أعطت السلطة السياسية، في وقت قصير خلال الأسابيع الماضية، ثلاث إشارات متضاربة، انتقل فيها التفاؤل إلى تشاؤم، وأصبح البشير نذيرًا. بدأت على هيئة إجراءات إصلاحية من شأنها تحسين حياة المصريين قليلًا، قبل أن تلحق بها إجراءات تفرغها من معناها.
ثلاث مرات تحول شعور المصريين بالارتياح العابر إلى قلق مقيم، يضاف إلى سنوات أخرى من تراجع المصداقية واهتزاز الثقة، وإدراك كثيرين أن فخاخ الخداع لا تزال هي الأكثر تعبيرًا عن السياسات العامة في حقيقتها.
وهذا لم يحدث في تاريخ مصر الحديث والمعاصر من قبل بهذه الكثافة.
تخفيف الحبس مع إهدار العدالة
أول هذه الإشارات يخص آلاف المحبوسين احتياطيًا وعائلاتهم. في البداية، تحدثت السلطة السياسية عن تخفيض الحدود القصوى القانونية للحبس الاحتياطي، فقال الناس: إنه الخير وهي البشارة، وهو التغيير بعد سنوات التحجر. لكن من اعتادوا هذه الألاعيب وضعوا أيديهم على قلوبهم خوفًا من محنة قادمة، وصدق حدسهم، عندما أطلَّ بعدها بأيام مشروع قانون الإجراءات الجنائية، الذي سيعصف بالكثير من حقوق المصريين، ويجعل إقامة العدل في خطر أشد، بما فيها مسألة الحبس الاحتياطي نفسه.
فبعد أن حوّلت السلطة، في تقييدها للمجال العام، المحاماةَ في القضايا السياسية إلى مجرد وساطة بين السجين وأهله، كما يعترف عدد كبير من المحامين العاملين في هذا المسار، نرى الآن محاولة للقضاء على هذه المهنة تمامًا بمشروع قانون الإجراءات الجنائية هذا، الذي يتحمس البعض لمواد يرونها إيجابية فيه، لكنها أشبه بثمرات الفاكهة السليمة التي يضعها التاجر غير الأمين لتداري ثمارًا أكثر معطوبة، بما يجعل الضرر أضعاف الفائدة.
تبدو السلطة هنا وكأنها تعطي قطرة باليد اليمنى ثم تأخذ الكأس كله باليسرى
ولا يمكنني أن أغادر هذه النقطة دون أن أقول إنه بمناسبة المدافعين عن قانون الإجراءات الجنائية المعيب جدًا، ومن يريدون تمريره الآن فوق قنطرة برلمان لا يمثل إلا أعضاءه، أتذكر قول الكاتب الصحفي الكبير كامل زهيري، رحمة الله عليه، "من حفر قانونًا لأخيه، وقع فيه". وهي مسألة لا ينتبه أو يلتفت إليها المؤيدون للسلطة الراهنة في أقوالها وأفعالها، ولا يدري هؤلاء أن الأيام دول، وأن ما يعتقدون أنهم بعيدون عنه اليوم قد يطولهم في الغد، وأسرع مما يتصورون.
وهنا أظن أن الإجراءات التلطيفية التي تحدث الآن حول الحبس الاحتياطي والسجناء، على أهميتها، لا تعدو إجراءات تمس السطح، بينما بلادنا في حاجة للوصول إلى الجذور البعيدة جدًا. وجاء قانون الإجراءات الجنائية ليبدد أغلبها. ولا أعتقد أن العاملين على سن هذا القانون سيلتفتون إلى الأصوات التي تصرخ محذرة من الأضرار الجسيمة التي ستترتب عليه.
قطاع خاص متآكل
أما الإشارة الثانية، فتتعلق باجتماع المهندس كامل الوزير، الذي يجمع وزارتي النقل والصناعة، مع عدد من أصحاب المصانع لخمس ساعات، استطاع فيها حل مشاكل 73 مصنعًا مغلقًا حسبما أبلغنا الإعلام الحكومي، دون أن يخبرنا كيف ستترجم هذه الوعود عمليًا، بشكل مضمون ومستمر، لا مجرد "فض مجالس".
ابتداءً، على وزير الصناعة أو رئيس الوزراء أن يعقد اجتماعات متواصلة مع أصحاب المصانع ويستمع إلى شكواهم، ويحيل في الحال كل مشكلة إلى الجهة التي تحلها. مع ضرورة المتابعة الدؤوبة، فحتى لو كانت هناك بعض المخالفات، فلا ضير من التشغيل، لأن توقف المصنع فيه ضرر أكبر من أي مخالفة.
لم يحدث ذلك طيلة عشر سنوات، ضيعوها بمعاندة المنطق والعلم، وتوهم امتلاك الحقيقة والإلمام بالمصلحة العامة وحدهم. ساروا في طريق الاحتكار وادعاء معرفة كل أمر، والرغبة في القبض على أي شيء، فتبددت أموال طائلة لقاء ضجيج يصنعه طحن الفشل المركب، الذي عانى منه أصحاب المصانع والورش، حتى خرجت من الخدمة تباعًا، ما أثر سلبًا على القدرة الإنتاجية للمجتمع المصري.
لكن بعد أن جاءت هذه الإشارة الجيدة للوزير، يحضر السؤال: هل هناك ما يبددها؟ والإجابة التي تأتي على الفور هي بالإيجاب للأسف. ففي الوقت الذي كان فيه كامل الوزير يتحدث عن حل مشكلات بعض الصناع، كانت هناك تقارير تبين زيادة معدل الاحتكار والاستحواذ داخل الاقتصاد المصري، بما يجور على فرص القطاع الخاص، الذي تقلص إسهامه في الاقتصاد الوطني من نحو 70% قبل عشر سنوات إلى حوالي 26% فقط.
تدني "الحد الأدنى" قبل تطبيقه
والإشارة الثالثة كانت مع اقتراب تطبيق قرار رفع الحد الأدنى للأجور إلى ستة آلاف جنيه شهريًا، وهو رقم ضئيل قياسًا بالقوة الشرائية للجنيه في الوقت الراهن، لكن الناس تفاءلوا وقالوا: أفضل من إبقائنا عند الحدود التي نتقاضاها الآن، وانتظروا تحقيق الوعد.
لكنهم بالتزامن مع تحقيقه، فوجئوا برفعٍ آخر لأسعار الوقود، ترتبت عليه زيادة جديدة في أسعار السلع، حتى لم تعد ملايين الأسر قادرة على توفير غذاء مناسب لها، ناهيك عن الإنفاق على إيجار السكن والتعليم والكساء والدواء. وبعدها جاء حديث آخر عن زيادة الضرائب، دون وعد بتقديم أي خدمات، وهو وضع لا مثيل له في العالم لدولة تتخفف من مسؤولياتها حيال المواطنين، وفي الوقت نفسه تلقي عليهم المزيد من الأعباء.
ثم بدأت الأخبار تتوالى عن أن صندوق النقد الدولي يريد تحريرًا جديدًا لسعر الجنيه في وجه الدولار، وسحبًا لما تبقى من دعم تقدمه الدولة، ما يعني توعكًا أكثر للناس، الذين أعيتهم الحيل في معرفة كيف يستمرون على قيد حياة تقف عند حد الكفاف.
تبدو السلطة هنا وكأنها تعطي قطرة باليد اليمنى، ثم تأخذ الكأس كلها باليسرى. وقد رأينا هذا يحدث مرات، حتى صار في حكم "العلم العام"، إذ في البداية تنبهت النخبة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية والثقافية المصرية، لهذه الخاصية التي تتسم بها سياسات السلطة الحالية، ثم تساقط الأمر على رؤوس الشعب كله، إلى أن بات يعرف ويؤمن بأنه حين يسمع عن شيء مفرح قصير الأجل، فعليه أن يستعد لأحزان طويلة.
إن ما ذكرته في هذا المقام هي مجرد إشارات ثلاث هي وليدة الأيام الأخيرة، وقبلها مرت إشارات أخرى كثيرة، تعد وتخلف، وتتعهد ثم تتنصل، لتتسع مع الأيام الفجوة بين الشعب والسلطة على مقياس المصداقية والثقة، وهو أمر غاية في الخطورة على المشروعية والشرعية معًا، وعلى التماسك والتعاون والتكافل الاجتماعي، وكذلك على الانتماء والولاء.
خلاصة القول، من النظر في إمعان إلى هذه النقاط أو الإشارات، أن مراجعة السلطة للسياسات وتغييرها، بعد ثبوت عدم صوابها، يجب ألا يكون خفيفًا ومرواغًا هكذا، أشبه باهتزاز سطح الماء لهبوب الريح، إنما من الضروري أن يغوص إلى الأعماق السحيقة، هادفًا إلى إصلاح حقيقي، وليس مجرد كسب الوقت. يجب ألَّا يكون أشبه بالنور المبهر الذي ينطلق فجأة، فنفرح لبهائه، وننسى أنه يعمينا عن رؤية أشياء كثيرة سلبية ومقبضة، تتوارى مؤقتًا، ثم تظهر بغتة، وبلا تردد، لتقبض على النفوس والقلوب والجيوب.