بمجرد إعلان لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية بمجلس النواب الانتهاء من مناقشة 380 مادة من مشروع قانون الإجراءات الجنائية، طالب مجموعة من الحقوقيين والمحامين والكتاب والصحفيين بسحب مشروع القانون ووقف مناقشته، محذرين من تأثيره السلبي على حقوق وحريات المواطنين الأساسية المصونة بموجب الدستور والمواثيق الدولية.
تفاعلًا مع هذا الرفض، أصدر خالد البلشي نقيب الصحفيين خطاب تضامن مع نقيب المحامين، ثم في خلال ساعات دعت نقابة الصحفيين لندوة لمناقشة مشروع القانون.
قبل الندوة بدقائق، استجابت لجنة الشؤون الدستورية لواحد من مطالب نقيب الصحفيين، كما استضافت اللجنة نقيب المحامين الذي شارك في مناقشات أمس، التي شهدت إجراء تعديلات طفيفة على بعض النصوص الخاصة بالمحامين.
مع تثمين نقيب الصحفيين لاستجابة لجنة الشؤون الدستورية لأحد مطالبه، فإنه حذر من تمرير مشروع القانون دون نقاش مجتمعي، فيما رأى المحامي الحقوقي ناصر أمين أن "المشروع لو مر سنكون شركاء في تدمير ضمانات ممنوحة للمواطنين"، قائلًا إنه مشوب بعشرة مطاعن جوهرية "بيحاول حذف أي رقابة على ممارسات النيابة العامة، وبيلغي دور محكمة النقض، وبيتيح تصحيح الإجراءات الباطلة".
كذلك حذر وكيل نقابة المحامين السابق جمال سويد من "53 كارثة وقنبلة موقوتة في المشروع الجديد"، مستخلصًا "إن مر، قل على العدالة يا رحمن يا رحيم"، ومطالبًا بالإبقاء على قانون الإجراءات الجنائية الحالي.
لماذا كل هذه الضجة؟
بدأت الندوة التي عقدت لمناقشة مشروع القانون بعد تسريب أخبار من داخل اجتماع لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية عن حذف المادة 267 من المشروع، التي تحظر "نشر أخبار أو معلومات عن وقائع الجلسات على نحو غير أمين، يؤثر على حسن سير العدالة"، وهي المادة التي سبق واعترضت عليها نقابة الصحفيين.
رغم ذلك، شدد البلشي على ضرورة إجراء حوار مجتمعي، قائلًا "القوانين ما ينفعش تنفرد بها لجنة".
يشير النقيب إلى أن المشروع الجديد يقنن بعض الممارسات الاستثنائية من جانب سلطات الضبط أو التحقيق التي تنتقص من حقوق المواطنين، ويحذر "تقنين الاستثنائي يجلعنا نخسر، وربما تخسر منظومة العدالة وأطرافها بفقدان الثقة فيها".
مشروع القانون يهدد حق الصحفيين في تغطية المحاكمات
يُذكّر البلشي بضرورة تعديل المادة 266 من مشروع القانون التي تقيد تغطية الصحفيين للمحاكمات قائلًا إنها "تعكس فلسفة التقييد باشتراط الموافقة الكتابية من رئيس الدائرة على نقل وبث وقائع الجلسات"، بينما يرى أنه "لا حاجة للموافقة الكتابية من رئيس الدائرة. يكفي أن يسمح لنا القاضي المسيطر على الجلسة بالتغطية".
فيما يخص الصحفيين من القانون، يفرق النقيب بين تغطية الجلسات ونقل وقائعها والبث المباشر لها "عندنا تحفظات على البث المباشر للجلسات لكن لا تحظر قدرتي على نقل ما يجري".
المكسب القريب والخسارة الأكيدة
بدت النصوص المقترحة لتخفيض مدد الحبس الاحتياطي هي العنوان الذي يروج من خلاله مجلس النواب وأنصار مشروع القانون للتعديلات، لكن بالنظر إلى المشروع الكامل وفلسفته، لا يعتبر البعض تلك النصوص مبررًا لتغيير القانون برمته.
يتحفظ البلشي على قصر مشكلة الحبس الاحتياطي المستمرة في مصر منذ أكثر من عشر سنوات على المدد المنصوص عليها في القانون "الموضوع ليس مدد، لو لم نعدل النصوص وأبقينا على القانون الحالي سيخرج 16 صحفيًا من المحبوسين احتياطيًا على الفور"، مشيرًا إلى أن عدد الصحفيين المحبوسين احتياطيًا 23 صحفيًا. وبالتالي يرى أنها مكسب قريب يرفضه إدراكًا منه للخسارة البعيدة.
بقاء الوضع على ما هو عليه أفضل من التغيير في ظل التربص بالحريات
يتفق وكيل نقابة الصحفيين محمد سعد عبد الحفيظ مع البلشي، محذرًا من إجراء تغييرات كبيرة على القوانين التي ترتبط بالحقوق والحريات في الوضع الحالي "منذ عشر سنوات لا يوجد توازن في المجتمع، لا يوجد ممثلون حقيقيون يدافعون عن حقوق المجتمع وحرياته، ولا منظمات مجتمع مدني فاعلة، ولا نقابات قادرة على خوض معارك حتى النهاية".
يعتقد عبد الحفيظ أن مواد الحبس الاحتياطي هي محاولة للترويج للقانون "لكن المشروع فيه كوارث"، مشيرًا إلى وجود "أطراف متربصة بالحقوق والحريات"، ولهذا يستبعد إمكانية تحقيق توازن في مشروع القانون حتى بعد الاستجابة لبعض التعديلات، مبينًا أن "الأزمة في فلسفته"، وهو ما يدفعه للمطالبة ببقاء الوضع كما هو عليه "مش هنطالب تاني بأي تعديلات للحبس الاحتياطي، مش عايزين".
المحامي "طيشة"
فيما اعتبر المحامي الحقوقي وعضو مجلس أمناء الحوار الوطني نجاد البرعي أن مشروع القانون لم يلب توصيات الحوار الوطني الذي سبق وناقش مشكلة الحبس الاحتياطي خلال جلستين.
ولفت البرعي إلى أن تسميته بقانون جديد غير دقيقة "75% من نصوص المشروع موجودة في القانون الحالي"، متوقفًا عند محاولات المشروع تقنين الممارسات غير قانونية "التقاضي عن بعد، الذي يطبق حاليًا في جلسات تجديد الحبس عبر الفيديو كونفرانس، ده غير قانوني لأنه لا يجوز أن تفصل بين المتهم ومحاميه"، مضيفًا "المتهم في سجن الله أعلم بيحصل له إيه والمحامي بعيد".
يعيب البرعي على المشروع "إنه خلى المحامي طيشة"، وذلك عن طريق منع وكيل النيابة المحامي من الحصول على أوراق القضية، فالأمر متروك لتقديره "رغم أن القانون الحالي يتيح ذلك على نفقة المحامي"، كما يمنح المشروع وكيل النيابة سلطة منع المحامي من الكلام "ما أقدرش أتكلم دون إذن وكيل النيابة أو أطرد من الأوضة".
نصوص المنع من السفر تجعل المواطن أسيرًا في بلده
يتساءل البرعي "ماذا لو وكيل النيابة قام هبش المتهم؟ ما أقدرش أثبت الملحوظة، لأنه من حقه الامتناع عن إثباتها ومن حقه يطردني، طب هأروح النيابة أعمل إيه؟".
يتفق معه جمال سويد، المحامي بالنقض ووكيل نقابة المحامين السابق "شغلتي هي الكلام، إن مُنعت من الكلام فليس لي دور. ما أقدرش أدفع بطلان أو أُبدي ملحوظة أو أتساءل المتهم محطوط في إيده حديد ليه، لأن لو عضو النيابة قاللي أسكت فلازم أخرس". وتمسك ناصر أمين "المحامي يتكلم وقت ما يعوز في التحقيق... تثبت ملاحظتي وتكمل تحقيقك".
يتوقف البرعي كذلك أمام النصوص التي تتعلق بالمنع من السفر والتصرف في الأموال، والتي "تجعل الشخص أسيرًا داخل البلد"، يقولها مشيرًا إلى ناصر أمين الذي يجلس بجانبه "عندنا ناصر أهه، هذا حقيقي، عندنا حالات موجودة". كانت السلطات منعت أمين من السفر منذ يوليو/تموز 2016 وحتى الآن.
يؤكد البرعي أن عدم وجود فترة محددة تنتهي خلالها النيابة من التحقيقات، يفتح الباب لاستدامة القيود المفروضة على المواطنين "النيابة تقدر تخلي المتهم ممنوع من التصرف في أمواله وأموال عائلته وتقوله روح اتظلم كل 3 أشهر، طب وبعدين؟ كيف لا توجد مدة بينية".
يستند البرعي إلى بيان الرئيس عبد الفتاح السيسي، حول توصيات الحوار الوطني "الريس قال الحبس الاحتياطي لا يتحول لعقوبة"، ويوضح التناقض الواقع "ولكن هنا ممكن يتحول لعقوبة لأن مفيش مدة بينية تنتهي فيها الأشياء".
كما لفت البرعي إلى أن بيان الرئيس أكد على وجوب الأخذ بالتدابير الاحترازية بينما نص مشروع القانون على جواز التخلي عن التدابير لصالح الحبس، ولم يلزم النيابة بالبدء بها.
يتوقف البرعي كذلك أمام "حق الدفاع بالأصالة أو الوكالة والمكفول بالدستور"، قائلًا إن المشروع الحالي يمنع حق الدفاع بالوكالة، ويُلزم حضور المتهم، ويتساءل "محكمة الجنايات تطلب الموكل ليه؟ الجنح تطلب الموكل ليه؟ عايز المتهم ليه في الجلسة؟ علشان تبهدله".
يحذر البرعي من تمرير مشروع القانون "لن يُنجي أي حد، ومش هينفعك في الـ UPR"، في إشارة إلى المراجعة الدورية الشاملة المنتظرة لمصر بالمجلس الدولي لحقوق الإنسان في أكتوبر/تشرين الأول المقبل.
أزمة تنفيذ الأحكام الغيابية
تبقى سرعة مناقشة مشروع القانون وتكثيف اجتماعات اللجنة التشريعية مشكلة، اعتبرها محمد عثمان نقيب محامي القاهرة الأسبق عودة لـ"سلق القوانين".
يتوقف عثمان أمام النص الخاص بالأحكام الغيابية، مشيرًا إلى أن مشروع القانون يبيح التحفظ على أموال المحكوم عليه غيابيًا، وهو ما اعتبره "نصًا شاذًا وجريمة قانونية".
النص يتيح تنفيذ الأحكام الغيابية على المتهمين
يضيف "قد يكون من وضع النص يقصد اقتصاص حق الدولة في المسائل الضريبية، لكن ذلك يمكن النص عليه في قانون الضرائب ولا بد من حذفه من قانون الإجراءات".
يلفت سويد أيضًا إلى نص خطير يتيح تنفيذ الأحكام الغيابية بما يتناقض مع حقوق المتهم، فتنص المادة 370 من المشروع على أن "ينفذ من الحكم الغيابي كل العقوبات التي يمكن تنفيذها"، وهو ما يفتح الباب لتفسيرات مطاطة ويتيح تطبيق أي عقوبات على المتهم.
يسعى مشروع القانون إلى تكريس عدم فصل سلطة الاتهام عن التحقيق، حسب عثمان، وهو ما يطالب بعكسه الحقوقيون والمحامون منذ سنوات طويلة. يوضح عثمان أن المشروع يمنح رجال الضبط، ومنهم أعضاء النيابة وضباط الشرطة وأمناء الشرطة، خلال جمع الاستدلالات، سماع أقوال من يكون لديهم معلومات عن الواقعة، والاستعانة بالأطباء وأهل الخبرة وطلب الرأي شفهيًا أو كتابةً.
يعتبر عثمان أن ضابط الشرطة أو جهات الضبط والاستدلال لها عقيدة من الصعب أن تُمنح معها سلطة الاستجواب، مشددًا على أن هذا يتنافى مع فلسفة العدالة "في كثير من القضايا بندفع ببطلان الاستجواب".
متى بدأت خلخلة العدالة؟
يعتبر ناصر أمين رئيس المركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة، أن ما جرى على مدار عقد كامل من تغييرات في القوانين أساء إلى منظومة العدالة؛ وبدا المحامي لدى المحكمة الجنائية الدولية منفعلًا وغاضبًا خلال قوله "ما يجري هو تتويج لتوجه حصل من الحكومة منذ عشر سنوات حين صرحت تصريحًا واضحًا وعلنيًا بأن يد الدولة مقيدة بالعدالة".
يستعرض أمين التغييرات التي شهدها قانون العقوبات "في منتصف 2015 اتعمل قانون كامل بديل لقانون العقوبات المصري"، قاصدًا قانون مكافحة الإرهاب، وخاطب المشاركين في الندوة "باجتماعكم ده ممكن تلبسوا جريمة إرهابية".
يتضمن قانون الإرهاب مواد بديلة لقانون الإجراءات تضع قواعد خاصة للضبط والتفتيش والعرض، ويستثنى المؤسسات التي تطبقه من اتباع قانوني الإجراءات الجنائية أو العقوبات، حسب أمين.
يرصد أمين ضمن مشكلات قانون مكافحة الإرهاب أنه يعتبر 73 فعلًا جرائم إرهابية، يقول "أي مؤسسة على وجه الأرض، أيًا كان شكلها القانوني، ممكن تواجه تهمة المؤسسة الإرهابية، سواء شركة أو نقابة أو جمعية"، ويلفت إلى أن إجراءات القانون الاستثنائية أدت إلى "حبس عشرات الآلاف وضياع حقوق الدفاع والمتهمين"، مستخلصًا أن تغيير قانون الإجراءات الجنائية يهدف إلى شرعنة الممارسات الاستثنائية وتعميمها.
وفيما يخص مشروع قانون الإجراءات، حذر أمين من استمرار جمع النيابة بين سلطتي الاتهام والتحقيق قائلًا إنها تظل "جريمة حتى مع نزاهة المحقق"، مطالبًا بالرجوع إلى مضابط جلسات لجنة الخمسين لتفسير معنى جمع النيابة العامة بين سلطتي الاتهام والتحقيق.
المشروع لم يلزم المحكمة بسماع الشهود
يسترجع أمين الوضع السابق بقوله "محاكم مصر قالت إن انتهاك مشروعية قانون الإجراءات الجنائية ومخالفته أكبر من أي جريمة أخرى، فتعطي المتهم براءة"، مطالبًا بالتوقف عن إجراء أي تغييرات في قانون الإجراءات "عكوا في الحتت اللي إنت عايزها بس ما تجيش جنب أعمدة النظام الجنائي المصري".
النواب خارج المعادلة
في الوقت الذي تكثف فيه لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية في البرلمان عملها للانتهاء من المشروع وعرضه في الجلسات العامة في أكتوبر المقبل؛ يبدو أعضاء المجلس خارج معادلة تغيير القانون.
تقول النائبة مها عبد الناصر إن "اللجنة الفرعية لم تستدعني يومًا للمناقشة"، خاصة وأنها سبق وتقدمت بمشروع قانون بشأن ضوابط الحبس الاحتياطي.
تضيف مها "مفيش حد من النواب بيسمع حاجة عن اللي بيحصل، بنعرف من السوشيال ميديا أو من الجروبات"، مؤكدة أن أغلب مناقشات مشروع القانون تتم خلال الإجازة البرلمانية.
لا تعول النائبة كثيرًا على تغيير النصوص في مناقشات مجلس النواب "غالبًا المشروعات اللي بتدخل بتمر"، لكنها تقترح "تحديد المشكلات الكبيرة في المشروع، ووضع توصيات مشتركة من كل الحاضرين وإرسالها لكل جهات الدولة".
أوصى المحامون عزة سليمان وهيثم محمدين ومحمد عبد العزيز وماهينور المصري وآخرون بضرورة العمل ضد مشروع القانون الذي يهدر ضمانات المحاكمة العادلة ويعصف بالحقوق الدستورية والقانونية والقضائية المكتسبة للمواطنين، ومع ذلك ظل سؤال "هل يمكن تمرير المشروع بوضعه الحالي؟" بلا إجابة قاطعة وسط ضعف آليات المعارضة وفقدان الثقة في استماع أصحاب القرار لتحذيرات الرفض.