في مقالي الأسبوع الماضي عن التعويض الهزيل، بعد تخفيض قيمة الجنيه، الذي قررته المحكمة لأسرة خالد سعيد بعد 13 سنة من قتله ضربًا وركلًا، أشرت إلى أن المحكمة وافقت على طلب وزارة الداخلية بخصم مبلغ نصف مليون جنيه من أي مستحقات لأمين الشرطة والرقيب اللذين أُدينا بالجريمة وحُكم عليهما بالسجن عشر سنوات، بينما لم يُحاكم ضابط المباحث المشرف عليهما، مثلما لم يُحبس الضابط الذي عذّب الممثلة حبيبة في قضية أخرى ملفّقة، فعوضتها الداخلية أمام القضاء، ولم يُدَن هو عن سجنها الظالم لخمس سنوات.
لكن في أحداث سيدي براني بمرسى مطروح، الأسبوع الماضي، جاء قرار النائب العام بمحاكمة ضابط الشرطة الذي اتُهم بإطلاق ثلاث رصاصات أودت بحياة مواطن، بعد الضجة التي أُثيرت عن إخلاء سبيل الضابط وترددت على وسائل السوشيال ميديا عبارة "مافيش حاتم هيتحاكم" استنادًا إلى آخر أفلام يوسف شاهين، منذ 15 عامًا هي فوضى؟.
في الفيلم، الذي لعب فيه الممثل خالد صالح دور أمين الشرطة الفاسد والبلطجي حاتم، ترددت العبارة الشهيرة "اللي مالوش خير في حاتم مالوش خير في مصر"، والتي كانت أشبه بعبارة الملك الفرنسي لويس الرابع عشر قبل الثورة الفرنسية "أنا الدولة والدولة أنا". قدم الفيلم حاتم كرمز للحاكم والضابط وليس مجرد أمين شرطة.
ليس معنى كشف أو رفض شيطنة أمين الشرطة تنزيهه أو جعله ملاكًا
الواقع أن حاتم/أمين الشرطة، برتبته المتدنية التي يرفض الضباط حتى أن يلبس زيًا يشبههم أو يترقى شرفيًا قربهم، هي أقصى رتبة سمح الحاكم وضباطه للسينما والجمهور بأن ينتقدوها، وذلك حتى بعد التوسع في الصلاحيات المعطاة للشرطة والجيش في التعامل مع المدنيين، بدءًا بتقييد التظاهر وتجريمه "قانونيًا" في نوفمبر/تشرين الأول 2013. وشارك بعض أمناء الشرطة في التظاهر والاحتجاج ضد هذا القانون.
واصلت السنيما بعد ذلك بسبع سنوات تقديم صورة أمين الشرطة الفاسد وانتقاده وشيطنته في شخصية "منصور الذهبي"، التي مثّلها خالد النبوي في فيلم يوم وليلة، وإن تأخر السماح بعرضه أو الاهتمام به.
محنة أمناء الشرطة
ليس معنى كشف أو رفض شيطنة أمين الشرطة تنزيهه أو جعله ملاكًا، بل النظرة الموضوعية لاستخدامه واستغلاله من الطبقة أو النخبة الحاكمة فعليًا، ليكون أداتها وقفازاتها المتسخة في التعامل مع شعب تراه طبقيًا أدنى من ضباطها وأقرب لأمنائها، في فهم بعضهم بعضًا والاشتباك اليومي معًا، ومحاسبة الطرفين إن اضطروا لمحاسبة أحد من وكلاء السلطة.
من السهل أن نجد أمناء شرطة في أي بحث عن قضايا أحكام بالسجن لقتل أو ضرب مواطنين، بينما قلما نجد أحكامًا مماثلة على ضباط، حتى لو كانت هناك حالات حبس أو تقديم بعضهم للمحاكمة في البداية، لكن العبرة بنتيجة المحاكمة ومقارنة أحكام السجن على الضباط قياسًا بأمناء الشرطة.
على سبيل المثال، يكون بين ضحايا عنف أمناء الشرطة أصحاب مهن جامعية ونخبة مثل الأطباء، فنجد في سبتمبر/أيلول 2016 الحكم بالحبس ثلاث سنوات على تسعة أمناء شرطة لتعديهم بالضرب والسب على اثنين من أطباء مستشفى المطرية (ليس تعذيبًا ولكن مشادة بالأيدي، تحطمت فيها نظارة الطبيب) مع دفع الأمناء غرامات تتراوح بين خمسة وعشرة آلاف جنيه.
بداية بلا نهاية
حين أنشأ شعراوي جمعة وزير الداخلية المصري معهد أمناء الشرطة عام 1967، ليحل محل نظام الكونستابل البريطاني القديم، كان الهدف تحديث نوعية أفراد وصف ضباط الشرطة، بحيث تضيق المسافة التعليمية والمعرفية بين الضابط ومساعده، فيصبح الفارق الدراسي عامين بدلًا من كلية الشرطة التي قد لا يصل الطالب إلى مجموعها من خريجي الثانوية العامة، بافتراض أن المجموع فقط هو الفارق وليس أيضًا المستوى الطبقي والاجتماعي.
يدخل الشاب معهد أمناء الشرطة ليتخرج فيه بعد سنتين أمين (ثالث) شرطة، ويترقى كل خمس سنوات حتى يصبح بعد 15 سنة خدمة ضابطًا بدرجة ملازم (ثانٍ).
كان من حق أمين الشرطة أن يترقى أعلى من ذلك، لكن هذا الباب أُغلق لاحقًا، حتى على رتبة "ملازم شرف" كما أُغلق باب التأهل والتخرج في كلية الشرطة بمجرد حصول أمين الشرطة على ليسانس الحقوق، أسوة بدراسة الضابط للمواد الدراسية ذاتها.
ثم أكمل نظام مبارك الحلقة عليهم، بمحاسبتهم ضمن أفراد الشرطة عبر المحاكم العسكرية، خلافًا للضباط الذين يُحاكموا كمدنيين أمام قاضيهم الطبيعي.
كان من إنجازات ثورة يناير التي حصل عليها أمناء الشرطة، والمقدر عددهم بنحو مائة ألف، صدور حكم المحكمة الدستورية في نوفمبر/تشرين الثاني 2012 بالبت في طعن مرفوع منذ ثماني سنوات، بعدم دستورية تحويل معاقبة "كل طوائف الشرطة ما عدا الضباط" إلى محاكم عسكرية. وقضت المحكمة بمخالفة ذلك لنص الدستور على أن الشرطة "هيئة مدنية"، وكذلك مبدأ عدم المساواة في خلق طبقتين: الأفراد والضباط في المحاسبة أمام القانون.
لكن حكم المحكمة الدستورية لإنصاف الأمناء لم يأت إلا بعد ستة أشهر من قرار المجلس العسكري الحاكم في أبريل/نيسان 2012، مع اتساع نطاق مظاهرات ثم إضرابات أمناء وأفراد الشرطة ضد المحاكم العسكرية، بحيث يتم استبدالها وقتها بمجالس تأديبية.
يناير وانتفاضات أمناء الشرطة
حتى قبل تنحية حسني مبارك من الرئاسة، هددت مجموعات من أمناء الشرطة بالانضمام لمظاهرات يناير، ونظموا بالفعل مظاهرات لاحقًا في فبراير/شباط 2011 ضد الظلم الواقع عليهم من الضباط ووزارة الداخلية، التي غيّرت أيضًا زيهم الرسمي السابق حتى لا يشبه زي الضباط!
تجددت مظاهرات أمناء الشرطة في أكتوبر من العام نفسه، ثم امتدت إلى تنظيم إضراب شبه عام في أبريل/نيسان من العام التالي، حتى تدخل المجلس العسكري بوقف محاكمتهم عسكريًا وتحسين بعض ظروفهم. لكن مطالبهم استمرت وشكلوا نقابة لهم. وشملت مطالبهم تحسين الرواتب والمعاشات والنظام الصحي وغير ذلك من أوضاع، بما فيها إعادة فتح الترقي لمجرد "ضابط شرف"!
لم تتوقف مظاهرات الأمناء في عهد رئاسة محمد مرسي، ثم عدلي منصور، إلى أن جُرِّم التظاهر في نوفمبر 2013، ووجدوا في حرمانهم، مع باقي فئات الشعب، من حق التظاهر انتزاعًا لأداتهم السلمية في الضغط لتحسين أوضاعهم المعيشية.
وفي العام التالي، تحت رئاسة السيسي، أُصدر قانون يعيد المحاكم العسكرية، ليس لأمناء الشرطة، ولكن للمجندين من أفراد الشرطة، رغم أنها هيئة مدنية، باعتبار أن تجنيدهم للخدمة العسكرية.
لم يخرج عن هذه الصورة الإيجابية المثالية لضابط الشرطة سوى واحد من فيلمين لأحمد زكي
مع دخول عام 2016 وبدء تضييق المجال العام في مصر على أي تنظيم نقابي أو احتجاج منظم، وبعد أحداث المواجهة بين نقابة الأطباء والداخلية بسبب تعدي أمناء شرطة على طبيبين، ثم مشاجرة في الدرب الأحمر انتهت بإطلاق رقيب شرطة النار على أحد الأهالي وقتله؛ تحوَّل الإعلام الرسمي، بعد تصريحات للرئيس السيسي بضرورة الانضباط، وألقى أمن الدولة القبض على سبعة من كوادر ائتلاف أمناء الشرطة في الشرقية، قبل ظهورهم في برامج تليفزيونية لدحض شيطنة أمناء الشرطة في الإعلام.
أصبح بعض هؤلاء الأمناء من المسجونين السياسيين الذين يتم تحديد حبسهم الاحتياطي دون محاكمة. كما حُل الائتلاف، وتم الاكتفاء بنادٍ، مع السيطرة على صفحتهم على فيسبوك.
سينما الأمين الشرير والضابط الشريف
صحيح أن عدد الأمناء تسعة أضعاف عدد ضباط الشرطة المصرية، لكن نصيبهم من أحكام الحبس والتعويض أكثر بمراحل من نصيب رؤسائهم الضباط. وصحيح أنه لا يمكن تحميل الضباط مسؤولية فساد الأمناء، لكن لا يمكن تصور أن الأمين "حاتم" يجرؤ على تعذيب أحد في أقسام الشرطة دون إذن، إن لم يكن تحت إشراف، ضابطه.
ومع ذلك لا يُحاكم إلا حاتم، ولا تتحدث السنيما إلا عن جبروت حاتم من 2007 (هي فوضى) إلى فساد منصور الذهبي في 2020 (يوم وليلة) بطولة الخالدين صالح والنبوي.
هل لأن أمناء الشرطة وأفرادها من الطبقة الفقيرة هم الحيطة المايلة في جمهورية "الضباط الأحرار" التي لم تسمح للسينما بالمساس بصورة الضابط؟ وبالأحرى هنا ضابط الشرطة الشريف العفيف الشجاع منذ عام 1954 الذي شهدته أفلام يوسف وهبي (حياة أو موت)، وأنور وجدي (ريا وسكينة)، مرورًا بقائمة نجوم محبوبين: أحمد مظهر (كلمة شرف)، صلاح ذو الفقار (كلهم أولادي)، نور الشريف (الوحل)، محمود حميدة (اغتيال/ أمن دولة/ ليلة البيبي دول)، فاروق الفيشاوي (المشبوه/ التحويلة/ حنفي الأبهة)، أحمد السقا (المصلحة/ تيمور وشفيقة)، وكريم عبد العزيز (الباشا تلميذ).
لم يخرج عن هذه الصورة الإيجابية المثالية لضابط الشرطة سوى واحد من فيلمين لأحمد زكي، ولم يكن عن الفساد بل التسلط، وهو زوجة رجل مهم.
نعم، ربما "مافيش حاكم بيتحاكم" لكن "حاتم" وأمثاله بيتحاكموا!