أودُّ بداية أن أبدي إعجابي الشديد بالمقابلة التي أجرتها المنصة مع المرشح المحتمل أحمد الطنطاوي، والأداء المتميز والمهني للزميلين فتحية الدخاخني وعوض بسيط.
شعرت أني أتابع لقاءً تليفزيونيًا احترافيًا مع مرشح رئاسي، كتلك اللقاءات التي نشاهدها في محطات التليفزيون الأمريكية والأوروبية؛ حين لا يستعرض المذيع أو المذيعة أو يطيل في الأسئلة، ولا يسمح للضيف باستغلال المقابلة للترويج لرؤاه فقط، بل يواجهه بالانتقادات الموجهة إليه، ويسأله عن تفاصيل مواقفه من القضايا الملحة العاجلة أو الجدلية، والأهم أنه يصرُّ على الفوز بإجابات واضحة قدر الإمكان من المرشح إذا حاول المراوغة.
معيار النزاهة
ولذلك، كانت المقابلة كاشفة ومهمة لفهم الطنطاوي، الذي أصبح، شئنا أم أبينا، مقياس جدية الانتخابات ونزاهتها، في ضوء خطابه المعارض عالي النبرة، وكل ما يتعرض له من محاولات حثيثة ومكشوفة لمنعه من الترشح.
إذا تمكن الطنطاوي من تجاوز الأيام الأحد عشر المقبلة الصعبة، وجمع المقدار المطلوب من التوكيلات في 15 محافظة، فستكون لهذه الانتخابات مصداقية أمام الرأي العام المحلي والعالمي.
أما اذا انتهى الأمر باستبعاده بحجة عدم تمكنه من جمع 25 ألف توكيل، في ظل المشاهد العبثية والفجة لمنع المواطنين من تحرير توكيلات المرشحين، بعد تخصيص عدد محدود من مكاتب الشهر العقاري لهذا الغرض، فستنطلق الانتخابات في أجواء أقرب بكثير لـ2018، حتى لو كان الوضع أفضل قليلًا بتواجد عدد من المرشحين المنافسين.
فإلى جانب مرشحي الأحزاب التي تعلن تأييدها للرئيس السيسي، مثل الوفد والشعب الجمهوري، تحاول الأستاذة جميلة اسماعيل رئيسة حزب الدستور، متأخرة بعض الشيء، بناء حملة لجمع التوكيلات الشعبية أو الحصول على دعم عشرين نائبًا، بصفتها مرشحة امرأة تحاول خوض معركة انتخابات الرئاسة.
الرؤية السائدة حاليًا هي رهن جدية الانتخابات بقدرة الطنطاوي على خوضها
وفي خانة مستقلة، يقف الأستاذ فريد زهران رئيس الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، الذي لا يمكن التشكيك في مواقفه المعارضة للنظام الحالي طوال السنوات التسع الماضية، من رفضه التنازل عن مصرية تيران وصنافير، ودعوته لمقاطعة "استفتاء" 2018، ورفضه التعديلات الدستورية التي سمحت للرئيس السيسي بالبقاء في السلطة 16 عامًا، بعد أن كان النص الدستوري في نسخته الأصلية يسمح له بمدتين فقط، بإجمالي ثماني سنوات.
كما قدم المصري الديمقراطي من خلال نوابه، السبعة فقط، في البرلمان نقدًا حادًا لمجمل السياسات الاقتصادية للرئيس، التي أدت للوضع المزري الذي وصلنا إليه، مع تشكيك معظم المؤسسات المالية الدولية في قدرتنا على سداد ديوننا الخارجية بسبب الانفاق على مشاريع سُمِّيت بـ"القومية" ووُصفت بـ"الضخمة العملاقة"، ولكنها لا تمثل أولوية للغالبية العظمى من المصريين ولم تدر عائدًا يسهم بشكل محسوس في تحسين مستوى معيشتهم الذي تدهور لدرجة غير مسبوقة.
ورغم هذا السجل المعارض للحزب المصري الديمقراطي، واتساق موقف زهران بالترشح للرئاسة بتزكية 20 عضوًا في البرلمان، مع قرار حزبه خوض انتخابات برلمان 2020 ضمن القائمة الوطنية من أجل مصر من منظور البحث عن أي موطئ قدم للتعبير عن مطالب ومواقف المعارضة المدنية، إلا أن الرؤية السائدة حاليًا هي رهن جدية الانتخابات بقدرة الطنطاوي على خوضها، بعد أن أصبح المرشح المعارض الرئيسي في مواجهة الرئيس.
مرشح محافظ وخطاب مائع
هذه الشعبية المتنامية للطنطاوي والدفاع عن حقه في الترشح، والتحذير من عواقب التضييق الفج في تحرير التوكيلات عبر وسائل مفضوحة، والتقدير الكامل لكسر أنصاره حاجز الخوف بعد سنوات الجمود، لا يجب أن تشكل فزاعة تمنعنا من الاختلاف مع الرؤى التي طرحها في مقابلته مع المنصة، ونقدها، ولو من باب أن تستفيد حملته منها، الآن أو في استحقاقات لاحقة، في حال لم يتمكن من الوصول لهدفه هذه المرة وقرر خوض انتخابات رئاسية مقبلة، مع الوضع في الاعتبار صغر سنه النسبي، إذ يبلغ من العمر 44 عامًا.
وجهت الزميلة فتحية الدخاخني للطنطاوي أسئلة متتالية عن موقفه من جماعة الإخوان المسلمين، بعد إعلان أحد كبار قادتها في الخارج أن الطنطاوي هو الأقرب لخطابهم حتى الآن. وكرر الطنطاوي ردًا يتمسك به وهو أن جميع المواطنين المصريين سواء أمام القانون، وأن المحكمة الدستورية هي من تقرر إذا ما كان سيتم السماح للإخوان بالعودة لممارسة نشاطهم واعتبارهم حزبًا دينيًا من عدمه.
هذا الموقف قد يبدو صحيحًا من الناحية النظرية، ولكنه مائع ومرفوض سياسيًا، ويفتح الباب لاتهامه بالسعي لمغازلة جمهور الإخوان ليدعموا حملته ويمنحوه أصواتهم، إذا نجح في استكمال أوراق الترشح. كما لا يبدو ذلك الرد مرضيًا لقطاع واسع من المواطنين لا يرغب في عودة المهزلة التي كانت قائمة لعقود قبل 2013، وجعلت من الإخوان دولة داخل الدولة، بعيدًا عن أي رقابة أو محاسبة، وذلك بزعم أنهم جماعة "دعوية" دينية بالأساس، لها أوجه نشاط متعددة من بينها السياسة.
ولقد سمعت شخصيًا من الطنطاوي في لقاءات متعددة أنه لا يقر هذه الازدواجية التي تمنح الإخوان وضعًا خاصًا مميزًا عن بقية الأحزاب السياسية الشرعية الأخرى، أو أن يكون لدينا ما يسمى بمكتب إرشاد يُنتخب أعضاؤه بطريقة "البيعة" ويتلقى أموالًا من الداخل والخارج بلا حساب، لتحقيق هدف نهائي وهو السيطرة على الحكم والبقاء فيه للأبد باستخدام غطاء الدين.
صحيح أن فترة بقاء الإخوان في الحكم لم تمتد سوى عامٍ واحد، لكنه كان كافيًا ويزيد للتيقن من أن حكم مكتب الإرشاد لن يؤدي إلا لديكتاتورية باسم الدين تدفع البلاد دفعًا نحو الحرب الأهلية. ولكن يبدو أن الحسابات الانتخابية للمرشح المحتمل تفوق في هذا الصدد قناعاته الشخصية، أو خلفيته كرئيس سابق لحزب الكرامة الناصري، يقدم نفسه بصفته "بديلًا مدنيًا ديمقراطيًا".
كما لم أقدِّر مطلقًا محاولته أن يكون مرشحًا "عابرًا للأيديولوجيات"، بلا انحيازات فكرية واجتماعية واضحة، بزعم أن "قناعاتي الشخصية لن تكون الأساس في ممارسة عملي". بالتأكيد أي رئيس يتولى المنصب لا بد أن يكون رئيسًا لكل المصريين، ولكن الأساس الذي سيدفع الناخبين لاختياره دون الآخرين، هو قناعاته وانحيازاته سواء الفكرية، أو المرتبطة بمصالح قطاع ما من المواطنات والمواطنين.
بدا خطابه المحافظ صادمًا لكثيرين كانوا يودّون دعمه باعتباره ممثلًا لخيار مدني ديمقراطي
وقد يكون من المفيد أيضًا في هذا الصدد أن يدرك الطنطاوي أن خطابه شديد الثقة، الذي يبلغ حد الغرور أحيانًا، بشأن قدرته على منافسة وهزيمة الرئيس الحالي في انتخابات حرة ونزيهة، قد يكون منفرًا في ظل معرفة الجميع بالواقع المصري وما تتمتع به الدولة وأجهزتها من قدرة هائلة قادرة على دعم مرشحها.
وأخيرًا، فإن موقفه من المملكة العربية السعودية ومغازلتها بإعلان أنها ستكون أول دولة يزورها، في وقت تشير فيه التقارير إلى تأزم علاقة البلدين، وسعيه للحصول على مزيد من القروض الخارجية للخروج من المأزق الاقتصادي، تمامًا كما يفعل النظام الحالي، وإنكاره القاطع لأي تطوير تم في منطقة القناة لمجرد عدم إنشاء منطقة روسية حرة، كلها أمور يمكن أن تشير لتخبط مواقفه وعدم وضوح رؤيته وخطابه.
ومن المؤكد أن خطابه المحافظ بشأن حرية الاعتقاد والحريات الشخصية عمومًا، وتمسكه بما ورد في القانون في هذا الصدد، بدا صادمًا لكثيرين ممن كانوا يودّون دعمه باعتباره ممثلًا للخيار المدني الديمقراطي، لا حزب النور السلفي.
نعم، من حق الطنطاوي الترشح، ويُقدِّر كثيرون إصراره ودأبه على خوض المعركة. ولكنَّ نقطة البداية لدعمه قد تكون في مطالبته بإعادة النظر في بعض مواقفه، وتبني خطاب أكثر وضوحًا وتواضعًا.