على مدار عقود من الزمن هناك رؤى وتصورات، بعضها يحيل إلى دراسات أو استطلاعات ميدانية، تربط بين الفقر والتطرف، وتسحب جزءًا من الأخير، لينتقل من تشدد الفكر إلى ممارسة العنف السافر، وبذا تتصل العلاقة بين الفقر والإرهاب.
بالطبع فإن هذا التصور كان، ولا يزال، ابن الفكر اليساري، بأنواعه المتدرجة من الماركسية - اللينينية إلى الاشتراكية - الاعتدالية، وبعض الأيديولوجيات القومية التي عرفها العالم العربي مع مطلع النصف الثاني من القرن العشرين، وكان جوهر كل ذلك يقوم على أن الاحتياج المادي يؤدي إلى ثلاث نتائج.
الأولى هي ما يحدث نتيجة اختلال توزيع الثروة والموارد من غضب وحنق على الدولة والمجتمع، يدفع بالناس إلى الاحتجاج. وهذا يجد متنفسًا له في الرفض الذي تتبناه الجماعات والتنظيمات المتطرفة، سواء على مستوى الأفكار، أو مستوى الممارسات الواقعية، نظرًا لأن هذه التنظيمات تطرح نفسها في كثير من الدول باعتبارها تيار المعارضة القوية والحية والواعدة.
أما الثانية فتتمثل في الفرصة التي يتيحها الإفقار المنظم، عمدًا أو غير ذلك، لقادة التنظيمات المتطرفة لاستهداف الفقراء والمهمشين من الشباب، الذين يبحثون عن أي فرصة لكسب ما يقتاتون به، أو يقيم أودهم، ويبقيهم على قيد الحياة. وأحيانًا نجد في أدبيات هذه التنظيمات أو تلميحاتها ما يُشير إلى السير على خطى بعض المبشرين، الذي يستغلون الفقر لنشر المسيحية في مجتمعات معزولة تعيش في عوز شديد.
ثالثًا وأخيرًا؛ هو أن يؤدي الإرهاب نفسه إلى الإفقار، وهذا يتم إما بشكل مفرط وجارح كهروب الاستثمارات من البلاد التي تشهد إرهابًا متواصلًا، أو عدم تمكن الدولة من تنمية أو حماية المناطق التي تستهدفها التنظيمات المسلحة، وإما يحدث بشكل أقل إفراطًا جراء استحلال هذه التنظيمات لأموال المواطنين لجمع ما يمكنها من مصادر لتمويل أنشطتها.
أسباب معنوية للتطرف
لكنَّ هذه الرؤية اليسارية لاقت انتقادات دائمة من قبل أولئك الذين يستندون إلى دراسات ميدانية مضادة، أو إلى تحليل عميق لأفكار فقراء المتطرفين وممارساتهم، حيث يعزونها إلى أربعة أمور أخرى.
1 ـ البحث عن حماية أو ملاذ، إذ أن بعض المهمشين أو المستبعدين اجتماعيًا أو المهملين، يبحثون عن سند أو عزوة لهم، ويجدونها في جماعات منظمة متماسكة، يدها ليست مغلولة، بل مبسوطة ببعض المال أو القدرة على إيذاء الخصوم.
وهناك أدلة كثيرة على أنَّ ما دفع بعض الشباب، خصوصًا في الريف، للانتماء لهذه الجماعات، هو أن هؤلاء ينحدرون من عائلات صغيرة وفقيرة، تمارس عليها العائلات الأكبر، قدرًا من الاستعلاء والازدراء. الأمر نفسه ينطبق على المجتمعات القَبَلية، حيث يجد بعض أبناء القبائل صغيرة العدد أنفسهم في حاجة للانضمام لأبنية اجتماعية مختلفة، أقوى منزلة، وأعلى جبهة، ولديها قدرة على تجاوز القبيلة التقليدية في كثير من الأحيان، وممارسة نفوذ موازٍ، يسعى إلى التغلب.
2 ـ اختصام المجتمع والدولة لأسباب قيمية، تتكئ بالطبع على التصور الديني الذي يتبناه المتطرفون. فهؤلاء يرون أن القيم السائدة في المجتمع لا تعبر عنهم، أو بالأحرى لا تعكس الأيديولوجية التي يظنون أنها تنطق بلسان الإسلام، والتي يجب على جميع المسلمين من حولهم التمسك بل والاحتفاء، وإعلائها على ما عداها، أيًا كان؛ سواء قيم تقليدية متوارثة أو أخرى عصرية نتيجة التفاعل مع واقع متجدد أو الاحتكاك بثقافات ومجتمعات مغايرة.
أيًّا كان الخلاف حول علاقة الفقر بالإرهاب، فلا يمكن استبعاده من الأسباب
3 ـ ينزع التصور الاقتصادي الذي تتبناه الجماعات والتنظيمات السياسية الإسلامية عمومًا، المتطرف منها والمعتدل، إلى الرأسمالية، ويعتقد منظرو هذه التنظيمات وأتباعها أن هذا هو المسلك الحياتي الذي يعبر عنها في عالم الأصالة والوكالة، والحلال والحرام، والبيع والشراء، والتملك والاستئجار، والمزارعة والمضاربة.. إلخ.
ويميل هؤلاء أكثر إلى أن الحياة مجبولة على التدرج والتفاوت، شرط أن يكون للفقراء والمساكين في عنق الأغنياء زكاة، وهي فريضة، وصدقات، وهي واجبة. من هنا يصعب على هذه التنظيمات تبنَّي الأفكار الإسلامية التي تتحدث عن "العدل الاجتماعي" باعتباره من جواهر الدين، التي يجب أن تقام وتعلو.
ظهر هذا جليًا، على سبيل المثال لا الحصر، في تهميش المسار الذي قطعه أبو ذر الغفاري، والانشغال بالعدل السياسي في سلوك عمر بن الخطاب أكثر من العدل الاجتماعي، ورفض كل ما قيل وكتب عن "اشتراكية الإسلام" وفي مقدمتها كتاب مصطفى السباعي.
بل إن أكبر منظر لدى التنظيمات المتطرفة؛ سيد قطب، فترت همّته حيال كتابه العدالة الاجتماعية في الإسلام، ثم أتى من متبعي أفكاره من أهملوا ذلك الكتاب بقسوة، وزعموا أن قطب قال في آخر حياته إن ما يريد له العيش من مؤلفاته هما "معالم في الطريق" و"في ظلال القرآن".
4 ـ من الخطأ، بل الخطل، أن نُرجع كل سلوك اجتماعي إلى أسباب مادية، أو بمعنى أكثر تحديدًا إلى "الصراع الطبقي"، فكثير من التصرفات ترتبط بمسائل معنوية ورمزية.
ويستدل هؤلاء في طرحهم المضاد على أن بعض قادة التنظيمات المتطرفة والإرهابية كانوا من أبناء العائلات الموسرة، والمثل الصارخ الذي طالما ظل يُضرب في هذا الاتجاه هو أسامة بن لادن؛ رجل الأعمال الذي سخَّر ثروته لخدمة فكرته، ونائبه في قيادة تنظيم القاعدة أيمن الظواهري؛ ابن العائلة المصرية المنتمية للشريحة العليا من الطبقة الوسطى. وعلى المنوال ذاته، ولو بدرجة أقل، يأتي وضع العناصر الفاعلة في بعض التنظيمات ومنهم الذين كانوا يدرسون في كليات الطب والهندسة والعلوم، ويعدهم التعليم بحراك اجتماعي يأخذهم إلى الأمام دومًا.
الفقر حاضرٌ دومًا
لكن أيًّا كان الخلاف الفكري أو الفقهي حول حجية الفقر في إنتاج التشدد، ودفعه إلى الإرهاب، فلا يمكن استبعاده من الأسباب المتعلقة بهذا السلوك، إن لم يكن بإنتاجه، فعلى الأقل بتغذيته أو تحفيزه بطريقتين؛ نصب فخاخ لصيد بعض شباب الفقراء، وضمهم إلى التنظيمات المتطرفة والإرهابية، وتوظيف الفقر في إزكاء النزعات الاحتجاجية ضد الدولة، التي تصارعها هذه التنظيمات على الشرعية السياسية والمشروعية القانونية. ثم جاءت العولمة، وفي ركابها ثورة الاتصالات الرهيبة، لتدفع هذا التوجه إلى الأمام.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد؛ فبإمكان هذه الجماعات أن تستغل ما يترتب على الانهيار الاقتصادي في التسلل إلى أماكن المستبعدين اجتماعيًا، ثم السيطرة عليها، بعد أن تخف قبضة الدولة المركزية فيها، أو تتراجع شرعيتها الأخلاقية والسياسية لدى أهلها، مع عجز الحكومة عن إنقاذ الناس من مجاعة مهلكة. فوقتها يمكن لهذه الجماعات أن تقدم نفسها بديلًا للسلطة المركزية، لا سيما إذا وجد قادة المتطرفين من يمدهم بالمال من الخارج ليستغلهم في تحقيق أهدافه.
وهذا التصور لم يقف عند حد اليسار، بل بدا الجميع مقتنعين به، وهي مسألة ترجمتها استراتيجية الأمم المتحدة العالمية لمكافحة الإرهاب، وورد بها قرار الجمعية العامة، وخطة عمل قدمها الأمين العام لمنع التطرف العنيف (A/70/674)، وضعت من ضمن الأسباب التي تؤدي إلى التطرف قلة الفرص الاجتماعية والاقتصادية والتهميش والتمييز جنبًا إلى جنب مع سوء الإدارة، وانتهاكات حقوق الإنسان وسيادة القانون، ونشوب النزاعات طويلة الأمد، ونشر الفكر المتشدد في السجون.
تنتظر تنظيمات متطرفة في دول عربية وإسلامية إخفاق الحكومات في توفير القوت للشعوب
وهنا يقول آدم الحريكة، مدير إدارة الاقتصاد الكلي باللجنة الاقتصادية لإفريقيا التابعة للأمم المتحدة، إن نحو 40% من سكان القارة السمراء يعانون من الفقر، الناجم في جانب منه عن عدم المساواة في توزيع الثروة والموارد.
جماعات تنتظر الإخفاق
هناك الكثير من التنظيمات المتطرفة متعددة المشارب والاتجاهات، معظمها ينشط في مناطق مهمشة في إفريقيا مثل "بوكو حرام"، و"القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، و"جماعة المرابطون"، و"حركة الشباب الصومالية"، وجماعة "نصرة الإٍسلام والمسلمين" في مالي وغيرها، إلى جانب "جيش الرب" المسيحي الموجود في أوغندا، تستفيد من انتشار الفقر.
وحتى في شمال سوريا، وفق تقرير المرصد السوري لحقوق الإنسان، تدفع الظروف الاقتصادية والمعيشية كثيرًا من الشباب إلى الانضمام إلى بعض التيارات الإرهابية وعلى رأسها هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا)، بغية الاستفادة من المرتبات والحوافز الشهرية التي تتيحها هذه التنظيمات، لا سيما بعد أن تبنت هذه الجماعة المتطرفة مظالم الناس الاقتصادية ضمن تصوراتها أو برامجها.
لقد تعددت، من قبل، أسباب ضعف قبضة الدول على بعض مناطقها أو أقاليمها، لا سيما الطرفية منها، واليوم يمكن أن يتعزز سبب جديد مع شبح المجاعة التي تهدد العالم، إثر تداعيات الحرب الروسية مع الناتو على أرض أوكرانيا.
فالبلدان المشتبكان مباشرة في هذه الحرب يشكلان المصدر الأكبر للحبوب والزيوت وكثير من الأغذية لأغلب دول العالم، وفي قلبها دول عربية وإسلامية، تنتظر تنظيمات متطرفة فيها إخفاق الحكومات في توفير القوت للشعوب، فتعمل الجماعات السياسية الإسلامية إلى إسقاط السلطات، وتحل مكانها، أو على الأقل تصير رقمًا في المجتمع.
إن من يحلل الخطاب السياسي لهذه الجماعات اليوم يجده مفعمًا بشماتة جارحة في سلطات كثير من الدول المسلمة، لأنها تعجز عن تلبية احتياجات الناس، وأن الفقر المدقع الذي ينتظرهم والمجاعة التي ستجتاحهم، لا محالة، ستجرف معها هذه الحكومات. بل إن هذا الخطاب لا يقتصر على الشماتة والتشفي، إنما يمتد إلى توعدها بالسقوط على أيدي جماعات الإسلام السياسي، التي لا تزال تشكل في كثير من الدول بديلًا مطروحًا في ظل ضعف القوى المدنية.