منشور
الثلاثاء 4 يوليو 2023
- آخر تحديث
الأربعاء 5 يوليو 2023
يعيد للأذهان حادث مقتل الصيدلانية بسمة علي، دهسًا بسيارة خاصة لضابط طبيب عسكري من جيرانها عقب شجار في "مدينتي" بالقاهرة الجديدة، في الأسبوع الماضي، حكم القضاء العسكري بالبراءة في بداية العام الجاري، للنقيب طيار الذي اتُهم بالاعتداء "بالكرباج" على طاقم طبي بمستشفى قويسنا العام بالمنوفية.
في الحالتين، وقع الحادث بعيدًا عن أي ثكنة أو منشأة عسكرية، فحتى المستشفى العام لا يرقى من حيث تغليظ العقوبات ضده إلى مستوى محطة أو برج كهرباء، ولا حتى لمشروع صناعي أو تجاري يتبع جهاز الخدمة الوطنية لكي يخضع للقضاء العسكري.
والأهم، أن المُعتدى عليهم في الحالتين مدنيون وليس العكس. من هنا يأتي التساؤل عن سبب ومدى إنصاف تحويل النيابة العامة أوراق قضايا تتعلق بالاعتداء على مدنيين إلى النيابة العسكرية لمجرد وظيفة المتهمين، التي لا علاقة لها بملابسات أداء عملهما في الحادثين أو مكان حدوثهما!
كذلك، تعيد للأذهان ازدواجية تصنيف المواطنين أمام العدالة واختلاف قضائهم العادي الطبيعي، تاريخ انقضى منذ نحو خمس وسبعين سنة، وهو تجربة المحاكم المختلطة، التي بدأت في عهد الخديوي إسماعيل، الذي قدم تنازلات كثيرة للأجانب في مقابل القروض التي أثقل مصر بها وانتهت باحتلالها.
سُمح وقتها بتشكيل محاكم بقضاة أجانب ينظرون في شؤون مواطنيهم الأجانب في مصر، وتدهور الأمر من مجرد القضايا الاقتصادية إلى حد القضايا الجنائية، حيث يتقاضى المصري أمام محكمة مختلطة وقاضِ أجنبي من جنسية خصمه الأجنبي على أرض بلده! لكن هذا النظام انتهى العمل به حتى في عهد الملكية، وقبل ثلاث سنوات من وصول تنظيم الضباط الأحرار إلى حكم مصر.
لم يغير الضباط الأحرار كثيرًا، على مدار أربع عشرة سنة، من القواعد التي وضعها الإنجليز منذ احتلالهم مصر لاختصاصات القضاء العسكري، والمستندة إلى التقاليد البريطانية. إلى أن صدر في عهد الرئيس عبد الناصر ووزير حربيته عبد الحكيم عامر قانون القضاء العسكري عام 1966. ولعل أخطر فقراته تلك التي تعطي رئيس الجمهورية حق تحويل مدنيين إلى القضاء العسكري ومحاكم أمن دولة عليا خاصة، في حالات إعلان الطوارئ وتطبيق الأحكام العرفية، علمًا بأن قانون الطوارئ وُضع منذ عام 1958.
لكن حالة الطوارئ لم تنته بتوقيع الرئيس السادات معاهدة السلام مع إسرائيل، وتغير فقط في القانون تسمية وزير الحربية إلى وزير الدفاع.
هناك عدد محدود من الدول العالم تسمح بمحاكمة مدنيين أمام قضاء عسكري، لكن الأكثر ندرة هو محاكمة عسكريين في قضايا جنائية مع خصوم مدنيين
لكن دستور 2012، أول دستور بعد ثورة يناير، حدد الحالات التي يُسمح فيها بمحاكمة المدني عسكريًا بدلًا من قاضيه الطبيعي، واستبعد إعطاء رئيس الجمهورية حق تحويل مدنيين لمحاكم عسكرية دون أن تنطبق عليهم تلك الشروط. إذ تنص المادة 198 على:
"لا يجوز محاكمة مدني أمام القضاء العسكري إلا في الجرائم التي تضر بالقوات المسلحة؛ ويحدد القانون تلك الجرائم، ويبين اختصاصات القضاء العسكري الأخرى".
لكن هذه المادة، شأنها شأن المادة 204 من دستور 2014، عززتا من شرعية تحويل المدنيين للقضاء العسكري، ووسّع القرار الرئاسي لاحقًا من الحالات، لتشمل المنشآت الحيوية المكلف الجيش بحمايتها.
وتحت ظرف جائحة كورونا جرى تعديل قانون الطوارئ ليشمل في عام 2020 إعطاء حق الضبطية القضائية لضباط القوات المسلحة وحتى ضباط الصف، إذ ينص القانون 22 لهذه السنة في مادته الأولى على:
"تتولى قوات الأمن أو القوات المسلحة تنفيذ الأوامر الصادرة من رئيس الجمهورية أو من يقوم مقامه، فإذا تولت القوات المسلحة هذا التنفيذ يكون لضباطها ولضباط الصف بها اختصاصات مأموري الضبط القضائي. وتختص النيابة العسكرية بالتحقيق في الوقائع والجرائم التي يتم ضبطها بمعرفة القوات المسلحة.
ويجوز لرئيس الجمهورية أو من يقوم مقامه أن يسند الاختصاص بالتحقيق الابتدائي في الجرائم التي تقع بالمخالفة لأحكام هذا القانون إلى النيابة العسكرية".
ورغم وقف العمل بقوانين الطوارئ، فإن القوانين والقرارات التنفيذية الرئاسية التي حلت محلها لم تقنن فقط توسع دور القوات المسلحة في حماية المنشآت المدنية العامة، بل وفي لعب دور في أغلب المرافق والمؤسسات والمشروعات الاقتصادية، بما يتبعه ذلك من توسيع صلاحيات النيابة العسكرية والضبطية القضائية على مدنيين من قبل رتب تصل إلى صف الضباط!
هناك عدد محدود من دول العالم يُسمح فيها بمحاكمة مدنيين أمام قضاء عسكري، ومنها في آسيا: الهند وباكستان وبنجلاديش وميانمار، وفي العالم العربي: لبنان والبحرين فقط. لكن الأكثر ندرة هو محاكمة عسكريين في قضايا جنائية مع خصوم مدنيين، وفي منازعات ليس لها أي بعد سياسي أو أمني، ورغم ذلك يتولى القضاء العسكري مثل هذه القضايا وليس النيابة العامة.
ويصبح على المدنيين انتظار إنصافهم ليس من قاضيهم الطبيعي في المحاكم المدنية، بل من القضاء العسكري لخصومهم من العسكريين، على نحو يصبح فيه معيار القاضي مختلطًا بطبيعة مهنة أبناء الوطن الواحد، حتى ولو كان نزاعهم خارج نطاق المهنة والعمل!