لم يفلح اعتذار مصطفى مدبولي، رئيس الحكومة المستقيل/المُكلَّف، عن أزمة قطع الكهرباء لساعات طويلة خلال الأسابيع الماضية، في امتصاص غضب الشارع، الذي لم تُقنعه أيضًا الحملات الإعلامية عن أزمات انقطاع التيار الكهربائي في دول كبرى، للإيهام بأن المشكلة لا تقتصر على مصر؛ فنحن مع العالم المتقدم في الظلام سواء.
لم تمر على مصر في السنوات العشر الأخيرة موجة سخط واحتقان مثل التي نتجت عن تكرار قطع التيار الكهربائي مع دخول الصيف. جهر الناس بعبارات الغضب في جلساتهم الخاصة وعلى السوشيال ميديا. أخرجوا ما في صدورهم من حنق وضيق، ولم يبالوا بردات فعل السلطة. كسروا بعض حواجز الخوف وبلغوا مرحلة "الاستبياع" التي قد تضع البلد مجددًا على حافة انفجار يصعب التنبؤ بتوابعه.
فاقمَ من حدة الغضب تأكيد الحكومة على أنها لا تقيم للشعب واعتباراته وزنًا، عندما لم تُعلق تخفيف الأحمال خلال أيام العيد، أو أثناء امتحانات الثانوية العامة، باعتبارها حدثًا مصيريًا في الكثير من البيوت المصرية، فضلًا عن التمييز بين المواطنين في قطع الكهرباء، فتخفيف الأحمال لا يشمل أحياء ومناطق باشوات الزمن الجديد، فيما يعاني أهلنا في الريف والأحياء الفقيرة الأمرَّين منذ بداية الصيف.
مساران نحو الهاوية
انتابت دوائر السلطة حالة من القلق لاستشعارها بأن غضب الناس بلغ مداه، فلجأت إلى مسارين متوزايين. الأول؛ محاولة إقناع المواطنين الذين ضاقت صدورهم من عدم قدرة السلطة على توفير احتياجاتهم الأساسية، بأن مصر ليست وحدها التي تغرق في الظلام، فجرى تعميم أخبار وتقارير وتغريدات عن انقطاع الكهرباء في الكويت والأكوادور والولايات المتحدة وبريطانيا وكروتيا واليونان وتونس.. إلخ، إثر ارتفاع معدلات الحرارة بشكل قياسي، وبلغ الأمر درجة التبشير بأن معظم دول العالم ستلجأ إلى الخطة المصرية في تخفيف الأحمال لتجاوز الضغط على الشبكات.
أما المسار الثاني؛ فكان الدفع برئيس الحكومة للاعتذار إلى الشعب على الهواء مباشرة الأسبوع الماضي، بعد هجومٍ مُهندَّسٍ عليه، قُدَّم فيه للشعب باعتباره مصدر الأزمات والسبب الرئيسي فيما وصلنا إليه. شاركَ في هذه الحملة إعلاميون وصحفيون ونواب وساسة لم يُعرف عنهم نقد الحكومة أو الهجوم عليها إلا تحت الطلب.
انعدام العدالة في توزيع أعباء الأزمة من السخط لدرجة لا ينفع معها اعتذار
وكما لم يحقِّق المسار الأول المستهدف منه، فشل الجزء الثاني في تهدئة الغضب، فلا الناس ابتلعت قصص قطع الكهرباء في أوروبا والدول المتقدمة، ولا انطلى عليها الاعتذار الممزوج بمبررات ووعود عن قرب نهاية الأزمة. وسَّعت الخسائر التي مُني بها المواطنون من كل الفئات الشرخ الذي ضرب جدار ثقتهم في السلطة، وزاد انعدام العدالة في توزيع أعباء الأزمة من السخط لدرجة لا ينفع معها اعتذار.
لن تنقطع متوالية الأزمات في مصر طالما استمر الإصرار على إخراج الشعب من معادلة الحكم، مع تغييب قواعد الشفافية التي أدعى رئيس الحكومة أنه ينتهجها في تعامله مع الجمهور.
كلما تمكنت السلطة من علاج مؤقت أو مرحلي لمشكلة أو أزمة، ستجد نفسها أمام أزمة جديدة، وهكذا ستستمر تلك المتوالية بلا توقف، فغياب الرؤية والانفراد بالرأي وغياب المساءلة، واعتبار كل نقد محاولة للهدم، ووضع كل السلطات والصلاحيات في يد واحدة، سيهدم المعبد على رؤوس الجميع.
2024 ليست 2018
عندما استعرض مدبولي برنامج حكومته أمام نواب البرلمان في الثالث من يوليو/تموز عام 2018، تعهد بتوفير وتأمين التغذية الكهربائية لكافة طالبيها بجودة عالية وأسعار منافسة، ووعد بأن تعمل حكومته على تعدُّد وتنويع مصادر الطاقة التقليدية والمتجددة، وتطوير استخدامات الطاقة المتجددة للحفاظ على البيئة.
مدبولي قال حينها إنه "إذا كانت السنوات الأربع السابقة، هي سنوات تثبيت الدولة وتأمينها.. فإن فترة السنوات الأربع القادمة ستبدأ ببرنامج يقع المواطن المصري في موقع القلب منه، ويبني على النجاحات السابقة".
لا يمكن الجزم بأن الرجل حينها كان يخطط للفشل أو لعدم الوفاء بتعهدات برنامجه. لكن لأنه يعمل ضمن منظومة لا تعترف بدراسات الجدوى، ولا تضع سيناريوهات بديلة للطورائ، ولا تؤمن بفقه الأولويات، فلاحقته متوالية الإخفاق من كل جانب.
من أجل أن يتحول البرنامج الذي طرحه مدبولي ووافق عليه البرلمان السابق من بنود في وثيقة إلى واقع ملموس، كان على المجلس الذي أوكل إليه الدستور صلاحية الرقابة على السلطة التنفيذية تأدية دوره، في متابعة الإنجاز والمحاسبة على التقصير، فإن نجحت الحكومة في تحقيق ما تعهدت به استمرت، وإن أخفقت سُحبت منها الثقة. ومن جهة أخرى، تؤدي الصحافة دورها في ملاحقة ومراقبة أعمال سلطات الدولة، ومنها الحكومة، نيابة عن المواطن صاحب السيادة ومنشئ السلطات ومانح الصلاحيات.
لكن لا البرلمان أدى دوره فراقب وساءل وحاسب وطرح الثقة، ولا الصحافة سُمح لها بأداء واجبها في نقل ما يجري ويدور للناس، فاختل الميزان، وأزيحت الوثيقة التي تضمنت البرنامج الوحيد الذي ظهر في السنوات العشر الأخيرة، كما أزيحت وثائق أخرى أهم، تحدد الصلاحيات وتضع قواعد علاقة السلطات ببعضها وبالمواطنين.
بغياب سلطة الرقابة والمحاسبة الشعبية عبر البرلمان والصحافة الحرة، نفذت الحكومة ما تريد، أو ما أُملي عليها، ورُتبت لها أجندة أولويات لا تستند إلى أي رؤية أو استراتيجية، فصار بناء "العاصمة الإدارية" و"العلمين الجديدة" و"الجلالة" وتشييد القصور الرئاسية والمقرات الحكومية الصيفية والشتوية وإطلاق مشروعات المونوريل والقطار السريع وغيرها بالقروض، أولى من وضع خطط تنموية تعتمد على زيادة الإنتاج وتعزيز الصادرت والحد من الاستيراد، وتوفير احتياجات الناس الأساسية بأسعار مناسبة، حتى وصلنا إلى هنا.
في ختام الكلمة التي استعرض فيها برنامج حكومته أمام البرلمان في 2018، قال مدبولي "سنعمل بجد واجتهاد لخدمة الوطن.. كل تجربة قابلة للنقد والمراجعة.. فحرية التعبير مكفولة.. ولا قيد على أي رأي أو توجه سياسي".
وفي ختام مؤتمره الصحفي الذي اعتذر فيه للشعب الأسبوع الماضي، قال مدبولي "أعرض عليكم بمنتهى الشفافية الموقف وما حدث فيه وما يجري تنفيذه وأسباب الأزمة ورؤيتنا وخططنا التي بدأناها للحل والخروج منها"، مضيفًا أن الدولة تعمل على امتصاص الأزمات التي طرأت "وبإذن الله سنتحرك في اتجاه التنمية، ونمو الاقتصاد المصري".
إذا كان الأمل راود البعض عام 2018، في أن يحقق الرجل ما وعد وينفذ ما طرحه في برنامجه، فلا أظن أن أحدًا صدق وعده الأخير أو قَبِلَ اعتذاره عن الفشل، ويقينًا لن يجد من يصدقه عندما يطرح برنامجه بعد انتهائه من تشكيل الحكومة الجديدة المنتظر أن تؤدي اليمين الدستورية خلال أيام. يدرك القاصي والداني أن الاعتذار ليس حلًا وليس مقبولًا. الحل في إعادة النظر في خيارات وتوجهات النظام اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا وإعلاميًا حتى تخرج البلاد من دائرة الفشل والأزمات.