شكرًا جزيلًا للأستاذ خالد داود على اهتمامه بمشاركاتي التلغرافية على تويتر في الذكرى العاشرة لأحداث 30 يونيو 2013، وتخصيصه مقاله الأسبوعي للتعقيب على إحداها. والشكر موصول بالطبع للمنصة على استضافتها لهذا الحوار. ولكنني لم أفهم ما قصده بتقديمي باعتباري "معروف بانتقاداته "الحادة" للسيسي"، وآمل ألا تكون نداءاتي التضامنية معه خلال سجنه قد سببت حرجًا له.
الفكرة الرئيسية المتضمَّنة في التويتة هي ماذا نحمل معنا كمصريين للمستقبل؟ فالزمن لا يعود للوراء إلا في الروايات الأدبية. لذا، فجوهر مضمون التويتات، وكذلك عنوان مقال خالد، هو عن الدروس التي يمكن استخلاصها من 30 يونيو، ومن التحالف مع الجيش والأجهزة الأمنية للإطاحة بالقوة المسلحة بحاكم وصل للحكم من خلال الانتخابات الرئاسية الوحيدة الحرة النزيهة، نسبيًا، خلال 71 عامًا.
السؤال لا ينحصر في مدى المشروعية السياسية والأخلاقية لهذه الإطاحة، لكنه يستدعي أيضًا الحصاد المُر لعشر سنوات تالية من العصف الهائل بحقوق الإنسان في مصر.
فهل لو تكررت بصورة أو بأخرى أحداث مشابهة في المستقبل ستتخذ النخب السياسية العلمانية الموقف ذاته؟ إجابة خالد داود الضمنية هي نعم. فقد أنهى الكاتب مقاله بخلاصة "هل هذا يعني الندم على المشاركة في 30 يونيو؟ لا". لاحظ أن السؤال في التويتة التي يناقشها خالد ليس عن مشروعية المشاركة في 30 يونيو، ولكن عن "التحالف مع الجيش والأجهزة الأمنية للإطاحة بالإخوان المسلمين".
ما بين 30 يونيو و3 يوليو
طرح السؤال السابق لا يعني التقليل من شأن السياسات والجرائم الدستورية وغير الدستورية التي ارتكبها حكم جماعة الإخوان المسلمين خلال سنة 2012-2013، ولا من مشروعية الاحتجاج الشعبي عليها. يمكن الرجوع لتوثيق هذه الممارسات من خلال موقع مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، المحجوب الآن في مصر، وكذلك صفحات المنظمات الحقوقية الأخرى.
وجدير بالذكر، أن هذه الممارسات أدت أيضًا إلى استقالات احتجاجية مبكرة قبل 30 يونيو لوزير العدل، وعدد من الوزراء، ونائب رئيس الجمهورية المستشار محمود مكي. ولكن يظل السؤال قائمًا: هل يبرر ذلك لأحزاب ونخب سياسية مدنية التحالف مع انقلاب عسكري؟
رغم كل ما وثقته المنظمات الحقوقية من جرائم وانتهاكات من الإخوان المسلمين، سارعت هذه المنظمات بإصدار بيان صباح 3 يوليو، قبل إعلان وزير الدفاع بيان الإطاحة بحكم الرئيس الأسبق محمد مرسي، يتضامن مع احتجاج 30 يونيو الشعبي، لكنه يطالب القوات المسلحة "بالامتناع عن القيام بأي عمل نيابة عن الشعب، حتى لو كان بهدف تحقيق أهداف هذه الانتفاضة الجديدة في التحرر من النظام التسلطي الجديد المستتر بشعارات دينية".
هل كان من المتوقع أن يقدم الجيش كرسي الحكم على صينية إلى النخبة المدنية، ثم يستدير "للخلف در"؟
هذه مهمة القوى المدنية التي دعت للانتفاضة، والشعب الذي استجاب لذلك النداء. مهمة الشرطة والقوات المسلحة في هذا السياق توفير الحماية لكل الأطراف، طالما تمارس دورها بوسائل سلمية، لا أن تسعى بنفسها لتحقيق أهداف أي طرف، مهما كان نبل هذه الأهداف. من المنطقي أن تتقدم القوات المسلحة الصفوف في زمن الحرب، ولكن في السياسة، من البديهي أن تكون الجيوش خلف الشعوب، لا أمامها.
ذاكرة النخب السياسية
في سياق استخلاص الدروس المستفادة؛ يذكر خالد درسًا واحدًا؛ هو "عدم الانسياق وراء خيار مجهول أو وعود في الغرف المغلقة". كان خالد ذكر في مطلع مقاله أنه كانت "لديهم وعود قاطعة … بإقامة الدولة الديمقراطية الحديثة ... وليس العودة لنظام 1952"(1). في مقابل ذلك استنكر خالد الدعوة للتفكير في خوض "صراع سياسي مدني" مع الإخوان المسلمين بدلًا من التحالف مع العسكر عام 2013، باعتبار التفكير "رفاهية" لم تكن متاحة بسبب "الظروف شديدة الصعوبة والخطورة التي مررنا بها منذ تولت جماعة الإخوان الحكم".
فهل بالفعل كانت الإطاحة برئيس منتخب من قبل جيش يحكم منفردًا 61 عامًا متصلة "مفاجأة" غير متوقعة تتطلب "تفكيرًا" مضنيًا؟ هل كان من المتوقع أن يقدم الجيش كرسي حكم "دولة ديمقراطية حديثة" على صينية إلى النخبة المدنية، ثم يستدير "للخلف در" عائدًا لثكناته؟ وهل كانت الإدارة التآمرية المتأصلة للصراعات السياسية بين القادة العسكريين(2)، من محمد نجيب إلى ناصر ثم عامر ومحمد فوزي وأبو غزالة وغيرهم، وبوسائل عنيفة، تحمل وعدًا ديمقراطيًا للنخب المدنية؟
هل كان القمع المتواصل بلا هوادة لستة عقود، الذي بدأ بإعدام عاملين نقابيين بعد أيام من انقلاب يوليو 1952 وتواصل بقمع الاحتجاجات العمالية والطلابية على التهاون في محاسبة القادة العسكريين المسؤولين عن هزيمة يونيو 67، يحمل في طياته وعدًا ديمقراطيًا؟!
هل المذابح التي جرت خلال العام الأول بعد انتفاضة يناير 2011 في محمد محمود وماسبيرو وستاد بورسعيد وغيرها، كانت تحمل وعدًا ديمقراطيًا للنخب السياسية في 30 يونيو؟!
ربما يكون مفيدًا في هذا السياق الابتعاد بالقارئ قليلًا خارج ثنائية التويتة إياها ومقال داود، والقيام بزيارة سريعة للصورة الكبيرة، فقد نجد فيها الإجابة؟
الصورة الكبيرة
يذكّرنا تاريخ مصر الحديث بأن قرار نخب سياسية مدنية مصرية التحالف مع العسكريين في مواجهة نخب أخرى، وعلى حساب المصلحة الوطنية، ليس حدثًا استثنائيًا، بل أقرب لأن يكون "القاعدة".
واقع الأمر أن الضباط الأحرار، وورثتهم، لم يخسروا الرهان مرة واحدة، منذ يوليو 1952 وحتى الحوار الوطني 2023، على أن أغلبية النخب السياسية، علمانية أو إسلامية، ستسير خلفهم دون تردد، رغم إدمان قمعهم، وضربهم بعضهم ببعض على مدار أكثر من 70 عامًا.
في البداية بالتحالف مع الإخوان المسلمين ضد الأحزاب الليبرالية (التي نشأت قبل 1952)، والتنظيمات الشيوعية، ثم التحالف مع الشيوعيين ضد الآخرين في منتصف الستينيات، ثم التحالف مع الإسلاميين ضد الشيوعيين والناصريين في منتصف السبعينيات، ثم التوافق مع الإسلاميين بعد انتفاضة يناير 2011، وتهميش باقي قوى الانتفاضة، ثم التحالف مع نخب سياسية وثقافية علمانية ضد الإخوان المسلمين في عام 2013.
هل لا تزال مفاعيل أفران "الصهر الفكري" الناصرية للنخب السياسية متواصلة عبر الأجيال؟
تُرى، لماذا سارت كل النخب السياسية شبه "منومة مغناطيسيًا" خلف الضباط الأحرار وورثتهم إلى حتفها وحتف مصر على مدار أكثر من 70 عامًا، رغم كل الهزائم العسكرية والنكبات المتواصلة السياسية والاقتصادية؟ لماذا لم تتوقف هذه النخب، علمانية وإسلامية، مرة واحدة في أي مناسبة عُرض فيها عليها صفقة "تحالف" فاسدة أو مُذلة مع ورثة "الضباط الأحرار" كي تراجع نفسها وتاريخ مصر منذ 1952، والثمن الباهظ الذي دفعته ولا تزال تدفعه هذه النخب سياسيًا من مصداقيتها لدي الرأي العام، وإنسانيًا في أبشع سجون عرفتها مصر؟
تُحلل الدراسات الأكاديمية العلاقة بين النظم الاستبدادية/الأوتوقراطية وجيوشها. وتُميز دراسة حديثة، صدرت هذا الشهر، بين طبيعة التحديات التي تواجهها نظم استبدادية خلقت جيوشها، وأخرى خلقتها جيوش. ففي النمط الثاني يواجه النظام الاستبدادي دومًا تحديات مضنية للسيطرة على الجيش الذي خَلق هذا النظام. في مصر؛ أسس محمد علي في القرن التاسع عشر نظامه الاستبدادي ثم أسس جيشها الحديث.
وفي 1952 أعاد الضباط الأحرار تأسيس النظام الاستبدادي. لذا واجه ناصر والسادات ومبارك على مدار 60 عامًا تحديات مضنية، إلى أن ركب المجلس العسكري انتفاضة يناير ليطيح بمبارك، ثم ركب انتفاضة 30 يونيو ليطيح بمحمد مرسي.
السؤال الذي يطرح نفسه في سياق إعادة الضباط الأحرار تأسيس النظام الاستبدادي؛ هل أخذوا على عاتقهم أيضًا مهمة إعادة تشكيل النخب السياسية على صورتهم بالحديد والنار؟ يستلفت النظر في هذا السياق قرار جمال عبد الناصر وزكريا محيي الدين في الأيام الأولى بعد انقلاب 52 الاستعانة بخبراء نازيين ألمان من الجستابو، معروفين بسجلهم الإجرامي في القمع الوحشي في ألمانيا وبولندا، في مهمة إعادة بناء "البوليس السياسي" (مباحث أمن الدولة لاحقًا) والمخابرات؟(3) هل لا تزال مفاعيل أفران "الصهر الفكري"(4) الناصرية للنخب السياسية متواصلة عبر الأجيال، أم أنه يجري توارث الجينات الجديدة من جيل لجيل؟
فالمسألة لا تنحصر بالانزلاق لتحالفات عسكرية-مدنية غير أخلاقية، بل ربما تجد جذورها في طبيعة نظرة مختلف النخب السياسية المصرية المعاصرة للعالم، ولموقع مصر من تفاعلاته، ولطبيعة المهمة التاريخية لهذه النخب، الإسلامية والعلمانية. والتي تلتقي في النهاية مع فكر الجلاد الأعظم: جمال عبد الناصر.
إذا تخيلنا للحظة أن زائرًا من كوكب آخر هبط في مصر، فإنّه على الأرجح سيستنتج أنها لا تزال تحت الاحتلال أو تواجه غزوًا وشيكًا. فالعبارة الأكثر تكرارًا على ألسنة الجميع: الحكام وإعلاميوهم والنخب السياسية، إسلامية وماركسية وناصرية وليبرالية وسلفية، هي "التآمر الأجنبي"!
خرج الاحتلال البريطاني وقوات العدوان الثلاثي منذ 67 عامًا، وكان من المفترض أن تشرع الأطراف أعلاه في التنافس علي وضع البرامج والخطط للانتقال من "الاستقلال الأول" إلى "الاستقلال الثاني". أي الانتقال لتعزيز المرتكزات الذاتية للاستقلال الوطني في الاقتصاد والتعليم والصحة، بما يتطلبه ذلك من تمكين عموم المصريين، وإطلاق طاقات البناء لديهم، والحافز للابتكار والإبداع الذاتي والتفكير النقدي.
من اليسير فهم مصلحة النخبة الحاكمة منذ 1952 في إبقاء المصريين سبع عقود في غيبوبة، أسرى معارك دونكيشوتية مع "مؤامرة أجنبية"(5) أبدية. لكن من العسير فهم مصلحة نخب معارضة، إسلامية وعلمانية، في تبني هذا "السوفت وير"، رغم أن عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، الذي ولدت في كنفه حركة الضباط الأحرار، قد تغير جذريًا مرات عدة خلال 70 عامًا، وتبعًا لذلك تغيرت سياسة الحكام الخارجية وتحالفاتهم كثيرًا.
سؤال آخر يطرح نفسه ولكن في حقل آخر؛ هل تملك النخب السياسية المعاصرة تصورًا مدروسًا لنمط التنمية الاقتصادية المناسب لمصر في عشرينيات القرن الحادي والعشرين، مختلفًا عن ذلك النمط الفاشل الذي ارتجله ناصر في خمسينيات القرن الماضي؟
يقول الأستاذ خالد داود إنه كان لدى جبهة الإنقاذ في يونيو 2013 وعدًا قاطعًا "بإقامة الدولة الديمقراطية الحديثة". لنفترض جدلًا أن الجيش أوفى بوعده حينذاك، وسلَّم الحكم لحليفه المدني؛ فهل كان لدى الجبهة تصورًا مدروسًا، وليست فقط شعارات طيبة لا يختلف عليها أحد، لطبيعة نمط المشروع الاقتصادي لتلك الدولة يختلف عن النمط التاريخي الفاشل للضباط الأحرار؟
وهل كان لدى قادة انتفاضة يناير 2011، علمانيون وإسلاميون، مشروعًا اقتصاديًا مختلفًا؟
مشكلة مستقبل مصر أكبر بكثير من قرار كارثي اتخذته نخب سياسية مدنية عشية انقلاب يوليو 2013. فهناك عشرات الأسئلة الأخرى تتداعى تلقائيًا في هذا السياق.
ولكن، رغم أن مثل هذه الأسئلة وغيرها كثير، وثيقة الصلة بعنوان هذا المقال، فإن محاولة الإجابة عنها تخرج عن هدفها المحدود. وهو أن منابع فهم كارثة سلوك النخب السياسية في 3 يوليو 2013، لا تنحصر بمحاولة فهم ما جرى في الأيام السابقة للانقلاب.
(1)من المفارقات اللافتة أن أول من حذر مبكرًا من احتمال "العودة لنظام 1952" كان الفريق عمر سليمان نائب الرئيس الأسبق حسني مبارك، عندما قال لممثلين عن انتفاضة يناير 2011، أن البديل لمبارك ليس هم، بل العودة بالتاريخ 59 عامًا للوراء. المسألة كانت مجرد وقت. وأظن أن مدير المخابرات السابق كان ثاقبًا وشفافًا في هذا التحذير من داخل "المطبخ"، والذي أكده التاريخ لاحقًا.
(2)انظر في ذلك على سبيل المثال كتاب "مثلث القوة: الجيش والأمن والسياسة في تغيير النظام"، بالإنجليزية، للأكاديمي المصري الدكتور حازم قنديل.
(3)انظر كتاب تاريخ المخابرات المصرية، بالإنجليزية، ص33-34 تحت عنوان "The Nazi Connection"
(4)في كتابه "الأوردي مذكرات سجين"، مركز المحروسة عام 2008، يصف سعد زهران نمط تعذيب لم تعرفه مصر قبل 1952. وفقًا له كان الشيوعيون يعتبرون أنفسهم حلفاء "الدولة الناصرية"، مع ذلك فإن تعذيبه وزملائه لم "يهدف إلى انتزاع اعترافات، وإنما كان أشد قسوة وهمجية، كان يهدف إلى تحطيم اللياقة الإنسانية وتحطيم الطاقات الفكرية والروحية للإنسان، عن طريق التحطيم البطيء المحسوب، والضغط الدائم المرهق علي الوعاء الجسدي".
(5)بالطبع هذا لا يعني أن "التآمر" كممارسة اختفى أو سيختفي من العالم، فهو حاضر حتي في العلاقات الثنائية بين الدول العربية الحليفة ذاتها، وبين الحلفاء الغربيين وبعضهم، وغيرهم في شتى بقاع الأرض.