"مصر هي البلد الوحيد في العالم الذي إن عاد إلى الخلف صار هذا أفضل".. وُلدت هذه العبارة في لحظة إحباط عام أعقبت انقضاض القوى المضادة لثورة يناير عليها، بما قاد إلى تعثرها، ثم تفريغها تباعًا من مضمونها على مستوى الفاعلية، والقدرة على الضغط، ورفع المطالب بقوة، وإنجاز مشروع وطني طال غيابه وتغييبه.
لا نعرف على وجه الدقة أول من أطلق هذه العبارة الدالة على السوشيال ميديا، لكننا نعرف جيدًا أنها لم تلبث أن صنعت في رحابها كتلة جماهيرية تؤمن بها، مستعيدة ما كان لمصر في السابق، تحديدًا وقت أن كانت تُعلِّم العالم القديم، وتقوده أحيانًا، أو وقت أن كانت مميزة في محيطها الإقليمي في العصر الحديث.
وحين يختلط الخاص، حيث اشتياق كل فرد إلى صباه، بالعام، حيث يفتش الناس في دفاتر بلادهم القديمة مع إفلاس النظم السياسية في صناعة نهضة أو تنمية أو إصلاح يقود إلى تحسن الأحوال، تحلو المقارنات، وهو ما يفعله المصريون في السنين الأخيرة، مرة مع الحياة أيام مبارك، ومرة في أيام جمال عبد الناصر، وهناك من يذهبون إلى الخلف قليلًا، لأيام الحكم الملكي.
لا يمكن النظر إلى هذا باعتباره آفة اجتماعية أو حتى هروبًا من مواجهة معضلات الحاضر ومشكلاته، بقدر ما هو سقوط في حكم قيمي، أو استسلام لصور نمطية، ترى ما فات أفضل بالضرورة، في إهمال وإغفال للتفاصيل التي كانت جارية وقتها، والتي يمكن لمن يدقق فيها أن يتخلى عن كثير من ولعه بما فات وانقضى.
فخ صور الماضي
المتمعن في دراسة العهد الملكي سيجد أنه لم يكن بالنصاعة التي تبرزها التصورات السائدة عنه، بل قد يُذهل من يطلع على نقد ممارسات السلطة في تلك الآونة، فيجده لا يختلف عما هو الآن، وسيرى أنَّ كُتَّاب هذه المرحلة كانوا يَشكون نقص الحرية، والتفاوت الاجتماعي الكبير، وتبعية القرار الوطني، والهوة الكبرى بين الشعب ومتخذي القرار.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، أثناء إعدادي كتابًا عن طه حسين، صدر بعنوان بصيرة حاضرة، لاحظت أن عميد الأدب العربي يكتب عن المشكلات نفسها التي نمر بها الآن، وكأنه يعيش بيننا. وحتى المقارنة بعهد حكم أسرة محمد علي باشا لا تخلو من تشابه بين سياسة الخديوي إسماعيل بالاستدانة المفرطة لتنفيذ مشروعاته العمرانية لجعل القاهرة أحسن من باريس، وما أقدم عليه الرئيس عبد الفتاح السيسي من إفراط في الديون الخارجية والداخلية لبناء مدن فخمة.
كذلك كرر السيسي ما فعله الوالي سعيد باشا، حين رفض ميزانية التعليم التي عرضها عليه علي مبارك وطالبه بتخفيضها لتقتصر على تعليم الأتراك، عندما تحدث ذات مرة عن تعليم قلة مميزة، يعتمد عليها في بناء الدولة، ولم ينفذ ما نص عليه الدستور من تخصيص نسبة ملائمة من الميزانية العامة للإنفاق على التعليم الحكومي، وراح يسحب يد الدولة من دعم العملية التعليمية تدريجيًا.
وحتى بعد 1952، هناك من يقارن بين حال مصر أيام حكم عبد الناصر، وما هي فيه الآن، على مستوى التنمية، والدور المحوري في المحيط الإقليمي والدولي، والسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي وسَّعت نطاق الطبقة الوسطى، وتمكين أبنائها من لعب دور مهم في بناء الدولة، في وقت تتآكل فيه هذه الطبقة اليوم، ويُبعد أبناؤها النابهون من إدارة الدولة.
بل إن مقارنة لحظتنا الراهنة امتدت في رأي البعض، لتصل إلى هزيمة يونيو 1967، وتخلص لأن حالنا كان أفضل مما هو عليه الآن. تستند هذه الرؤية إلى اعتبارات لا تخلو من وجاهة، في مقدمتها ما يتعلق بفاعلية النظام وحيوية المجتمع، وكلاهما رفض الهزيمة، فهبط المصريون إلى الشوارع هاتفين هنحارب.. هنحارب، وأطلقوا قدراتهم لدعم المجهود الحربي، لمساعدة الجيش الذي سرعان ما خاض حربَ استنزاف، وأعاد بناء وتسليح نفسه استعدادًا لحرب استعادة سيناء من قبضة الاحتلال الإسرائيلي.
في الوقت نفسه لم تفقد مصر دعم محيطها العربي، لا سيما بعد انعقاد مؤتمر الخرطوم بعد شهرين من الهزيمة، ولم تفقد السلطة المصرية فاعلية علاقاتها الدولية التي دارت في ركاب حركة عدم الانحياز، أو مساندة حركات التحرر في أفريقيا، أو الوقوف إلى جانب الحق الفلسطيني.
أما الآن، فهناك من يعتبر مصر في حالة "هزيمة غير معلنة" أو "هزيمة بلا حرب"، اتكاءً على فَرضِ إثيوبيا إرادتها في قضية مياه النيل. وعلى نقيض الحال بعد هزيمة يونيو، فإنَّ العالم العربي اليوم لا يساند مصر بالقدر الكافي، بل هناك دول عربية تتخذ من السياسات ما يخدم الموقف الإثيوبي، ناهيك عن الانقسام العربي الواضح والفاضح حول القضية الفلسطينية، الذي بانت عوراته كاملة مع الإبادة الجماعية التي ينفذها الجيش الإسرائيلي في غزة.
نهاية الاستبداد المرن
لكنَّ هذه الرؤية تنسى جوهر المشكلة أو تتغافل عنه، ألا وهو الاستبداد، فهو في الحالة الأولى، ومع التعتيم والتنكيل وتقييد الإرادة الشعبية بالتخويف والإزاحة أو الإهمال، أدى إلى وقوع الهزيمة. وفي الحالة الثانية قاد إلى انفراد السلطة بأنَّ تتصرف وحدها في مصير النيل، بعيدًا عن عين الشعب، بل منعت قواه الفاعلة من التعبير عن رفضها المشروع الإثيوبي.
إذا كان مبارك مال إلى تعددية سياسية شكلية أو مقيدة فإن جوهر الاستبداد انتصر في النهاية
رفع الضباط ستة مبادئ لانقلابهم الذي التف حوله الناس فحولوه إلى مسار ثوري، لكنَّ سقوط هذه المبادئ تباعًا، لا سيما مع الثورة المضادة التي قادها السادات في نعومة، لم يُبق من ميراث يوليو سوى الاستبداد وتغليب الأمن على ما عداه، بما صنع ثقافة سياسية سلبية، انطوت على الاستهانة بالحريات العامة، وانفراد الحاكم بالقرار، وتغييب المؤسسات السياسية المتماسكة، وقتل البدائل بانتظام، والجور على حقوق الإنسان المصري.
وبمرور الوقت صار معيار نجاح نظام الحكم هو إطالة أمد بقاء رجاله مُمكَّنين من السلطة والثروة، وتبرير أي قرارات أو إجراءات تتم في هذا الاتجاه تحت شعار "الاستقرار والاستمرار"، وليس العمل على توفير عناصر القوة المادية والناعمة للدولة المصرية نفسها.
وإذا كانت سياسات عبد الناصر الاقتصادية والاجتماعية تختلف عن تلك التي تبناها السادات، فإن من خلفوا الاثنين لم يعودوا إلى ما كان عليه عبد الناصر، بل خاصموه، ولم يحتفظوا منه إلا بضعف المشاركة السياسية، وبيروقراطية مترهلة وفاسدة، وإدارة اقتصادية تفتقد الكفاءة، ليُفتح الباب على مصراعيه أمام الفساد والتبعية السياسية والاقتصادية، وإهمال الثقافة.
في عهد عبد الناصر كان لدى مصر "مشروع وطني" اتفق البعض معه، وتحمسوا له، وتحسروا عليه، أو خالفوه وخاصموه ونبذوه، لكنها مضت بعد حرب أكتوبر 1973 بلا مشروع، بل حزم من السياسات الارتجالية، فإن تحسَّن الحال اقتصر على خطط انشغلت بالمسائل الاقتصادية أكثر من غيرها.
وفي الولع بقياس الحاضر على الماضي أيضًا، يحلو لكثيرين المقارنة بين سنوات مبارك، قبل ثورة يناير، وسنوات السيسي، وهو أمر يغفل عدة أشياء، أولها أنَّ كثيرًا مما نحن فيه في السياسة والإدارة والأمن والاقتصاد والثقافة، هو رواسب ما تركه مبارك، الذي تقود جردة حساب بسيطة لعهده بالأرقام إلى إظهار الإخفاقات الهيكلية التي كانت تعاني منها الدولة المصرية. وثانيها أنَّ الثورة على مبارك غير مسؤولة عن مشكلات الحاضر، إنما هي نتاج إفشال الثورة نفسها. وثالثها أنَّ بعض سياسات مبارك لا تزال جارية، حتى لو ارتدت زيًا يبدو مختلفًا في نظر البعض.
وإذا كان مبارك مال إلى تعددية سياسية شكلية، أو مقيدة، وأفسح مجالًا لا بأس به لنقد السياسات العامة، ليُنفِّس كبت الجماهير ويطيل بقاءه، فإن هذا الميل سرعان ما تبدد، ليطغى جوهر السلطة ممثلًا في الاستبداد على شهور الأب الأخيرة التي انفرد فيها الابن بالحكم، لتؤمم الحياة السياسية، وتطلق يد الاحتكار الاقتصادي، بما أنهى حتى شكل "الاستبداد المرن" و"الفساد الرحيم" الذي كان سائدًا.
هذه الأمثلة تؤكد، إلى حد كبير، أنَّ المقارنة بين مختلف عهود الحكم تصدر عن نزعة عاطفية، وتخضع أحيانًا للميول الأيديولوجية عند البعض، وترتبط عند الأكثرية بالمصالح أو المنافع المباشرة التي كانت تحصل عليها، وهي تلهث وراء الحلول الفردية للمشكلات، غير عابئة بالسوس الذي ينخر في عظام الدولة.