلغ إذا تم تحويله إلى الدولار ليصل شقيقي سعيد في أمريكا التي لجأوا للعيش بها، يصل إلى نحو 16 ألف دولار، بافتراض أن أي بنك في مصر سيقبل مبررًا لتحويل المبلغ بهذا السعر الرسمي.
من يدفع التعويض؟
المحكمة وافقت على طلب وزارة الداخلية بخصم هذا التعويض المالي من مستحقات موظفيّها المدانين بالقتل، أمين الشرطة والرقيب، المحكوم عليهما بالسجن عشر سنوات. أي أن الوزارة لا تتحمل المسؤولية المدنية في التعويض عن أخطاء موظفيها وتجاوزاتهما، رغم أنها وقفت معهما لسنوات وتم تلفيق اتهامات ضد الضحية، ليبدو صاحب سوابق ومتهرب من التجنيد كمبرر لملاحقته، ثم ادعاء أن الطب الشرعي وجد سبب موته ليس تحطيم رأسه على طاولة المقهى الرخامية أو الباب الحديدي للبناية المجاورة، ولكن لاختناقه عند محاولته بلع لفافة بانجو ادعوا أنها كانت بحوزته، حين قبض عليه المخبران!
تلك الادعاءات والأدلة الملفقة ومحاضر التشريح الأولية لم يقم بها المخبران، بل قيادات أعلى تحت الوزير حبيب العادلي آنذاك. وثبت بعد إعادة التشريح وبتحقيق مستقل وبأحكام القضاء أنه قُتل وتحطمت جمجمته وفكه بضرب أدى إلى الموت، على أقل تقدير، وليس اختناقًا لابتلاع سيجارة اختفت ولم يتم تحريزها أو تقديمها للنيابة.
المرة الوحيدة التي دفعت فيها الداخلية تعويضًا ماليًا أكبر، وفي قضية تعذيب، كانت بمبلغ مليون جنيه بقرار محكمة استئناف عام 2012 لصالح الممثلة حبيبة (سالم)، التي تم القبض عليها في ديسمبر/كانون الأول 1998 بتهمة قتل زوجها (عرفيًا)، وتم ضربها وتعذيبها وتهديدها بالاغتصاب، لتضطر للاعتراف على نفسها، وتقضي خمس سنوات في السجن من حكم قضائي بعشر سنوات، ثم ظهر الجناة الحقيقيون، لتحصل على البراءة وتُقاضي الداخلية، والضابط رئيس المباحث، الذي أشرف على تعذيبها وإجبارها على التوقيع باعتراف على جريمة لم ترتكبها.
حكمت محكمة جنايات فدرالية على الشرطي ديريك تشوفن الذي مات جورج تحت قدمه بالسجن 21 سنة ونصف
حُكم على الضابط بالحبس ستة أشهر فقط، مع وقف التنفيذ، وإيقافه لسنة عن العمل. وخلافًا للمخبرين اللذين قتلا خالد سعيد، ورفضت الوزارة دفع التعويض إلا من مستحقاتهما، تحملت الوزارة في حالة الضابط دفع التعويض من ميزانيتها.
الشرطة الأمريكية وجورج فلويد
منذ ثلاث سنوات، يوم الخامس والعشرين من مايو/أيار 2020، جاءت نجدة الشرطة بمدينة منيابوليس في ولاية منيسوتا بسرعة للقبض على رجل من الأمريكيين السود، بعد بلاغ من متجر بأنه دفع بورقة بنكنوت مزيفة فئة 20 دولارًا.
هاجم الشرطيون الأربعة الرجل واسمه جورج فلويد (46 سنة) ودفعه أحدهم أرضًا، وهو الشرطي الأبيض ديريك تشوفين، وجثم على ظهر جورج لشل حركته ضاغطًا بركبته على رقبة الرجل، لدقائق كان يصرخ وقتها "عاوز أتنفس" دون جدوى، حتى غاب عن الوعي. وكانت صرخة فلويد أشبه بصرخة خالد سعيد "أنا هموت" الذي لم يتوقف دق رأسه وضربه حتى مات!
بينما استغرق إظهار الحقيقة وإيقاف الجناة في حادث الإسكندرية قرابة عام، وحتى قيام ثورة يناير، لكن في مدينة منيابوليس كان الخلاف بين الرواية الرسمية والفعلية ما إذا كان ضغط الشرطي على رقبة جورج سبع دقائق أم ثماني دقائق وربع الدقيقة، كما تأكدت الصحافة في اليوم التالي، وأُوقف الشرطيون الأربعة، ثم حُبس الشرطي الأبيض تشوفين، ومع ذلك اندلعت المظاهرات في اليوم التالي بالآلاف في أغلب المدن الأمريكية، ولأسابيع.
وخلافًا لبعض المسيرات والمظاهرات السلمية في الإسكندرية وقت خالد سعيد، واحتجاجات أحزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني، التي لم تتسم بأي عنف حتى يوم 28 يناير/كانون الثاني 2011، فإن مظاهرات أمريكا تحول كثير منها لأعمال شغب وتحطيم وإحراق، حتى في العاصمة واشنطن، وحول البيت الأبيض، مما أدى لاستدعاء عشرات الآلاف من الحرس الوطني لإعادة الهدوء لشوارع الولايات المتحدة.
الحكم والتعويض
في السنة التالية مباشرة، وبعد أن فُصل الشرطيون الأربعة، حكمت محكمة جنايات فدرالية على الشرطي ديريك تشوفن، الذي مات جورج تحت قدمه، بالسجن 21 سنة ونصف.
أما التعويض المدني فجاء مبكرًا ثلاثة أشهر قبل الحكم بالسجن المشدد على الشرطي. ففي مارس/آذار 2021 توصل مجلس مدينة منيابوليس، باعتباره الهيئة المسؤولة عن شرطة المدينة، إلى تسوية مالية بدل اللجوء إلى القضاء مع محامي أشقاء جورج فلويد، بدفع تعويض مالي بقيمة 27 مليون دولار، ومنها نصف مليون دولار لإقامة نصب تذكاري للضحية قرب المكان الذي قُتل فيه، ومع تعهد مجلس المدينة بإعادة تدريب وتوعية أفراد الشرطة بالالتزام بالقانون، وعدم استخدام القوة المفرطة أو العنف غير المبرر مع أي متهم أو مشتبه به.
ورغم ذلك، شكك المحامون وناشطو الحقوق المدنية الذين ضغطوا لمعاقبة إدارة الشرطة ماليًا بجانب المحاسبة الجنائية، في أن تَمنع مثل هذه التعويضات الضخمة والأحكام القاسية من عدم تكرار تلك الأحداث من توحش الشرطة، لكنهم يعدونها خطوة في تخفيف المعاناة عن بعض أسر ضحايا هذا البطش، وتذكرة لرؤساء هذه العناصر المتوحشة في أن الحساب سيطال الجميع، حتى مرتبات كبار مسؤولي الأمن والشرطة وميزانياتهم.