كانت سنوات سجني الطويلة فرصة للتأمل والمراجعة اجتهدت في استثمارها لأقصى استفادة ممكنة، خصوصًا أني قضيت أكثر من 6 سنوات ونصف السنة مع الجنائيين، بعيدًا عن صراعات السجناء السياسيين ومشكلاتهم المعضلة؛ تلك التي لم تنتهِ فترة دفني في قبري المؤقت إلا وتعرضت لجانب منها، ربما لا لشيء إلا لتكتمل التجربة! وبالتحايل على المحنة، كضرب من ضروب المقاومة، اعتبرت تلك السنوات منحة تفرغ وعزلة، للتفكير والقراءة والإنتاج، وأظنني أنجزت في ذلك شيئًا لم أخطط له مسبقًا.
واحدة من أهم المراجعات التي استغرقت جانبًا من وقتي هي أخطاء ثوار يناير المعرفية والإدراكية. ووجدت أننا، في خضم "عالمية" جيلنا، اهتممنا بالاطّلاع على تجارب شعوب ومناطق أخرى من العالم، ربما في أزمان مغايرة وبعيدة، وسياقات مختلفة كل الاختلاف عن سياقنا. فقد كثر جدالنا عن الثورتين الفرنسية والبلشفية، واحتدم نقاشنا حول تجارب التحول الديمقراطي في أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية. بل حتى نضال "اللاعنف"، اعتبرنا مرجعيته المهاتما غاندي ونيلسون مانديلا.
وفي تطلعنا نحو آفاق الكوكب، كنزعة إنسانية لم تنفصل لحظةً عن شعارات الثورة "عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية.. كرامة إنسانية"، كان ردنا الجاهز على من يربط اهتماماتنا "العولمية" بنظرية المؤامرة، ودور المخابرات الأمريكية في الثورات الملونة وما شابهها من اتهامات مُقَوْلبة، هو أننا، جيل العبور بين قرنين، لسنا في محل دفاع عن اهتماماتنا "العالمية" واستلهام كل تجربة إنسانية، بعيدًا عن التعصب الشوفيني/ الوطني أو العرقي أو الديني أو الثقافي. لكن كل ذلك تم على حساب استذكار تاريخنا المحلي في العصر الحديث.
أعدت قراءة الثورة العرابية 1881، وثورة 1919، و"حركة الضباط الأحرار المباركة"، التي ما لبثت أن تحولت إلى "ثورة يوليو 1952"، ثم انتفاضة الخبز 1977، وصولًا إلى الحدث الأسطورة الذي انطلق يوم الثلاثاء، الخامس والعشرين من يناير عام 2011، ولا تزال آثاره ممتدة وقائمة ومتفاعلة ومتطورة/ متدهورة حتى يومنا الراهن، ولأيامنا المقبلة، فترة غير قصيرة من الزمن. واستنتجت بعض الأفكار..
أولًا: لم يصنع جيلٌ واحدٌ حدثين اثنين!
لم يحدث في مصر، ولا في غيرها، في حدود علمي، أن قام جيلٌ واحدٌ بصناعة حدثين كبيرين غيّرا مسار التاريخ، لا ثورتين، ولا حربين، ولا انتفاضتين عارمتين. بل لم تشارك فئات واسعة من الناس من جيل واحد في حدثين كبيرين كفاعلين مؤثرين، إلا استثناءات فردية تؤكد القاعدة ولا تنفيها. ما يخصنا، محليًا، من هذه الاستثناءات هو سعد زغلول.
كان سعدٌ واحدًا من أصغر شباب الثورة العرابية، التي لم يتجاوز عمر قائدها الزعيم أحمد عرابي سن الأربعين وقت اندلاعها، ذاك الذي صار لاحقًا الزعيم الأبرز والرمز الملهم في ثورة 1919، وإن لم يكن رمزها الوحيد. أما زعماء الثورة العرابية، فانتهى مآلهم إلى المنافي المؤقتة والدائمة، والمقابر في المنافي وفي أرض الوطن.
لم تختلف مصائر رموز ثورة 1919 وقت اندلاع الحدث الثوري اللاحق، الذي كان صُنّاعه أطفالاً رُضّعًا وقت ارتجاج مصر، بحضرها وريفها، بهتافات "مصر للمصريين" و"الاستقلال التام أو الموت الزؤام"، وتدفق أنهار الدم في الجيزة وأسيوط تحت قصف الطائرات الحربية الإنجليزية للقرى الثائرة.
رحلت الرموز الكبيرة، زعماء "الوفد" المطالب بالاستقلال، قبل أن يتحول إلى حزب تمزقه النزاعات الداخلية والصراعات الخارجية مع القصر والاحتلال. ولم يبقَ من رموز هذا الجيل سوى مصطفى النحاس، وريث سعد زغلول في زعامة الوفد. صار الشاب الثوري في 1919 شيخًا متّهمًا من قبل شباب الضباط المنقلبين/ الثائرين في 1952 وما بعدها، حتى رحيله سنة 1965.
أنتج الحدث الاستثنائي في يوليو 1952 تغييرًا في رأس السلطة وفي نظام الحكم ككل، تم تعضيده بتغييرات اقتصادية واجتماعية جذرية استحقت بها "حركة الضباط" أن تنال وصف "الثورة". تحولت الثورة إلى سلطة حاكمة متحكّمة، واحتفظت بتسليم وتسلّم السلطة، واستردادها، بين ضباط الجيش، الذين لا يجرؤ أوقح المدلّسين وأفجر الكاذبين أن يدّعي أن أحدًا منهم كان له دور فاعل في إشعال فتيل ثورة يناير 2011، بغض النظر عن تباين الآراء حول موقف الجيش من الثورة: احتوائي، أو داعم، أو استثماري، أو عدائي، أو مزيج من ذلك كله، أو غيره.
كل ما سبق يؤكد صحة استنتاجي؛ أن الحدث الجديد منبتّ الصلة بأبطال الحدث الأخير، السابق له. ربما يكون الاتصال قائمًا بين بعض الأفكار، أو في استلهام بعض التضحيات والبطولات، لكن الأكيد أن صُنّاع الحدث اللاحق، في الأغلب الأعم، كانوا أطفالًا، أو أجِنّة في بطون أمهاتهم، أو حتى غيبًا مجهولًا قبل التقاء آبائهم بأمهاتهم، وقت تفجّر الحدث السابق.
ثانيًا: لم يخلُ جيل مصري حديث من حدث كبير .. إلا واحدًا!
أما تحديد وصفي الأجيال المصرية بـ "الحديثة"، فأقصد بها حداثة الفعل الثوري المطالب بالحقوق الدستورية. وبناءً على هذا، فإن استقرائي لتاريخنا في التغيير من خلال "أحداث كبرى" لا أذهب به إلى أبعد من جيل أحمد عرابي ومحمود سامي البارودي ويعقوب صنّوع وعبد الله النديم والإمام محمد عبده، تلميذ جمال الدين الأفغاني.
فالثورة العرابية، بحسب تعبير المؤرخة لطيفة سالم، هي أول ثورة دستورية في الشرق الأوسط. ومن هذا التاريخ، يمكننا أن نرى بوضوح اتصال الخط النضالي للشعب المصري من أجل ضبط علاقة الشعب بحكّامه، في اتجاه انتزاع حقوق الشعب ومساءلة الحاكم، سواء كان الحاكم مسلمًا، أي ممثلاً لتبعية مصر لسلطنة الخلافة، أم حاكمًا استعماريًا، أم حاكمًا وطنيًا محليًا.
فليوصف الشعب المصري بأي وصف سلبي، ولْينعتْه الناعتون بما يشاؤون، إلا أنني لا أصدق أبدًا أنه، في طوره الحديث والمعاصر، مستمرئ للاستبداد ومستمتع به. ربما يرضخ له لزمن يقصر أو يطول، أو تنتابه نوازع اليأس والكسل، أو يتملّكه الجبن وشيء من الخوف، لكن أجياله المتعاقبة، منذ عرابي، سجّلت موقفها النضالي المتحرر الرافض للظلم والقهر.
لم يحقق جيلٌ حلمه بالكامل، فحتى ثورة 1919 التي استمرت ثلاث سنوات اختتمت بانتزاع تصريح 28 فبراير وإصدار دستور 1923 وتشكيل أول حكومة برلمانية في تاريخ المنطقة، كانت أحلامها تتحقق منقوصة مشرّبة بالغصة والمرارة.
لكن اللافت للانتباه، والمثير للإعجاب والإكبار أيضًا، أن كل جيل من هؤلاء الأجداد لم يفرّط في حقه في الحلم، والتعبير عنه، وإعلانه على الملأ، والتضحية دفاعًا عنه. كلهم حلموا وخصّبوا خيالهم إلا جيلًا واحدًا..
ثالثًا: سقف الحلم السابق هو أرض الحلم اللاحق!
دعونا نجرّد الأحداث الثورية من تفاصيلها الكثيرة، لينصب تركيزنا على مطالب كل جيل وسقف أحلامه، محاولين الربط بينها؛ هل هي علاقة تضاد؟ أم توازٍ؟ أم استكمال؟ ليبحث كل منا بمفرده عن إجابة هذا السؤال، ولا يتقيّدنّ أحدٌ بنتيجة الآخر. لكني هنا أكتب ما استنبطه اجتهادي، دون ادّعاء أني أصبت كبد الحقيقة.
رأيت في مراجعاتي وتأملاتي في محبسي أن علاقة الأحلام النضالية للأجيال المصرية الحديثة بعضها ببعض إنما هي علاقة درجات السلم الصاعد إلى أعلى. فلكل جيل سقف لا تتخطاه أحلامه، ثم يأتي جيلٌ لاحقٌ صانعًا حدثًا جديدًا، بآفاق جديدة لم يجرؤ الجيل السابق على الاقتراب منها.
فأحمد عرابي الذي نفى عن نفسه "تهمة" السعي إلى استقلال مصر عن سلطنة الخلافة العثمانية، لم يكن خياله بقادر على أن يحلم بـ"مصر للمصريين"، ذاك الهتاف الجارف والشعار الذي رفعته ثورة 1919، وروّجته إبداعاتها الفنية المتنوعة بريادة الشيخين يونس القاضي وسيد درويش، ردًا على مماطلات الإنجليز الرافضة للاستقلال، بدعوى أن رفع الحماية البريطانية عن مصر يعني عودتها ولاية تابعة للعثمانيين الأتراك.
أما ثورة 1919 التي استبسلت من أجل الاستقلال والحكم الدستوري، فلم يجرِ في خيال أي من زعمائها وقائديها المطالبة بجيش وطني مستقل. فذاك السقف المنخفض، نسبيًا، هو ما وقف عليه الجيل اللاحق، المولود مع إرهاصات الثورة، ليحلم حلمه التالي، صاعدًا خطوة أعلى في بناء حلم المصريين المتصل الممتد.. وهكذا.
لكنّ انقطاعًا قد حدث في الخيال والحلم! وجاء جيلنا فلم يجد سقفًا سابقًا ليقف عليه كأرضية ينطلق منها ليصنع حلمه.
نشأ جيلنا في قَفْرٍ قاحلٍ أجدبِ الخيال. لم نرَ أحدًا من الحالمين العظام، ولم نسمع صوتًا يحدثنا عن المستقبل، إلا مقترنًا بالخوف أو هلاوس الدعاية السياسية. رأينا جيل الآباء وقد استهلكته الغربة باحثًا عن دراهم وريالات ودنانير يعودون بها ليسكنوا في سموحة ومدينة نصر، أو يبنوا بيتًا خرسانيًا على ما كانت يومًا أرضًا زراعية خصبة.
شهدنا اغتصاب العمران وانتهاك المدن وسد الأفق الحقيقي والمجازي، واختفى من لساننا الاجتماعي أصناف الورود والنباتات التي طالما زخرت بها أغاني الأجيال السابقة؛ لأنها كانت جزءًا من مشهد المدينة قبل أن تكون كلمات في قاموس الشعراء.
وزحفت جموع جيلنا من فيافي القحط والجفاف، وصنعت في قلب صحارى الأسمنت واحةً وارفةَ الظلال، وفجّرنا في جلاميد الأرض المقفرة ينابيع نضّاخة ارتوى منها الجيل المحروم من الحلم، الذين حرمونا منه بدورهم، ثم نازعونا فيه بعد أن انتزعناه من بين براثن الواقع الكئيب المحبط؛ إرثهم لنا الذي استسلم له خيالهم، فأبينا أن نرث بؤسهم، فسمعنا وعصينا، وثُرنا وتمردنا.
فما أعظم ما وصلنا بعد انقطاع! وما أمجد ما جاد به خيالنا من حلم! وما أسعد جيلًا قادمًا مؤمنًا بحقه في الحلم وقادرًا عليه وقد ضمن منا الدعم والتأييد، لا الحرب ولا التبكيت! وما أصلب سقف أحلامنا الذي أهديناه لمن يأتي بعدنا أرضيةً يقفون عليها مستكملين المسير!
رابعًا: لم يحلموا لأنهم خافوا وأهينوا.. وحلمنا لأننا جيل مغاير!
ربما نتفق على عقم خيال الجيل السابق لنا، لكننا، على الأرجح، سنختلف في تفسير ذلك. والاختلاف مطلوب وصحي. وبرأيي، الذي لا أعصمه من احتمالات الخطأ، فإن جيل آبائنا لم يمتلك المخيلة التي تدفعه إلى الحلم لسببين: لأنه خاف من الحلم، ولأنه رضع الإهانة!
الخوف من الواقع معتاد ومألوف، والخوف الواعي من المستقبل ومخاطره مشروع ومعروف، والخوف من بطش السلطة وتنكيلها العشوائي بمن يقف في طريقها، ولو مصادفةً، خوف منطقي له ما يسوّغه. لكن أيًا من أنواع الخوف هذه لا يمنع الحلم، بل ربما يكون دافعًا إليه ومحرضًا عليه. أما الخوف المانع من الحلم، فهو الخوف من الأحلام ذاتها!
والجيل السابق لنا تشكّل وعيه في سنوات انكسار الحلم، فنشأ منكوسًا بالنكسة، موكوسًا بالوكسة. جيلٌ رأى من سبقوه وقد اشرأبّت أعناقهم متطلعين إلى رؤية الوفاء بوعد إلقاء دولة الاحتلال في البحر، فإذا بأعناقهم تُدق في أوحال الهزيمة على يد الدولة اللقيطة، صنيعة العصابات المسلحة من لصوص الأراضي العربية.
جيلٌ كان وجدان طفولته الغض كالإسفنج الذي تشرّب عصارة الانهزام، فحين عصر خياله لم تنزّ عنه سوى قطرات الاستسلام والرضوخ. رأوا آباءهم، أجدادنا، يحلمون، ثم سمِعوا نحيبهم على ضياع الحلم، فورثوا الخوف من الحلم خشية تكرار الانكسار والانهيار. أو كما سمعوا أم كلثوم تشدو بكلمات إبراهيم ناجي "كان صرحًا من خيالٍ فهوى!"، فأصابهم الهلع أن يعاودوا الحلم بارتقاء قمم ما تلبث أن تؤول إلى قيعان في الهاوية.
وإن كان ثوار يناير 2011 هم جيل الثمانينيات، فإن جيل آبائهم هم مواليد الخمسينيات، الذين رضعوا الإهانة التاريخية التي لم تجد من يتصدى لها في خضم بحر الدعاية التعبوية وإرهاب الدولة. ففي يوم 26 أكتوبر سنة 1954، وقف الزعيم الناجي من محاولة اغتياله مخاطبًا شعبه البالغ من عمر الحضارة 50 قرنًا، صارخًا في لحظة انفعال كاشفة "أنا من علمكم العزة .. أنا من علمكم الكرامة"!
والغريب أن الشعب، الذي كان ثلث الأحياء من مواطنيه، على الأقل، شاهدًا ومشاركًا في ثورة 1919، بلع الإهانة واستساغها، ولم ينبرِ أيٌ من مثقفيه ليذكّر الزعيم الخالد، المولود سنة 1918، أنه لم يكن قد فُطِم بعد ولا تعلّم الكلام حين ثارت جموع الشعب العريق ذودًا عن كرامتها وعزّتها.
وهكذا، اجتمع لدى الجيل السابق لجيل ثوار يناير انكساران؛ انكسار الخوف الموروث الفازع من الحلم غير المجتريء عليه، وانكسار الإهانة التاريخية على لسان، وبيد، النظام الشمولي الوطني، الذي حرر مصر من الاستعمار الأجنبي، ليأسر شعبها في أغلال الاستبداد والاستعباد المحلي على يد فئة مسلحة من بني جلدتهم. فكيف يتسنّى لهم أن يحلموا؟!
أما جيلنا الحالم، فلم يُشتم في طفولته وصباه، ولم يرث خوفًا من الحلم ولا فوبيا من تشغيل مخيّلته. لهذا، أزعم أننا استطعنا أن نحلم، فوصلنا، دون إدراك، انقطاعًا تاريخيًا في أحلام الأجيال، وسددنا الفجوة، وجسرنا الهوّة.
والأهم من ذلك أننا فتحنا الأبواب الموصدة على مصاريعها للجيل التالي، مواليد عقد الثورة، أن يقتحموا بأحلامهم كل منيع، وأن يقفوا فوق سطح خيالنا ليصنعوا منه أرضية لحلمهم الخاص. فلكل جيلٍ سبقنا إنجاز من الأحلام، ولجيلنا إنجازان؛ عوّضنا ما فات الجيل السابق الذي علّقنا في الهواء بلا أرضية نقف عليها لنحلم فوق حلمهم، ثم صنعنا أسطورتنا ذات السقف المتين، ممهّدين الطريق للمقبل. فما أشد بؤس من يجهل قيمة ما أنجزنا! وما أتفه من يقلل من شأنه!
خامسًا: بين كل حدثين كبيرين أحداث وسيطة!
والتوسُّط الذي أعنيه مزدوج؛ توسط في الزمن، وتوسط في الحجم. فبعد سحق الثورة العرابية والتنكيل بقادتها ورموزها وكوادرها الفاعلة، لم تندلع ثورة 1919 في فراغ من نضال. مات من مات من رفاق عرابي في المنفى، وعاد البارودي قبله فاقد البصر مشوّش البصيرة، ثم عاد عرابي نفسه منهزمًا أمام الحرب النفسية الخبيثة التي لاعبه بها مكر الاستعمار، فلهج لسانه بالثناء على المحتل وحُسن معاملته في المنفى، فسقط في نظر أبطال الجيل التالي، وعلى رأسهم مصطفى كامل، الذي التقاه مرة واحدة ولم يكرر الزيارة.
اختلفت خيارات الإمام محمد عبده والمحامي سعد زغلول، الذي صار قاضيًا وصهرًا لرئيس الوزراء ثم وزيرًا، عن الطريق الثوري القديم، وإن ظلّا على الود مع جمال الدين الأفغاني المطرود من مصر، فتكررت زياراتهما له في إسطنبول خلال إجازاتهما.
مات محمد عبده في 1905، ولم يفق سعد زغلول من خمره وقماره إلا بعد رحيل مبكر لزعيم الجيل التالي، مصطفى كامل، ذلك الذي تلقّى الراية من الوحيد الذي لم يتغيّر من رموز الثورة العرابية، عبد الله النديم.
لم تَطُلْ فترة التلقيح الثوري وتسليم الراية والحق في الحلم، حيث انضم النديم إلى الشيخ الأفغاني في إسطنبول، بعد أن كان هرب داخل مصر 9 سنوات من التخفي والخوف والصبر على مكايدات زوجته وزوجة خادمه. رحل النديم مخلّفًا وراءه بطلًا أعاد، مع رفاق جدد، الروح الثورية في جسد الشعب الهامد. فكان الحدث الوسيط، انتفاضة الغضب لجريمة دنشواي 1906، الذي وصل المنقطع ومهّد الطريق لما صار بعد دستة من السنوات ثورة شعبية عظيمة مجيدة!
وهكذا، توسطت عدة أحداث، لا توصف بالكبرى، في فترة الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، حتى انفجر الحدث الكبير في يوليو 1952. وحين وقعت الهزيمة الناكِسة، تمرد مكنون الوجدان الحالم بالكرامة على الاستسلام، وإن أصابه الانكسار والخوف من معاودة الحلم، فاندلعت مظاهرات 1968 مطالبة بالحرب لغسل العار وجبر الانكسار.
لم تتجسد انتفاضة الخبز في 1977 كحدث ثوري كبير، بل كانت بمثابة حدث وسيط ومزرعة لفسائل الأحلام التي قاومت بوار التربة الفقيرة المجدبة، فتأخر نموها، وأبطأ إثمارها، فخلا عقدا الثمانينيات والتسعينيات من الأحداث الكبرى، وإن لم يخلُوَا من التغيرات العميقة والتحولات. ثم جاء القرن الجديد مشرقًا بالانتفاضة الفلسطينية الثانية، التي شكلت وجدان جيلنا، ثم الغضب ضد الغطرسة التي استباحت أفغانستان والعراق، ثم التفتنا إلى الداخل وبدأنا مسيرة الحلم، الذي تراكم صنعه ستة أعوام تُوّجت بالحدث الأسطورة في 25 يناير!
لدينا تجربة ندرسها وحكاية نرويها وجراح نداويها. في قلوبنا حب لأولادنا يطغى على كراهية خصومنا وأعداء ثورتنا. وفي بصيرتنا مستقبل يشغلنا عن اجترار ذكريات الماضي الحزينة
والآن، ها هم ثوار يناير، الثورة التي انتهت كحدث وحراك، في موقف يشبه الثوار الأوائل، وعليهم أن يختاروا. إما الاستسلام وتعميق الهزيمة الخارجية بالانهزام الداخلي ومضاعفة الكسر بالانكسار كأحمد عرابي نفسه والبارودي. وإما اليأس والدخول في غيبوبة عمدية مراهنين على صحوة في وقتٍ ما، قد لا تأتي أبدًا، مثل سعد زغلول. وإما ترك الميدان الحركي واستئناف النضال في ميدان الوعي والدفاع عن سرديّتنا وحكايتنا لما جرى، لنسلم الراية بأمانة وشجاعة لمن يحملها ويستكمل مسيرة الأحلام بحدثٍ قادم، لن يكون أي من ثوار يناير من أبطاله، وإن كان محتملًا أن يصير بعض القابضين على الجمر منهم رموزًا ملهمة في الحدث القادم الكبير، الذي لا أظنه يأتي قبل أربعينيات القرن الجاري!
وإلى أن يحين هذا، ستشهد مصر أحداثًا وسيطة، لن تكون قريبة، ولن تكون منفصلة عن سياقات إقليمية وعالمية، سياسية واقتصادية وبيئية، محيطة بنا، وبأولادنا. وعلينا أن نتقبّل تغيير مهمتنا، وترك بطولة الأحداث المستقبلية لصانعيها، الذين قد ندعمهم بالمشورة والخبرة، أو ما هو أبعد من ذلك، لكننا لن نكون منهم.. وهذه سنة الحياة!
سادسًا: في ستة أيام خلق الله الكون.. وفي ستة أجيال يُشيّد المصريون صرح أحلامهم!
حَلَم الجيل الرائد بمساواة المصريين بالضباط الأتراك والشركس، وبأن يكون لهم حق الاقتراب من قصور الحكّام، وأن يُستشار ممثلو الشعب في الهيئة البرلمانية/الرقابية استشارة جدّية، وإن كانت غير ملزمة.
واستكمل الجيل الثاني البناء، فحلم بمصر للمصريين، دولة مستقلة عن السلطنة العثمانية متحررة من الاحتلال، ينال المصري ابن البلد فيها حقوقه وتُحفظ كرامته كما تُصان حقوق الأجنبي الممتاز عنه، ويشكّل ممثلو الشعب المنتخبون حكومةً تشارك المُلْك العلوي الوراثي سلطات البلاد.
ثم امتد حلم الجيل الثالث لما هو أبعد من جلاء الاحتلال العسكري وتمصير السلطة السياسية، فحلموا بجيش وطني قوي ومجتمع أكثر عدالة اجتماعية واقتصادية، وأقل في فجواته الطبقية. ثم حدث الانقطاع في الجيل الرابع.
ومثل البنايات الخرسانية التي يجهزها الآباء لأبنائهم في الريف وضواحي المدن، فيصبون الأعمدة تاركين للصغار حين يكبرون استكمال البناء، جئنا نحن، ثوار يناير 2011، في الجيل الخامس فوجدنا الأعمدة كما هي دون سقف ولا حوائط. صببنا خرسانة أرضيتنا، التي كان يفترض أن تكون سقفًا لمن سبقنا، ثم بنينا أعمدتنا، التي لم يبنوها هم ولم يساعدونا في إنجازها، ثم رفعنا سقفنا، وأخرجنا الحديد المسلح منه تمهيدًا لصب أعمدة الجيل المقبل.
ربما استُفِزّ الخائفون من الحلم، المكسورون بالإهانة، من منظر طابقهم العاري من الجدران، أو ربما استكثروا علينا أن نفوقهم إذا بنينا ما لم يستكملوه، وتمادينا في استغنائنا عن دورهم في تجهيز الأعمدة في طابقنا، ثم أحرجناهم بسقفنا وصب الأعمدة للجيل التالي. ربما يكون هذا تفسيرًا مجازيًا مقبولاً لحربهم الشعواء علينا وعلى أحلامنا. لكن ذلك لا ينفي أننا، رغم أنوف الديناصورات، استأنفنا البناء، فصنعنا حلمنا بالعيش الكريم والحريات والعدالة الاجتماعية، داخل إطار الدولة الوطنية المستقلة.
وسيأتي الجيل السادس ليحلم بإنهاء حقبة دولة التحرر الوطني من الاستعمار، والتخلص من لواحقها الشمولية والاستبدادية. سيكون الحلم التالي أكثر وضوحًا وتحديدًا وطموحًا؛ بأن ينشيء المصريون جمهوريتهم المدنية الأولى، بعد نفاد صلاحية نموذج الجمهوريات العسكرية وتمكّن اليأس من محاولات إصلاحه أو إحيائه. لكن ذلك لن يكون الآن، ولا بعد قليل من السنوات.
لنترك الزمن يفعل أفاعيله، ولنقم نحن بالدور الذي لن يغفر لنا الجيل المقبل، والأجيال التالية له، إذا فرّطنا أو قصّرنا فيه. لدينا تجربة ندرسها، وحكاية نرويها، وجراح نداويها. في قلوبنا حب لأولادنا يطغى على كراهية خصومنا وأعداء ثورتنا. وفي بصيرتنا مستقبل يشغلنا عن اجترار ذكريات الماضي الحزينة والسباحة في بحور الدموع المريرة.
في ضحكات أطفالنا عزاء وسلوان عن صرخات الألم وفحيح الثعابين. وفي وجداننا أمل، وفي أملنا ثقة، وفي ثقتنا ثبات، وفي ثباتنا وضوح. وفي وضوحنا بلاغة وبلاغ؛ فَلْيسمع الأصم، ولْينطق الأبكم بأننا خسرنا المعركة بشرف، رغم أخطائنا، لكن الحرب لم تنتهِ ولن تنتهي، وإن انتهى حراك جيلنا وذهب بغير عودة!