منحت لائحة مجلس النواب لرئيس المجلس الحق في عرض طلب رفع الحصانة عن أي نائب "دون ذكر اسمه"، إذا ما رأت هيئة المكتب أن الطلب لم تتوافر فيه الشروط المنصوص عليها في مواد اللائحة.
يوم الاثنين الماضي؛ عرض المستشار حنفي جبالي، رئيس مجلس النواب، خلال الجلسة العامة للمجلس قرار رفض هيئة مكتب المجلس طلبًا بالإذن برفع الحصانة البرلمانية عن أحد الأعضاء "دون ذكر اسمه"، موضحًا أن هيئة المكتب قررت حفظ الطلب لعدم استيفائه الشروط المنصوص عليها في اللائحة.
لم تكن تلك الواقعة الوحيدة التي يعرض فيها جبالي على أعضاء مجلسه قرار هيئة المكتب برفض رفع الحصانة عن نائب دون ذكر اسمه، فالوقائع تكررت مرارًا خلال دورات انعقاد المجلس الحالي كما السابق أيضًا.
ولكن عندما حظرت المادة (113) من الدستور "عدم اتخاذ أي إجراء جنائي ضد عضو البرلمان في مواد الجنايات والجنح إلا بإذن سابق من المجلس في غير حالات التلبس"، كان ذلك بهدف عدم مؤاخذة النواب عما يبدونه من أفكار وآراء تتعلق بأداء مهامهم الرقابية والتشريعية تحت القبة.
الممارسة السياسية التي تشكلت خلال السنوات العشر الأخيرة ساهمت في خلق مؤسسات لا تعبِّر عن إرادة الشعب
"الحصانة البرلمانية" إذن لم توضع لحماية النواب من الملاحقة القضائية في اتهامات تتعلق بالفساد أو التربح أو غيرها من جرائم، بل حتى يتمكن النائب من ممارسة دوره كرقيب على أعمال الحكومة باعتباره وكيلًا عن الشعب، ولا يجوز أن يتم توظيف تلك الحصانة في تكبيل وغل يد المؤسسات القضائية التي تعمل على حماية المجتمعات من أي انحرافات.
حق المواطن
وكما أن الحصانة البرلمانية حق كفله الدستور لأعضاء البرلمان، فالعلانية والشفافية والمكاشفة حقوق فرضتها الدساتير والأعراف الديمقراطية على البرلمانات. من حق المواطن، باعتباره مُنشئ لتلك المجالس، أن يعرف ويتابع أعمالها وأداء وسيرة أعضائها، حتى يتمكن من تكوين رأي يساعده على الاختيار في الاستحقاقات الانتخابية اللاحقة.
ومن المفارقات أن المجلس الذي رفض رفع الحصانة عن نائب دون ذكر اسمه في واقعة لا يعلم تفاصيلها أحد، هو ذات المجلس الذي أحال في دور انعقاده الأول النائب محمد عبد العليم داود إلى لجنة القيم لأنه استخدم حقه الدستوري وأدلى برأيه تحت القبة واتهم حزب مستقبل وطن بأنه لم يحصل على الأغلبية إلا بتوزيعه "كراتين" على المواطنين لحثهم على التصويت لمرشحيه.
انتفض المجلس الموقر خلال واقعة دواد للدفاع عن حزب الأغلبية وقرر تجميد عضوية نائب "الوفد" المنتخب لدور انعقاد كامل، بينما لم يجرؤ أحد من نوابه على سؤال رئيس المجلس ولا هيئة مكتبه عن اسم النائب الذي تقدمت إحدى الجهات بطلب لرفع الحصانة عنه ولا عن الواقعة محل التحقيق.
من المفارقات أيضًا؛ أن الواقعة الأخيرة التي رفض المجلس فيها رفع الحصانة عن نائب دون ذكر اسمه، حدثت بعد 24 ساعة فقط من مناقشة جلسات الحوار الوطني لمشروع قانون حرية تداول المعلومات، التي أسهب المشاركون فيها في الحديث عن ضرورات إصدار تشريع يكفل الحق في الوصول إلى المعلومة وفي تفسير النص الدستوري الذي يُلزم مؤسسات الدولة بالإفصاح عن المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية، وتوفيرها وإتاحاتها للمواطنين بشفافية باعتبارها ملك للشعب.
في تلك الجلسة، التي عرض فيها الحضور تجارب دول أخرى سبقتنا في إصدار قوانين تنظم حصول المواطنين على المعلومات وتُعاقب كل مسؤول أو موظف حكومي على عدم إتاحتها بما يتفق مع نصوص التشريعات، طالب هؤلاء بسرعة إصدار القانون إنفاذًا للإلزام الدستوري ولالتزامات مصر الدولية بموجب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والميثاقين الإفريقي والعربي لحقوق الإنسان.
وانتقد المتحدثون تأخّر الحكومة والبرلمان في بلورة مشروع قانون رغم مرور 10 سنوات على إقرار الدستور، ودعوا إلى تعديل مواد القوانين القائمة التي تتعارض مع مبدأ حرية تداول المعلومات، وشدد بعضهم على أن وجود قانون ينظم الحق في الحصول على المعلومة ونشرها يحمي الدولة والمجتمع من انتشار الشائعات ويشجع الاستثمار ويدعم حرية الصحافة.
وفي خضم الحديث الساخن عن ضرورة إصدار القانون، وبينما حذَّر البعض من المساس بالمعلومات التي تخص الأمن القومي عند صياغة مواد المشروع، دعا بعض الحضور إلى التريث في إصدار هذا القانون لأن معطيات النظام السياسي القائم لا تضمن خروج قانون يلبي حق المواطن في المعرفة.
المهمة الأولى للحوار الوطني والمشاركين فيه هي العمل على إصلاح البيئة السياسية
الفريق الأخير؛ ومنهم كاتب تلك السطور الذي كان مشاركًا في تلك الجلسة، يرى أن معطيات الممارسة السياسية التي تشكلت خلال السنوات العشر الأخيرة ساهمت في خلق مؤسسات لا تعبِّر عن إرادة الشعب، كالبرلمان الذي تحول إلى صوت للسلطة التنفيذية بدلًا من أن يكون عين الشعب عليها يراقبها ويحاسبها ويقوم أدائها.
مخاوف من قلب المائدة
وأعرب هؤلاء عن مخاوفهم من أن يتم إعداد مشروع قانون نموذجي ومثالي ينظم الحق في الحصول على المعلومة، ثم يدخل البرلمان، ليخرج قانون يدعم الحجب والمصادرة ويقيد ويحاصر حق المواطنين في الحصول على المعلومة، على غرار ما جرى في قانون تنظيم الصحافة والإعلام الذي صدر عام 2018، والذي تحول من مشروع يحقق طموحات وأحلام الجماعة الصحفية إلى كابوس يقنن القيود والحصار والمنع والرقابة.
أصحاب وجهة النظر الأخيرة، دعوا إلى التريث لحين تغيير المعطيات القائمة ووجود برلمان يعبر حقيقة عن إرادة الشعب حتى لا يتكرر ما جرى في تشريعات مشابهة صدرت لتقييد حق الشعب في المعرفة، وهنا تدخل المنسق العام للحوار الوطني ضياء رشوان ليؤكد على أن البرلمان الحالي منتخب بإرادة شعبية "نحن حريصون على عدم المساس بمؤسسات الدولة ومنها البرلمان... قد نختلف مع أداء البرلمان لكنه جاء عبر انتخابات نزيهة".
وفي اليوم التالي لتلك الجلسة، التي دعا معظم حضورها إلى سرعة التوافق على مشروع قانون وإرساله إلى البرلمان، وقعت حادثة التكتم على اسم نائب طلبت إحدى الجهات رفع الحصانة عنه لتثبت أن نواب البرلمان الحالي، كما السابق، لا يكترثون لحق المواطن في المعرفة ولا يؤمنون بمبادئ الشفافية والمكاشفة.
ما حدث في البرلمان كاشف لتوجهات المجلس ونوابه، إذ لم يمرر البرلمان الحالي والسابق أي تشريع يخص حقوق المواطنين وحرياتهم دون أن تُدهس تلك الحقوق أو على الأقل يتم التلاعب والالتفاف عليها، لذا فالمهمة الأولى للحوار الوطني والمشاركين فيه هي العمل على إصلاح البيئة السياسية، بما يسمح بوجود مؤسسات ديمقراطية مؤمنة بحقوق المواطن الأساسية وحرياته.