لم تخلُ مصر أبدًا من أولئك الذين يؤمنون بقدرة شعبها على الدفاع عنها. وعليهم ألَّا يكتفوا بتعزيز فكرتهم التي يسكنها الأمل والألم في آن، إنما عليهم مواجهة المشككين في هذه القدرة، ويتحدثون عن سلبية الناس وصبرهم الطويل على الفقر والقهر، أو يظنون أنَّ التغيير في وادي النيل دومًا بأيدي القوة المنظمة التي تتحكم في مجريات الأمور من علٍ، بما في ذلك الشعب نفسه.
فها نحن، وبعد أن فاضت الشوارع في ثورة يناير بملايين الراغبين في تغيير النظام، يعود بنا البعض إلى التشكيك في حضور الناس هذا، ويتحدثون عن أيدٍ خفيةٍ كانت تحرك المشهد من خلف الستار. وبعض هذا التصور لا يروم الحقيقة إنما يقصد أن يفقد الشعب الثقة في نفسه، ويعتقد أنه لا يمكن أن يصنع شيئًا.
تحليل المشهد العام الآن يجعلنا نحدد أنَّ من بين أتباع هذا الفريق من يقول إن مصر، شأن أي بلد في عالمنا المعاصر، لها صاحب، وأنَّ صاحبها الآن هو القوات المسلحة التي آلت إليها السلطة في 1952. وهناك من يضع المفتاح الأساسي في يد قوة دولية خارجية، لا يمكن تجاهل دورها الرئيسي في تحديد القوة التي تحكم مصر ومن يمثلها في كرسي الحكم.
حضور دائم وحس مشترك
لم ينجُ شعب من محاولة استبعاد أو تهميش أو تقليل من وجوده في صناعة القرار، فالنظم المستبدة عبر التاريخ تصرفت وكأن الناس غائبون. لكن يبقى للشعب المصري خيط ارتباط بأمته، لا سيما في أيام الخطر، وهو يمتلك "الحس المشترك" الذي يجعله ينخرط بقوة في الدفاع عنها، كجزء أصيل من دفاعه عن حدوده ووجوده. وهنا يُذكِّرنا التاريخ بأشكال من حضور المصريين في المشهد، وبعضه كان السبب الأساسي في حدوث التحولات الفارقة.
الناس هم أصحاب المال والسيادة وليس بوسع السلطة أن تتحدى هذه المعادلة للنهاية
يحلو للبعض الحديث عن مشاركة الناس السلطان قنصوه الغوري وبعده طومان باي ضد العثمانيين سنة 1516، بعد أن تخلى عنهما بعض أمراء الجند من المماليك. وبعد قرون لم يجد المماليك أمامهم بدًا من حشد الناس خلف جنودهم وهم يلاقون جيش نابليون بونابرت على مشارف القاهرة.
ولما انتهت المعركة بهزيمة المماليك، لم يسطع المصريون صبرًا على الغزاة، وانتفضوا ضدهم مرتين، ونبذوا فريقًا منهم التف حول الجنرال يعقوب متعاونًا مع نابليون وجنوده.
وحين جاء الأعيان بمحمد علي واليًا على مصر، بعد خلعهم الوالي العثماني خورشيد باشا، لم يعدموا ممثلًا شعبيًا لهم، هو الشيخ عمر مكرم، حتى أن الباشا الألباني لم يجد أمامه من سبيل سوى نفيه إلى دمياط. وحين أعاده إلى بيته في القاهرة ذات يوم، زحف الناس بالآلاف إليه ليحمل مظالمهم إلى القلعة، فعاد محمد علي إلى نفيه من جديد، دون أن يهينه لعلمه بحجم شعبيته، بل قرَّب حفيده إليه ليخفف من غضب الناس.
والشعب هو الذي آزر أحمد عرابي الذي خاطب وجهاء الريف وأعيانه، وحتى كبار العربان في الصحاري، داعيهم إلى الانضمام إليه. وهو الذي دفع سعد زغلول ليتصدر المشهد، وكان قبله لا يظن أن الناس سيكونون في ظهره وهو يطلب الاستقلال والدستور من الاحتلال الإنجليزي.
وما كان يمكن للضباط الأحرار حين انقلبوا على الملك فاروق عام 1952 أن يقبضوا على زمام الأمور لولا أنَّ الناس التفوا حولهم، إثر غبن اجتماعي كبير من السياسات التي كانت قائمة قبلها.
وتكرر حضور الناس في المشهد في ذلك العهد مرات عدة. فبينما كانت النخبة القديمة تعتقد أن الأمر سيعود إليها إثر هزيمة الجيش في العدوان الثلاثي، كان الشعب يلتف حول عبد الناصر، وهو يخطب من فوق منبر الجامع الأزهر، ويشارك في المقاومة التي اندلعت بمدن القناة، وينظر باستخفاف ورفض لتصريحات رئيس وزراء بريطانيا آنذاك التي قال فيها "المعركة ليست مع الشعب المصري، إنما مع الكولونيل ناصر".
ولما انهزم الجيش في حرب يونيو 1967، عاد الشعب ليمارس دوره التاريخي المعتاد، رافضًا الهزيمة، فشارك في "المجهود الحربي" فتبرع القادرون، وخلعت نسوة حُليّهن، للمساهمة في إعادة بناء الجيش وتسليحه، بعد أن صبر الناس على أذى لحق بهم في حرب الاستنزاف، وقت أن كانت مصر بلا "دفاع جوي" قادر على الصد.
وحين خاض الجيش حرب أكتوبر 1973 ليحرر سيناء، عادت المقاومة الشعبية في مدن القناة، لتحمي ظهر الجيش، وتحافظ على وجود الناس صامدين في بلادهم. حمل المقاومون السلاح، وأبدعوا الأغنيات الشعبية التي تحض على الجهاد والصمود، وصنع الجيش قنوات اتصال بهم، فصاروا جانبًا أصيلًا من المعركة.
في الطريق إلى يناير
ولما وجد المصريون الرئيس أنور السادات يضغط عليهم بقرارات رفع الأسعار، خرجوا في انتفاضة الخبز عام 1977، وكانت عارمة إلى الدرجة التي أجبرت السادات على العدول عن القرار.
رأى السادات أن إحضار الشعب، ولو جزئيًا، ليساند الخطوة التي اتخذها بالصلح مع إسرائيل، مسألة ضرورية، فجمع له الساسة الملتفون حوله جمهورًا اصطف من المطار إلى قصر القبة، ليهتف له وهو عائد من تل أبيب. وعلى المنوال نفسه رأى حسني مبارك أنَّ إظهار مساندة الشعب له بعد تعرضه لمحاولة اغتيال في أديس أبابا عام 1995 مسألة مهمة، فحُشد كثيرون من الجمهور العام، إلى جانب بعض الرموز الدينية والثقافية، إلى القصر ليهنئوه بالنجاة ويساندوه.
وأثناء الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، حاول النظام امتصاص غضب الناس من ناحية، وإبداء امتعاض أو اعتراض من ناحية ثانية، بإحضار الناس إلى المشهد، لا سيما أن الأمريكيين كانوا يتخذون يومها من قضيتي "الإصلاح السياسي" و"جلب الديمقراطية" تكئة لتبرير حربهم الاستعمارية. يومها استعانت السلطة بجماعة "الإخوان المسلمين" لحشد الناس في استاد القاهرة، رافعين لافتات ترفض الغزو.
الشعب نفسه هو الذي قطع الطريق على توريث الحكم لنجل مبارك، فلم تكن الطليعة الثورية، أو النخبة المعترضة، قادرة وحدها على الإطاحة بمبارك لولا انضمام القاعدة الشعبية لها، فرغم أن يوم 25 يناير 2011 كان مشهودًا قياسًا بالمظاهرات المحدودة التي سبقته، أو الاحتجاجات السياسية والفئوية التي بلغت أربعة آلاف فاعلية منذ 2004 وحتى اليوم الأول لهذه الثورة، فإن الفعل الفارق لم يتحقق سوى بانضمام الناس في يوم 28 يناير.
عاد الأمر يتكرر في 30 يونيو 2013، فالمجلس العسكري ما كان له لولا حضور الناس في المشهد أن يتمكن من الإطاحة بحكم رجل من جماعة الإخوان، فشلت كل محاولات جذبه بعيدًا عن جماعته ليتصرف بوصفه رئيسًا للمصريين جميعًا وليس ممثلًا للإخوان في الرئاسة.
ما تلا الإخوان
أدرك الحكم الذي تلا الإخوان هذه المعادلة جيدًا، فاتخذ من القرارات وسن من القوانين ما مكَّنه من فصل القاعدة الشعبية عن الطليعة المعترضة أو النخبة الثورية. وظل طوال الوقت يعمل على تغييب الناس من المشهد، قدر ضربه القاعدة الاجتماعية للإخوان وأنصارهم، بمصادرة الموارد المالية، وحصار الموارد البشرية التي كانوا يعتمدون عليها.
إن أي قيادة سياسية أو ثورية في مصر باتت تدرك، حين تكتسب رشد التفكير، أنَّ الناس هم البحر والطليعة بمثابة الأسماك، فإن أبعدت عنها الماء، وألقيتها على الرمل، فستفقد القدرة على التحرك. ناهيك عن أن السلطة، وإن بدت أحيانًا متنكرة لهذا، فهي تعي جيدًا أن في يد الناس الشرعية الحقيقية، وهم أصحاب المال والسيادة، لهذا ليس بوسعها أن تمضي في تحدي هذه المعادلة إلى النهاية.
وحتى لو تحدتها في بعض المواقف، فإنها قد تلجأ إلى الحيلة لتمرير ما تريده، أو تعاود العمل على إبقاء الناس حولها، سواء من خلال التلاعب وغسل الأدمغة، عبر الدعايات واستحضار الحس الوطني على النحو الذي يخدمها، أو باتخاذ تدابير في الواقع تكسبها رضا بعض القوى الاجتماعية.
ومن أمثلة التدابير التي تُكسب الرضا، استحضار آفة الإرهاب، وضمان التفاف قوى اجتماعية محددة حول السلطة، مثل النساء في البداية، والمسيحيين والسلفيين والقوى الحزبية الجديدة وأسر العسكريين وغيرهم. بالتوازي مع إجراءات ردع كل محاولة لحشد الجماهير في وجه السلطة.
يبدو العمل السياسي بشكله الحديث صراعًا بين المتنافسين السياسيين على الناس، يخفت ويحتد، لكنه لا ينسى هدفه من عدم فقدان رضا الناس، أو دفعهم إلى السخط التام، وحتى لو حدث السخط أو الحنق والغضب، لا بد أن تكون هناك الخطط التي تحول دون تجمعه، ليشكل قوة ضغط رهيبة، قد تندفع في اتجاه التغيير عبر الشارع.
في نهاية كل هذا، تثار تساؤلات يفرضها الواقع الذي نسمعه ونراه ونلمسه: لمصلحة من يصر العاجزون على نزع أي نخوة وطنية أو قومية أو إنسانية متبقية في نفوس الشعب المصري؟ ما هذه الحرب القذرة على الكرامة؟ لماذا كلما حاول طرف في الداخل أو الخارج أن ينتصر لكرامته، أو ينتزع حقه، تم تسفيهه، ووصمه بالجنون أو السذاجة أو السعي للانتحار. وكلما نجح شخص أو حتى دولة في فعل شيء إيجابي قيل إنه مأذون له، ودوره مرسوم، وكأن الكل مجرد عرائس ماريونيت؟ هل يراد أن يفقد الشعب الثقة في نفسه؟ وما أثر ذلك على حال ومآل هذا البلد؟
الحقيقة التي لا مراء فيها أنه يوجد في هذا العالم أفراد وشعوب ودول ترفض أن تكون دمى مفعولًا بها.