
عن أسطورة العامل المصري الذي لا يعمل
كيف ينصف قانون العمل الجديد ضحايا الأوڤر تايم؟
عم سيد* حارسٌ ليليٌّ على المعاش كان يعمل في أحد البنوك الحكومية. في عام 2010، لجأ إلى المحكمة مُطالبًا بصرف أجره الإضافي الذي استحقه نظير تشغيله 12 ساعة إضافية كل أسبوع طوال أكثر من 15 عامًا. لم يكن يعلم أنَّ له حقًا في هذا الأجر، فسعى إلى نَيله ليعينه على أن يعيش بعضًا من سنينه الباقية بكرامة.
لكنَّ المحكمة رفضت طلب عم سيد، الذي كاد يستسلم لفوات وقت المطالبة بحقه لولا إصرار محاميه على الاستئناف، ليحصل بالفعل عام 2013 على حكم ضد البنك، يلزمه بصرف مبلغ مالي يمثل الكثير لحارسٍ ليليٍّ، ولا يعني شيئًا تقريبًا للبنك ومسؤوليه. لكنهم اختاروا طريق الطعن بالنقض رافضين سداد تلك المبالغ لعم سيد، كمن يحاول منع تدشين سابقة.
ثم جاء صيف 2023، وفيه أصدرت محكمة النقض حكمها بأحقية عم سيد في الأجر الإضافي نظير تشغيله ساعات زائدة عن الحد الأقصى المقرر في لائحة البنك، وبأن من المحظور على البنك أو أي جهة عمل أخرى أن تضع حدًا أقصى لما يتقاضاه العامل من أجرٍ إضافيٍّ، ثم تشغِّله ساعات إضافية يستحق عليها ما يتجاوز هذا الحدَّ الأقصى، فتفوِّت عليه حقه عن ساعات عمله الزائدة.
كلامٌ جميل، وإقرارٌ لحق عم سيد وملايين غيره من العمال المصريين الذين تضطرهم الظروف للعمل ساعات إضافية جبرًا أو بسيف الحياء أو باتفاقات خاصة بُغية تحسين دخولهم. لكن في الوقت نفسه، قبلت محكمة النقض دفع البنك بانطباق "التقادم الخمسي" على ذلك الأجر الإضافي باعتباره "حقًا دوريًا متجددًا" وفقا لقواعد القانون المدني، مما يحتّم سقوطه كل خمس سنوات من تاريخ استحقاقه الفعلي.
وبالتالي، لم يحصل عم سيد من حقوقه المالية إلا عن السنوات الخمس السابقة على رفع الدعوى.
الحاجة إلى حماية الغافلين
قصة قصيرة يسكن الغبن زواياها، استشرت مثيلاتها في ساحات المحاكم بصورة يصعب حصرها، تخبرنا عن غياب الوعي الذي يسقط حقوق الملايين من أمثال عم سيد لسنوات وسنوات، فقط لأنهم لا يعرفون، ومحظوظٌ من ينبهه محامٍ إلى ما يجب فعله. وتخبرنا أيضًا أن جهات العمل على اختلافها؛ من قطاع عام أو خاص، وتلك ذات الطبيعة الخاصة، والتابعة لقطاع الأعمال العام التي تطبق قانون العمل أو لوائح خاصة، تستغل قصور النصوص وغياب الرقابة وحاجة العمال، فتشغِّلهم ساعات تزيد على الحد الأقصى المقرر، وبدون تعويض أو مكافأة عادلة.
وتذكّرنا القصة اليوم بمناسبة مناقشة مجلس النواب لمشروع قانون العمل الجديد بأن ما يزيد التحديات السابقة تعقيدًا وجود منظومة لا تحقق العدالة الناجزة. قضى عم سيد 13 عامًا في أروقة المحاكم للبت في تعويضٍ عن عمل ظل يؤديه سنوات طويلة قبل رفع الدعوى، لم ينَل بعدها إلا نذرًا يسيرًا من حقه، بذريعة أن القانون الذي لا يحمي المغفلين، لا يأتي كذلك بحق الغافل عن حقه ولا المتراخي في المطالبة به.
ولا يغيّر مشروع قانون العمل الجديد من طبيعة التعامل المعتادة مع هذه الظاهرة. فمثله مثل القانون الحالي (رقم 12 لسنة 2003)، يجيز لصاحب العمل ألَّا يتقيد بالحد الأقصى لتشغيل العامل 8 ساعات يوميًا و48 ساعة أسبوعيًا، من أجل "مواجهة ضرورات عمل غير عادية أو ظروف استثنائية". وفي هذه الحالة يستحق العامل بالإضافة إلى أجره الأصلي أجرًا عن ساعات التشغيل الإضافية "حسب المتفق عليه" بحيث لا تقل الزيادة عن أجر ساعة العمل الأصلية مضافًا إليه 35% إذا كان العمل الإضافي نهارًا و70% إذا كان ليلًا تحسب على أساس أجر ساعة العمل الأصلية. على ألَّا تزيد ساعات وجود العامل بالمنشأة على 12 ساعة بدلًا من 10 ساعات في القانون القائم.
وصحيحٌ أن لجنة القوى العاملة في مجلس النواب أضافت نصًا إيجابيًا يلزم صاحب العمل بإبلاغ الجهة الإدارية خلال 7 أيام بمبررات التشغيل الإضافي والمدة اللازمة لإتمام العمل، لكن جدواه مشكوك بها، كون الممارسة الواقعية تتجاوز هذا القيد في ظل أن أغلبية أصحاب الأعمال يشغِّلون العاملين ساعات إضافية، لا سيما في القطاع الخاص، نظرًا لقلة الأعداد أو لمتطلبات الإنتاج، مما لا يُتصوّر معه نجاعة الإلزام بالإبلاغ الدوري عن "ظروف العمل غير العادية" وقد أصبح هذا الاستثناء هو السائد.
عم سيد ليس استثناءً
لا تبدو الـ12 ساعةً التي ظل عم سيد يمنحها أسبوعيًا لجهة عمله بلا مقابل أمرًا استثنائيًا أو خارجًا عن المألوف. إذ يعمل المصريون في المتوسط 53 ساعة أسبوعيًا وفقًا لأحدث بيانات أصدرها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن عام 2022، أي بزيادة خمس ساعات على الحد الأقصى المحدد قانونًا، وبمعدل يتجاوز 10 ساعات يوميًا على أساس 5 أيام عمل، وحوالي 9 ساعات للعامل الذي يحظى بيوم إجازة واحد، ما يثبت أن تشغيل العاملين لساعات إضافية أصبح هو القاعدة في العديد من القطاعات.
لم يقلّ متوسط فترات عمل المصريين السنوي عن 52 ساعة أسبوعيًا منذ 2010، وبلغ ذروته عام 2014 بتسجيل 56 ساعة. وهي أرقامٌ تفند أسطورة ذائعة عن "العامل المصري الذي لا يعمل" وتخبرنا أنه في الحقيقة "يطفح الكوتة" لدرجة تعريض نفسه لخطر الوفاة، وفقًا لدراسة أعدتها منظمتا الصحة العالمية والعمل الدولية عام 2021 عن الأعباء الصحية والأعباء الناجمة عن زيادة ساعات العمل.
تصنِّف الدراسة، التي وثَّقت وفاة 740 ألف عامل حول العالم في 2016 بسبب العمل لساعات إضافية، مصر ضمن الدول "عالية الخطورة"، كما ترصد ارتفاعًا نسبته 35% في مخاطر الإصابة بسكتة قلبية، لمن يقضون في العمل أكثر من 55 ساعة أسبوعيًا.
وتشير بيانات التعبئة العامة والإحصاء لعام 2021 إلى أن متوسط ساعات العمل بالقطاعين العام والخاص وللعاملين الذكور والإناث يصل إلى 243 ساعة شهريًا أي 61 ساعة أسبوعيًا في نشاط السياحة والفنادق والمطاعم، مقابل متوسط أجر 3449 جنيهًا شهريًا. وفي التجارة والتخزين والميكانيكا، يبلغ المتوسط الشهري 234 ساعة عمل مقابل 2617 جنيهًا. وفي الأنشطة العلمية والتقنية 223 ساعة عمل مقابل 3730 جنيهًا، والصناعات التحويلية 219 ساعة مقابل 3641 جنيهًا، والتشييد والبناء 211 ساعة مقابل 4665 جنيهًا شهريًا.
حتى لا نرتد إلى السخرة!
في القطاعات السابقة وغيرها، يشتغل العامل في المتوسط اليومي 11 أو 12 ساعة، أخذًا في الاعتبار اختلاف أيام العطلات من قطاع لآخر. فهل يحصل كل عامل على حقه المالي كاملًا؟ وكم "عم سيد" في مصر لا يعرفون أن لهم حقوقًا من الأساس أو قد يتغافلون عنها تحت ضغط الفاقة؟ وهل كل ما يحتاجونه هو المال؟
لعلها صدفة لافتة أن النقاش حول مشروع قانون العمل والحوار المجتمعي الذي أجرته وزارة القوى العاملة مؤخرًا، تزامن مع زيادة واضحة في المساحات الإعلامية المخصصة لرجال الأعمال، وخاصة من وزن الـSharks ومعظمهم من الجيل الثاني أو الثالث لأسر فاحشة الثراء، وتحولوا إلى نجوم على السوشيال ميديا يتحدثون في كل شيء تقريبًا من تعليب أسرار النجاح وتقديمها نصائح للشباب وحتى التحليل النفسي، مقابل غياب ملحوظ لتغطية القضايا العمالية في وسائل الإعلام، مما يعكس بوضوح انحيازات اللحظة وطغيان الدعاية.
يجب زيادة مقابل الساعات الإضافية للموازنة بين رغبة صاحب العمل في التشغيل وحق العامل
أحدهم، وهو رجل الأعمال محمد فاروق عبد المنعم، صعد إلى قمة التريند منذ نحو ثلاثة أشهر، بحديثه عن تفضيل العمل 12 ساعة يوميًا واعتناق نظام ساعات العمل الصيني 996 الذي وصفه البعض بـ"العبودية الحديثة" وانتقاده للدول التي اتجهت إلى الموازنة بين عدد ساعات العمل والراحة والاسترخاء، متجاهلًا الدراسات المعمقة التي ربطت تحسين بيئة العمل بتحسين الإنتاجية واستدامتها.
والأهم، أنه تناسى حقيقة أن ملايين العمال المصريين يعملون أكثر من الصينيين. وهو ما اعترف به نفسه في مناسبة أخرى عندما أقر بأن "العامل المصري أسهل من الألماني عشان تقدر تجيبه جمعة وسبت.. الألماني لو جبته في الإجازة يعمل مصيبة".
والفارق الجوهري بين مصر وأي دولة تصعّب النيل من حقوق العمال، يتمثل في مدى صرامة قانون العمل، وآليات حماية بيئة العمل وجعلها آمنة وسالمة للصحة الجسدية والنفسية، وتوعية مستمرة للعمال بحقوقهم، وحركة نقابية فعّالة، وآلية حاسمة وسريعة للتعويض ورد الحقوق.
المطلوب من مشروع قانون العمل
ليس ضروريًا، ولا من المنطق، أن نملأ قانون العمل بنصوص تبدو إيجابية لكنها بعيدة عن الواقع، كأن نمنع تشغيل الساعات الإضافية أو نفرض قيودًا نعلم أنها ستكون صوريّة. بل الأهم الآن إضافة عناصر من واقع الخبرة العملية تجعل القانون الجديد أداة لتحقيق العدالة، وتنمية الإنتاجية والتشغيل أيضًا.
يجب زيادة مقابل الساعات الإضافية للموازنة بين رغبة صاحب العمل في التشغيل وحق العامل، وكذلك لكبح جماح استسهال التشغيل لساعات إضافية دون مقابل أو لاستغلال ضعف المقابل المادي، خاصة تحت نير ارتفاع الأسعار ومعدلات التضخم. مع تشديد العقوبة على صاحب العمل المخالف، وهي في النسخة الأخيرة من المشروع تتراوح بين 500 و5 آلاف جنيه على العامل الواحد، ليكون الحد الأدنى ألفي جنيه.
وينبغي فرض قواعد خاصة لتشغيل الساعات الإضافية للنساء والعاملين كبار السن، ومراعاة توفير الإشراف الصحي والتغذية اللازمة خلال تلك الساعات في المنشآت الصناعية. وتحديد قواعد خاصة للتشغيل أيام العطلات مع حصول العامل على ضعف أجر اليوم العادي، بما يحول دون تحول العمل إلى ما يشبه السخرة المحظورة دستوريًا وقانونيًا.
وللحد من ظاهرة اللجوء للمحاكم بعد فوات الأوان، يجب إلزام صاحب العمل بصرف مقابل الساعات الإضافية مع الراتب الشهري، والتجريم الصريح لتأخيره، وفرض رقابة حقيقية على تلك الإجراءات والتأكد من توثيقها إلى واجبات لجان التفتيش المختصة، والنظر في إضافة نص صريح يمنع سقوط تلك الحقوق بالتقادم، بحسبان أن تدخل السلطتين التشريعية والتنفيذية ضرورة لضبط أدق تفاصيل علاقة العمل ومنع جور الطرف الأقوى على الطرف الضعيف.
كل ما سبق يخص نقطة واحدة من بين نقاط كثيرة إشكالية بالمشروع، ننتظر من مجلس النواب أن يتأنّى في دراستها، محاولًا الاستفادة من الإشكاليات القائمة وآراء الخبراء والتجارب الدولية، ومراعيًا الملاحظات التي قُدمت من اتحاد عمال مصر ودار الخدمات النقابية ونقابة الصحفيين وغيرها من الكيانات، للوصول إلى قانون مستقر بفلسفة حديثة ومتوازنة.
* اسم مستعار، وقد اطّلع الكاتب على تفاصيل هذه القضية بمناسبة عمله الصحفي في تغطية الملف القضائي.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.