بعد مرور شهر كامل من رفع توصيات الحبس الاحتياطي للرئيس، نشر الحوار الوطني نص التوصيات التي سبق وتحفظ على نشرها لحساسية القضايا التي تتناولها، حسب عدة مصادر في مجلس أمناء الحوار الوطني.
جاء نشر التوصيات عقب اجتماع مجلس أمناء الحوار الوطني، بعد السجال الذي شهدته الأوساط السياسية بالتزامن مع مناقشة لجنة الشؤون الدستورية بمجلس النواب مشروع قانون جديد للإجراءات الجنائية، الذي لا تقتصر نصوصه على ضوابط الحبس الاحتياطي فقط، وإنما تتعلق بضوابط القبض والتحقيق وحقوق المتهم في التحقيقات وتنظيم حق الدفاع والمحاكمات.
تضمنت التوصيات عددًا من المطالبات للنائب العام لإصدار قرارات وتعليمات لوكلائه تتعلق بملف الحبس الاحتياطي وإيلاء النيابة أولوية اللجوء للتدابير البديلة للحبس، كما شملت العديد من التوصيات التي تتطلب تدخلات تشريعية يتعامل معها مجلس النواب، وهو ما نتطرق له في هذه السطور متوقفين أمام نصوص يعلن البرلمان استجابته لها، وأخرى تجاهلها فضلًا عن مطالبات أخرجها من مضمونها.
هل استجاب مجلس النواب للتوصيات؟
رغم إعلان مجلس النواب استجابته لتوصيات الحوار الوطني، فإن هذه الاستجابات لم تأتِ بعد رفع التوصيات من الرئيس للحكومة ثم إلى البرلمان، ولكنها نصوص معدة مسبقًا في اللجنة الفرعية التي أعدت مشروع القانون وانتهت منه في مارس/آذار الماضي قبل عقد جلسة مناقشة الحبس الاحتياطي في الحوار الوطني.
لكن غيرت اللجنة في نصوص تتعلق بملف الحبس الاحتياطي تصادف توافقها مع توصيات الحوار، فاعتبرها المجلس استجابة لمخرجاته. قلص مشروع القانون مدد الحبس الاحتياطي بحيث تصبح أربعة أشهر في الجنح (بدلًا من ستة)، واثني عشر شهرًا في الجنايات (بدلًا من ثمانية عشر)، وثمانية عشر شهرًا فى القضايا المتعلقة بالسجن المؤبد أو الإعدام (بدلًا من سنتين)، كما حدد المشروع مدة حبس المتهمين في محكمة النقض لمدة لا تتجاوز سنتين، بعدما كانت غير محددة في القانون القائم، كما سمح بالتظلم من قرارات الحبس الاحتياطي بالطرق الإلكترونية.
المشروع يتضمن "بلاوي" والحوار الوطني يعيد إرسال توصيات للرئيس
وأتاح مشروع القانون رفع دعاوى تعويض عن كل يوم حبس احتياطي، وهو نفس الاقتراح الوراد في توصيات الحوار، الذي اعتبر مجلس أمنائه أن مواد الحبس الاحتياطي الواردة بمشروع القانون تمثل استجابة "محمودة" للتوصيات.
في الوقت نفسه أكد بيان مجلس الأمناء أن "بعض التوصيات لم ترد بفلسفتها ومضمونها في مشروع القانون رغم ضرورتها وأهميتها للمعالجة الشاملة والمطلوبة لكل التفاصيل الأساسية لهذا الملف، وهو ما دفع مجلس الأمناء إلى إعادة صياغة ما رأى ضرورته من توصيات لم ترد أو لم تكتمل في مشروع القانون، وسيقوم برفعها، بحسب القواعد التي تنظم الحوار الوطني منذ بدئه، للسيد رئيس الجمهورية ليتخذ سيادته فيها ما يراه".
"سنعيد رفع توصيات لم يتضمنها مشروع القانون للرئيس مرة أخرى"، قال نجاد البرعي، المحامي الحقوقي المعارض لمشروع قانون الإجراءات، وعضو مجلس أمناء الحوار الوطني، في تصريحات لـ المنصة، مشددًا على أن "مشروع القانون لا يتعلق بالحبس الاحتياطي فقط، توجد 520 مادة فيهم بلاوي".
البرلمان يتجاهل "التدوير"
يعد تدوير السجناء من أبرز النظم التي استحدثتها السلطات خلال السنوات الأخيرة لاستمرار حبس المحتجزين السياسيين بعد انتهاء فترة حبسهم، فتصدر قرارات بإخلاء السبيل، ويحتجز المُخلى سبيله فترة داخل أحد المقرات الأمنية ليظهر مجددًا على ذمة قضية جديدة، بذات الاتهامات أو اتهامات مشابهة.
تفاعل الحوار الوطني مع هذه الظاهرة، بينما لم تنعكس توصياته للحد منها على مشروع القانون، رغم طرح التوصيات عدة مقترحات منها ضم مدد الحبس الاحتياطي لجميع الجرائم، أو إحالة الأمر للمحكمة فور وجود تعدد جرائم للبت في الحبس الاحتياطي على ذمة أكثر من قضية، فضلًا عن اقتراح آخر بوضع نص يمنع جواز حبس متهم احتياطيًا على ذمة قضية جديدة خلال فترة حبسه احتياطيًا أو بعد انتهائها إلا في حالة وجود أدلة قطعية ويقينية تستلزم الإحالة للمحكمة مباشرة.
تغييب الصحفيين يحول دون رصد محاولات إنهاء "التدوير"
النائب ضياء الدين داود، عضو اللجنة الفرعية التي وضعت مسودة القانون، وعضو لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية، اعتبر في حديثه لـ المنصة أن ما يعرف بـ"التدوير" فعل تجاوزي، وتساءل ماذا نكتب في النص "هل نكتب أن لا يجوز إن الشخص بعد ما يخرج بساعة يتم اتهامه بجريمة جديدة؟"، واستطرد "احتجاز السياسيين بدون وجه حق يصاحبه البطلان، وإثبات التدوير يعني أن كل الإجراء باطل".
مع ذلك، يضيف داود "مافيش نص قانوني ينفع أضبط به هذا التجاوز"، وبشأن مقترحات الحوار الوطني قال "لو الحوار عنده رؤية لهذه المشكلة يقدم نص، لنعرف كيف يمكن صياغة هذا المعنى في قانون الإجراءات الجنائية".
تغييب الصحفيين عن حضور اجتماعات اللجنة الفرعية، وبعدها لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية، يحول دون تأكيد مدى مناقشة أزمة "التدوير أو التعاصر" في البرلمان، ومدى جدية النواب في الوصول لحلول ونصوص منضبطة لمنع تكراره.
توصيات قيد البحث
رغم موافقة لجنة الشؤون الدستورية على مشروع القانون، يوضح النائب ضياء الدين داود أن تطبيق توصية الحوار الوطني باستحداث بدائل إلكترونية للحبس الاحتياطي مثل الإسورة الإلكترونية والبصمة الصوتية، لا يزال قيد البحث.
كانت توصيات الحوار الوطني تضمنت استحداث وسائل إلكترونية بديلة للحبس، بجانب الإجراءات المنصوص عليها في القانون الحالي مثل عدم مبارحة المنزل أو منع ارتياد أماكن معينة.
تراجعت الحكومة عن حجة انتهاك الحرية الشخصية
وأوضح داود في تصريحات لـ المنصة أن البدائل الإلكترونية جرى طرحها في اجتماعات اللجنة، وتم إرجاء القرار النهائي للجلسة العامة، قائلًا "في البداية تحدث ممثلو الحكومة عن أن هذه الوسائل الإلكترونية قد تنتهك الحرية الشخصية، فهي تصاحب الشخص في منزله".
وأضاف "عدلت الحكومة بعدها من وجهة نظرها بناء على توصيات الحوار الوطني، فرحبنا وطالبنا بتوضيح صياغة هذا النص، مالحقوش يقدموه خلال مناقشات اللجنة لكن تعهدوا بتقديمه في مناقشات الجلسة العامة".
تحايل على التوصيات
بجانب التجاهل، يبدو أن مجلس النواب تحايل على بعض التوصيات التي حذرت من خطورة التدابير المصاحبة للحبس الاحتياطي التي تطول وتتحول لعقوبة، مثل المنع من السفر أو الوضع على قوائم ترقب الوصول أو المنع من التصرف في الأموال.
وأوصى الحوار الوطني بصدور هذه القرارات من سلطة تحقيق قضائية، في حال وجود قضية منظورة تستدعي اتخاذ هذه الإجراءات مع المتهم أثناء التحقيقات، ويكون القرار مسببًا وبمدة زمنية معقولة ولا تزيد مدته عن مدد الحبس الاحتياطي.
وعلى الرغم من أن مجلس النواب أوضح في بيان له الاستجابة لتوصيات الحوار فيما يخص هذا الجزء، فإن الاستجابة لم تكن مكتملة، إذ أوضح بيان المجلس أن السلطة المختصة بإصدار هذه القرارات هي النائب العام أو من يفوضه أو قاضي التحقيق المختص ولمدة سنة قابلة للتجديد لمدة أو لمدد أخرى مماثلة لأمر تستلزمه ضرورات التحقيق أو حسن سير إجراءات المحاكمة، كما نظم آلية التظلم.
ضوابط قرارات المنع من السفر تتضمن انتهاكات للمحاكمة العادلة
غير أن ورقة قانونية شارك في إعدادها عضو مجلس أمناء الحوار الوطني، نجاد البرعي، والمقرر المساعد للجنة حقوق الإنسان، أحمد راغب، والمحامي محمد الباقر، واطلعت عليها المنصة، تلفت إلى أن النص أتاح للنائب العام تفويض أي شخص من السلطة التنفيذية، الأمر الذي يعتبر انتهاكًا لضمانات المحاكمة والتحقيق العادل.
كما خلا النص من وجود آلية لإخطار الممنوعين من السفر بقرار المنع وترك الإبلاغ لنقاط الحدود، التي تستوقفهم خلال إقدامهم على السفر.
الأزمة نفسها يبدو أنها متكررة في الشق الخاص بالتحفظ على الأموال، فتوضح الورقة أن النص الوراد في المسودة التي أعدتها اللجنة الفرعية سمح للمحامي العام باتخاذ تدابير تحفظية ولم يضع حدًا أقصى زمنيًا لمنع التصرف في أموال المتهمين أو أسرهم، دون حكم قضائي مسبق.
غموض ضوابط التقاضي عن بعد يفتح الباب لاستخدامها دون قيود
هذه ليست الحالات الوحيدة التي شهدت تطبيقًا جزئيًا للتوصيات، بل امتد إلى ضوابط التقاضي عن بعد، فقد أكدت التوصيات ضرورة اللجوء لهذه التقنيات في الأوضاع الاستثنائية، مع اشتراط حضور محامي المتهم في مقر محبسه، وشددت على تقنينه في حالات محددة على سبيل الحصر مثل حالات الأوبئة أو تعذرات أمنية استثنائية.
في المقابل، يسمح نص المادة 526 الموجود بمسودة اللجنة الفرعية، باتخاذ كل أو بعض إجراءات التحقيق أو المحاكمة عن بعد مع المتهمين والشهود والمجني عليهم، وجواز أيضًا نظر تجديد الحبس الاحتياطي بهذه الطريقة.
بينما أوضح بيان مجلس النواب استجابته للنص على ضرورة حضور المحامي في مقر احتجاز المتهم، ورغم ذلك لم يوضح البيان حصر الاستثناءات التي طالب بها الحوار الوطني، ومع غياب إتاحة نسخة نهائية للمشروع الذي وافقت عليه اللجنة التشريعية بعد تعديل بعض نصوصه، يُفتح غموض تحديد ضوابط التقاضي عن بعد الباب للتوسع فيه.
أفق المستقبل
رغم دخول الحوار الوطني على خط المناقشات الدائرة بشأن قانون الإجراءات الجنائية، وإعادة إرسال توصيات جديدة للرئيس في سابقة لم تتكرر من قبل، يستبعد نجاد البرعي عضو مجلس الأمناء إضافة جلسة لجدول أعمال الحوار الوطني لمناقشة القانون.
"لا يجوز إضافتها لأنها ليست في برنامجه، في سوابق لإحالة موضوعات للحوار الوطني، لكن لا يمكن لنا التصدي لمشروع القانون، دون إحالة وطلب مناقشة من الرئيس لإبداء الرأي" يوضح البرعي.
وفي الوقت الذي يعتبر البرعي أن الكرة الآن في ملعب البرلمان ولا توجد ضمانة لتطبيق التوصيات، يستند النائب ضياء الدين داود إلى بيان مجلس النواب الذي أكد أن الباب لا يزال مفتوحًا لمناقشة المشروع الذي وافقت عليه لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية، مرجحًا وجود رغبة حقيقية لدى مجلس النواب في الوصول للتشريع في أبهى صورة لتحدث نقلة نوعية في قانون الإجراءات.
يبقى المجال مفتوحًا حتى الآن لاستمرار الحوار بشأن أحد أهم مشروعات القوانين خلال السنوات الأخيرة، الذي يسميه رئيس مجلس النواب، المستشار حنفي جبالي، بـ"الدستور الثاني"، لكن الإرادة السياسية مسؤولة عن وضع خط فاصل يحدد قيمة هذه المناقشات في البناء للمستقبل حتى لا تكون مجرد تفريغ شحنات في الهواء.