لو عاد جراح المخ والأعصاب الشهير الدكتور محمد لطفي إبراهيم إلى الحياة، وعاش يمارس مهنته بعد صدور قانون المسؤولية الطبية الذي يناقشه البرلمان في هذه الأيام، لتردد كثيرًا في إجراء جراحاته الدقيقة التي جفل منها غيره وتهربوا، بعد أن قدَّروا أن المريض سيموت حتمًا، ليتصدى هو لها بشجاعة وبراعة، ويخرج منها ناجحًا مظفرًا.
قبل سنوات، هاتفني رجل من قريتي في المنيا كان أمهرنا في لعب الكرة أيام الصبا، وأخبرني بأن ورمًا سكن رأسه، يضغط على المخ بقسوة، وتمتد آثاره وأوجاعه إلى جسده كله. ثم أبلغني بأنه ذهب إلى "التأمين الصحي"، وبعد أشعة وتحاليل وتشخيص، اتفق الأطباء على أن العملية الجراحية التي يحتاج إليه صعبة جدًا، بل مستحيلة.
بعدها جاء إلى القاهرة، حيث عُرض على كونستلو آخر بعد أن هاتفت أيامها رئيس التأمين الصحي الدكتور علي حجازي، لحرج الحالة. لكن الأطباء عادوا إلى رئيسهم قائلين: لا يمكن، سيموت مِنَّا أثناء العملية، ولا أحد منَّا مستعد لتحمل ذلك.
ثم إني هاتفت الدكتور لطفي إبراهيم، وهو كان، رحمه الله، أكبر أطباء المخ والأعصاب في الشرق الأوسط، فقال الرجل: أرسله لي. وذهب المريض إلى عيادته الخاصة، الكائنة في ميدان الباشا بالمنيل، وبعد أن رأى الأشعة والتحاليل، هاتفني قائلًا إنه سيجري له العملية في مستشفى قصر العيني الحكومي، وسيخرج في اليوم التالي عائدًا إلى قريته.
تعجبت من قوله، وسألته: هل هذا معقول يا دكتور؟ فأجاب: أنا واثق مما أقول، وهو ما تم بالفعل، ولا يزال صاحبنا حيًا يرزق.
كنت قبلها استمعت إلى الدكتور لطفي وهو يتحدث عن إنجازاته في مجال جراحة المخ، وأبحاثه المستفيضة، وتجاربه المثيرة، ورغبته في أن يمضي إلى أبعد مدى في مهارته ومهنته حتى تصبح جراحات المخ المعقدة سهلة يسيرة كاستئصال الزائدة الدودية، وكأن لسان حاله يقول "صوِّب هدفك نحو النجم لعله يصيب المئذنة".
حال سُنَّ القانون وبدأ العقاب سترتعش أيدي الجراحين ويتردد واصفو العلاج
كما أنه أذهلني وهو يشرح للمذيعة طريقة توصله إلى فصل التوائم الملتصقة من الرأس التصاقًا شديدًا لا يقف عند عظام الجمجمة بل يتعداه إلى اختلاط تلافيف المخ، وكأننا أمام جسدين كاملين برأس واحد، حيث حكى كيف اشترى عِجْلَين ملتصقين وُلِدا حديثًا، وأحضرهما إلى بيته، وفصلهما بأدوات جراحة بسيطة بعد تخديرهما، وكيف قاده هذا إلى المُضيِّ قُدمًا في إجراء جراحات مثيلة على البشر، هي الأولى من نوعها في العالم التي تلاقي هذا النجاح المبهر. فكثير من الأطباء في مشارق الأرض ومغاربها أجروا عمليات نظيرة، لكنها فشلت فشلًا ذريعًا وانتهت بموت المرضى.
ثم راح يسرد عليها أبحاثه بدءًا بتشخيص الانزلاق الغضروفي القطني وانتهاءً بتمدد الشريان التاجي خارج الجمجمة مرورًا بالجينات وإصابات الرأس، وترقيع العظام، واستسقاء المخ، وأورام المخ في القاع والتجويف الخلفي، وإزالة العرق الزائد بالأطراف العلوية، وعلاج شلل العمود الفقري الناتج عن الدرن، ومجالات الضغط على النخاع الشوكي، وتصميم منظم شفط خفيف لحقن الخلايا، واختراع شريحة تثبيت الانزلاق الفقاري القطني من الجانب.
الأيادي المرتعشة
تذكرت مهارة هذا الطبيب العبقري، وواقعة ابن قريتي معه، في ظل الجدل الدائر حاليًا حول قانون المسؤولية الطبية، وسألت نفسي: هل من شأن هذا القانون أن يجعل الأطباء المتمكنين المهرة الشجعان، مثل الدكتور لطفي إبراهيم، يُحجمون عن إجراء الجراحات الدقيقة؟ وهل لو أخطأ الرجل، على كل إمكاناته التي شرحتها، فسيكون مصيره السجن؟
نعم، هي الإجابة السريعة والمباشرة والواقعية، فأهل المرضى الذين رأينا بعضهم يهجمون على أطباء ويوسعونهم ضربًا في مستشفيات حكومية، معاقبين إياهم على ما لا ذنب لهم فيه من قلة الإمكانات المادية بمؤسساتنا العلاجية، لن يترددوا في جر أطباء كبار مثله إلى السجون.
وحال سُنَّ القانون وبدأ العقاب، سترتعش أيدي الجراحين ويتردد واصفو العلاج الدوائي خوفًا من أن تربطه صلة بتدهور حالة ما، ووقتها سيُحجم الأطباء عن العمل، وسيترك بعضهم المهنة تمامًا، أو يهاجرون إلى بلاد أخرى سعيًا وراء رزق آمن.
ليس معنى ذلك أن نطلق يد الطبيب في حياة المريض، ولا يمكن نفي أن تجارًا محترفين ومصاصي دماء تسللوا إلى مهنة الطب. نعم، حدث كل هذا، وأصاب مهنة الطب ما أصاب المهن الأخرى من تراجع، دون أن ينهي هذا وجود أطباء مهرة أفذاذ وأصحاب أخلاق. لكن تصويب الخطأ، وتصحيح المعوج، لا يكون بمثل هذا القانون، الذي سيزيد الطين بلة.
إن الإصرار على القانون، وما يُفهم من بيان نقيب الأطباء عن تهديد مجلس النقابة، يفتحان باب التساؤلات: هل المطلوب تدمير مهنة الطب التي صارت في محنة إثر الهروب الكبير لأطباء مصر إلى الخارج؟ وهل هذا القانون المزمع سَنُّه هو استجابة لطلب من شركات أجنبية تشتري مستشفيات ومعامل تحاليل مصرية الآن، على غرار ما يطلبه بعض المستثمرين في مجالات أخرى؟ أم أن هناك داخل السلطة السياسية من يعتقد في أن مثل هذا القانون سيضبط الحالة الصحية في مصر؟
هناك معايير عالمية متعارف عليها حول "مسؤولية الطبيب"، فلماذا لا نستعيرها ونطبقها، ولا بأس لو عدلنا بعضها لتوافق واقعنا، بعيدًا عن هذا التضييق الذي يجعل مصر بلدًا طاردًا للأطباء؟
أقول في خاتمة المطاف: لا يختلف منصفان على أن لدى مصر طاقة بشرية في الطب تؤهل قطاعها الصحي ليكون أحد روافد تميزها، فيكفي أهلها، ويفيض على الإقليم، ويجذب إلى مستشفيات ومصحات القاهرة مرضى من بلدان عربية وأفريقية، صاروا الآن يعبرون أجواء القاهرة في طائرات قاصدة بلدان أخرى، بعدما كانت مصر قبلتهم، يأتون إليها واثقين من أن فيها ترياقهم.
لو وجد الطب في مصر عناية ورعاية سيكون مصدر دخل للبلاد قد يتجاوز ما نجنيه من قناة السويس، التي لو أن ما أُنفِق على حفر تفريعتها انصرف إلى تعزيز إمكانات القطاع الصحي في مصر، لكان العائد مضمونًا، وأفضل كثيرًا.
فهل هناك من يعرف؟ وهل هناك من يعتبر؟ وهل هناك من يعمل لأجل ذلك؟