ليست لديَّ أوهام رومانسية عن معنى "الشعب". فأنا لست ناصريًا لأراه القائد والمعلم بألف لام التعريف، ولا أؤمن بكونه روحًا عليا وإرادةً تاريخيةً تُحلِّق فوق وجود ماديٍّ وطنيٍّ، فتعطيه معنىً وعلةً للاستمرار.
أنا ماركسي يؤمن في التحليل الأخير بأنَّ الشعب في معناه الحديث تجلٍّ لإرادة وهيمنة البرجوازية والطبقات الحاكمة، لإرادة القوة والتنظيم والسردية. وأن إدارة هذه الإرادة برشدٍ يضمن استمرار المجموع في وجهة تقود تعايشهم المشترك، في مسيرٍ قادرٍ على إعادة إنتاج نفسه باستدامة وسلاسة قدر الإمكان، بحيث يضمن الحكام والمهيمنون في هذه العملية مكاسبهم وغنائمهم، ويتحمل المحكومون وطأة حياتهم بكثير من الصبر وبعض من الأمل والرضا.
وعليه، فلا توجد وفقًا لتصوراتي كتلة كلية مطلقة اسمها "الشعب"، بل هم "شعوب" وطبقات ومجتمعات وفئات وأجيال وميول، ومزيج ونكهات متفاوتة من كل ما سبق، تصهرها الإرادة القهارة للتحالف الطبقي الحاكم في سبيكة تسميها "شعب". فما يُسمَّى شعبًا ليس إلا تجربة اجتماعية مستمرة، وكل محاولات تعيينها هوياتيًا بخصائص وسمات ثابتة وأبدية، هي من قبيل الدجل والشعوذة.
الكادحون لا يصدقون العدمية
لهذه الأسباب، حاز المفكر الماركسي الإيطالي أنطونيو جرامشي على تقدير واهتمام من خصومه الفكريين، ربما أكثر من أبناء مدرسته النظرية، فهو الذي اهتم بأزمات هيمنة البرجوازية في لحظات الحراك الثوري وما يتبعها من فشل أو نجاح.
تتم الإطاحة بكل ما هو مشترك أورثته إيانا السردية الوطنية لصالح التهديد بالانهيار والحيلولة دونه في عملية ابتزاز لا تنتهي
تعمق جرامشي في محاولة الإمساك بالمكامن المادية والرمزية لهيمنة الكتل الحاكمة على مجتمعات ضعيفة أو غير مستقرة. بالطبع لم يكن جرامشي يفكر لصالح البرجوازية، بل تجسَّد همُّه الأكبر في سؤال عجز الطبقة العاملة الإيطالية عن إنفاذ هيمنتها المادية وتأسيس سلطتها السياسية، خلال الثورات التي اندلعت في أعقاب الحرب العالمية الأولى.
ولكنه دون أن يدري، كان يطرح نفس السؤال على خصوم الطبقة العامة، فأضحت طروحاته مع الزمن شديدة الأهمية والمركزية في الدوائر الأكاديمية الغربية ودليلًا عند كثير من خصومه السياسيين.
وليس على سبيل المبالغة اعتبار ما تعيشه مصر الآن ردة عن معنى الشعب وفقًا للمقاربة السابقة، فالكتل الحاكمة والمهيمنة في مصر تفتقر إلى رشد الإدارة والممارسة، وأيضًا إلى السردية المتماسكة التي تعقلن مسيرها بشكل يليق بوضع ومسؤوليات ومكانة دولة حديثة التنظيم والبنية.
أما مكون القوة التي تمتلكها فقد احتُكِر عضليًا بعد أن حُصِر داخل مربعات عسكرية وأمنية، تحكم عملها قواعد تعتبر الرشادة رخاوة، وترى في العقلانية ترددًا، وحالتنا المصرية تشارف على القضاء عليهما قضاءً مبرمًا.
تتآكل كافة عناصر وروافد الكتل الحاكمة والمهيمنة في مصر عدا قوة السلاح، الذي يستسيغ التعسف ويفرض الإذعان، مفتتنًا بفحولة الميري إلى حدود صاغ معها رسالة بالغة المصرية والمحلية والشعبية، وهي أننا لا نرى بينكم رجلًا. وشَّك في الأرض، ولا "ترفع رأسك" كما طلب منك جمال عبد الناصر.
تتم الإطاحة بكل ما هو مشترك جامع أورثته إيانا سردية الحركة الوطنية المصرية، لصالح التهديد بالانهيار والحيلولة دونه في نفس الوقت. عملية ابتزاز لا تنتهي.
بالطبع سياسة التهديد بالانهيار والحيلولة دونه موجهة بالأساس للطبقات الوسطى المتمسكة بأهداب الوطنية المصرية وسردياتها، فهي مهما خسرت يظل لديها المزيد لتخسره. أما عوام المصريين وبسطاؤهم، فليس لهم من المعز إلا سيفه. فهم لعشر سنوات يتعرضون لـقصاص ممنهج جراء مشاركتهم القصيرة والحذرة في ثورة يناير. وهو قصاص من العنف والاستباحة لا يعرف منه أبناء الطبقات الوسطى إلا القليل، أو ربما لا يريدون معرفته بحكم احترافهم المديد لفنون الإنكار والتواطؤ.
أغلب العوام من المصريين يعون ما أقوله جيدًا، بفطرة عجمتها التجربة اليومية. هم ليسوا جبناء أو وضعاء، وليسوا مجرد أجساد بلا كرامة، بل كينونات تأمل في مراكمة شروط كرامتها مع عدم التفريط في القليل الذي تحوزه منها، وأولها سترة رغيف الخبز والأمل في مستقبل أكثر رحمة للأبناء.
أما السؤال عن عزوف العامة عن أغلب دعوات التغيير التي يطلقها بعض من ينتمون لفئات اجتماعية أعلى على السلم الطبقي، وتشككهم فيها، فقد حاول المفكر الراحل سعد زهران الإجابة عنه محزونًا متألمًا بقوله "إنَّ الناس البسطاء العاديين حين يكونون في امتحان عسير، وهم كثيرًا ما يكونون، ويخلع عليهم صانعو المنشورات والخطب السياسية صفات البطولة، يدركون بحاستهم أنَّ تلك الأمجاد المبالغ فيها ليست إلا شركًا لاستدراجهم لمزيد من الآلام والتضحيات المجانية، أو هي جملة من طقوس يمارسها محترفو السياسة لكي يقبضوا ثمن آلام الآخرين وتضحياتهم".
معدلات انحطاط الفئات الاجتماعية المهيمنة أسرع من معدل انحطاط العامة
ما قاله سعد زهران في أواخر الستينيات، ربما يسهم في تفسير الأمر قليلًا هذه الأيام، فعوام الناس لن ينتفضوا لصالح قوى سياسية انتقامية حتى لو كان الانتقام والغضب من سمات انتفاضتهم هم. لن يُسلِّم العامة رقابهم لأفندية ومثقفين وساسة ليس لديهم من الشغف سوى الانتقام والمرارة. قد يرغب العامة في الغضب والانتقام شريطة أن يكون حصاد انتقامهم بناءً وليس تمكينًا لحفنة من المخبولين.
الكادحون لا ينزعون إلى الانتحار والعدمية إلا في لحظات استثنائية وعابرة، فالعدمية في النهاية ترف برجوازي، وحالة فانتازيِّة مدللة لمتعلمين عجزوا عن فهم العالم فقرروا محاكمته. ستظل المسارات العدمية نوعًا من "الدبدبة في الأرض" عند أغلب العامة، مهما كانت عنيفة أو مضحية، وحتى لو كان اسمها داعش.
عقلانية الرهان
في هذه الأيام العصيبة التي يختبر فيها أغلب عوام المصريين ما لا يطاق من فقر وقهر، أستطيع أن أتفهم عدم مراهنة وتعويل الأغلبية الصامتة المقهورة منهم على فئات اجتماعية، مشكلتها هي وقوع ضرر نسبي على أنماط حياتها التي أنتجتها في الأصل بنية سياسية واقتصادية واجتماعية صُممت خصيصًا لمصلحتها هي دون سواها.
يدرك العوام أنَّ هذه الفئات التي تتذمر الآن بسبب حرمانها من القدرة على استخدام بطاقات الائتمان في الخارج، عندما توضع في خيار بين التخلص من أسباب الضرر الواقع عليها حاليًا، أو الاحتماء بمتانة البنية الاجتماعية التي تنتمي إليها، ستختار الثانية بعد أن تبيعهم عند أول منعطف.
لكنَّ المفارقة التاريخية في مكرها تتجسد الآن في ميزان تداعي الانحطاط الحالي، الذي أصبح العامة بالقياس عليه أكثر نخبوية من نخبتهم، فمعدلات انحطاط الفئات الاجتماعية المهيمنة صار أسرع بكثير من معدل انحطاط العامة، في ضوء الفرص والإمكانات والامتيازات المتاحة لكل منهم. وهي حالة في مسارها قد تُنتِج نقطة تعادل ما، ربما تؤسس مقياسًا جديدًا يحدد معايير أخرى للغلبة، وسبق أن شرحت هذا في مقال سابق عن انهيار رؤوس الأموال الرمزية للإنتلجنسيا في مصر.
ولكنها ليست الإنتلجنسيا وحدها بل البرجوازية والدولة أيضًا، ولدرجة يصبح معها الرهان على العامة والجهلاء والدهماء أكثر حضاريةً وعقلانيةً وإنسانيةً وأملًا. شيء كالذي حلَّ على مصر في عهود ما بين الأسرات، تلك التي حولت الفرعون من إله ونصف إله إلى انسان مرعيٍّ من الآلهة.
عادة لا أحب استدعاء مقاربات تنتمي إلى آلافٍ مضت من الأعوام، وقت كان أغلب السكان من الأقنان والعبيد. ومقاربة الفراعنة هذه هنا ليست للفخر أو لتأصيل عمق الامتداد الحضاري المصري الذي لا أؤمن بامتداده البتة.
بل على العكس تمامًا، هي مقاربة تهدف إلى التعبير عن ما يلمُّ بنفسي من ازدراء عميق للوضع الحالي ودرجة ارتداده عن ما تخيلته يومًا رسوخًا ما لحداثة مصرية، لدرجة مقارنته بعهود القدماء. ولكن على كلِّ حال، كلنا أبناء الحركة الوطنية المصرية، مهما حاولنا الهرب من خيالها ومجازاتها.