ليس أكثر بؤسًا من فضيحة التحرش بمرشح رئاسي أمام أحد مقرات الشهر العقاري، ومنع أنصاره من تحرير توكيلات التأييد اللازمة لترشحه في انتخابات الرئاسة، سوى سقطة إعلان مجلس النواب، الذي يُفترض به تمثيل الشعب في الرقابة على السلطة التنفيذية، عن "شكره وتقديره وتأييده" لمرشح آخر يخوض المعركة الرئاسية ذاتها.
مجلس النواب، وهو بحكم الدستور صاحب الحق الأصيل في ممارسة الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية، استهل دور انعقاده الجديد بإرسال برقية "شكر وتقدير وعرفان للرئيس عبد الفتاح السيسي على ما بذله من جهود مخلصة على جميع المستويات لمصلحة هذا الوطن".
البرقية التي تلاها رئيس المجلس المستشار الدكتور حنفي جبالي، خلال الجلسة الإجرائية لدور الانعقاد الرابع مطلع الأسبوع الماضي، "بناء على طلب عدد كبير من النواب" حسبما قال، أكدت على "دعم مجلس النواب الكامل وتأييده لمسيرة العمل الوطني التي بدأها السيسي قبل عشر سنوات".
رئيس مجلس النواب يتلو برقية تأييد للسيسي قبل أسابيع من انتخابات الرئاسة
رئيس "النواب"، العليم بأحكام الدستور والقانون بحكم رئاسته السابقة للمحكمة الدستورية العليا، تناسى أن مجلسه الموقر سلطة مستقلة عن السلطة التنفيذية لا يليق بها، ولا بغيرها من مؤسسات الدولة، التورط والانحياز لمرشح في معركة انتخابية على حساب آخر، بل إن واجبها أن تسائل وتحاسب أي جهة حكومية تثبت عليها أي شبهة انحياز أو دعم لأيٍّ من أطراف المعركة أيًّا كانت صفته.
كان واجب مجلس النواب يقتضي تشكيل لجنة لتقصي الحقائق في الشكاوى التي تصلها، أو حتى تلك التي تُطلق في الفضاء العام، بشأن تضييق أيِّ مؤسسة حكومية على حق المواطنين في التعبير عن رأيهم، أو منعهم من تحرير نماذج من مكاتب؛ تتبع إداريًا مصلحة الشهر العقاري التابعة لوزارة العدل.
أين "رفع العتب"؟
لكن لأن السادة النواب وصلوا إلى مواقعهم تحت قبة البرلمان بذات الطريقة، ونفس المعطيات التي تحكم إجراءات الانتخابات الرئاسية الحالية، ولأن مَنْ سهَّل لهم عملية الوصول؛ هو ذاته الذي يُهندِّس العملية الانتخابية الحالية، فانحيازهم ليس للمواطن صاحب الولاية، بل لذاك المهندس الذي يدينون له بالولاء.
اللافت أن السادة نواب بعض الكتل النيابية للأحزاب، التي أعلنت خوض المعركة الرئاسية في مواجهة الرئيس السيسي، لم تعلن عن اعتراضها على برقية "الشكر والتقدير والتأييد"، التي تلاها وأرسلها باسمهم رئيس المجلس، لمرشح ينافس مرشحيهم.
لا حزب الشعب الجمهوري الذي يخوض رئيسه حازم عمر الاستحقاق الرئاسي، ولا حزب الوفد الذي دفع برئيسه عبد السند يمامة إلى المعركة، ولا حتى الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي الذي يسعى رئيسه فريد زهران إلى توحيد المعارضة المدنية حوله ليكون ممثلها في الانتخابات، أصدروا أي بيان للتعبير عن احتجاجهم أو حتى تحفظهم على تلك البرقية، التي تخالف كل الأعراف والتقاليد البرلمانية والانتخابية في الدول الديمقراطية.
لا يمكن التعامل مع هذه الكتل النيابية، ولا الأحزاب التي تمثلها، ولا مع خوضها المعركة الرئاسية بجدية، لكن حتى من باب "رفع العتب"، كان أولى بهم تسجيل اعتراضهم عندما طلب رئيس المجلس منهم الموافقة على برقية التأييد، خاصة أن عددهم في المجلس يتجاوز الـ90 نائبًا، ما كان سيرسم صورة توحي بأنَّ لدينا برلمانًا وانتخابات تنافسية وتعددية، لكنَّ الله أغشى أبصارهم وختم على قلوبهم حتى يعلم الناس حقيقتهم وحقيقة ما يجري.
لا يمكن للرأي العام أن يقبل من مجلس أعلن انحيازه أيَّ حديث عن الموضوعية والحياد
وفي مواجهة عملية التأييد الجماعي لأعضاء المجلس الموقر، لم يجد نواب المعارضة الثلاث، ضياء الدين داود وأحمد الشرقاوي وأحمد فرغلي، سبيلًا للاحتجاج سوى بإصدار بيان ينددون فيه بـ"المعوقات المتعمدة بمكاتب الشهر العقاري، والتي أدت إلى تعطل حصول بعض المرشحين المحتملين، ومنهم المرشح أحمد الطنطاوي، على حقه وحق المواطنين في التعبير عن رغبتهم في منحه نموذج تأييد الترشح بدواعٍ وأسباب متعددة".
بيان النواب الثلاث حذر من أن ما يحدث من انتهاكات "يعرض العملية الإجرائية لخطر عدم السلامة والنزاهة"، وطالبوا الهيئة الوطنية للانتخابات بسرعة التدخل لحماية وضمان سلامات الإجراءات، من أجل إجراء انتخابات نزيهة وحيادية.
انحياز يضرب الشرعية
نواب حزب مستقبل وطن ومواليهم من نواب الأحزاب الحليفة، التي خاضت المعركة الانتخابية البرلمانية الأخيرة ضمن تحالف دعم مصر، انتفضوا عندما أصدر البرلمان الأوربي بيانًا يتحدث عن انتهاكات ومخالفات تمارسها السلطة المصرية ضد معارضيها.
نواب مجلسنا الموقر وصفوا بيان البرلمان الأوربي بأنه "لا يتسم بالحيادية أو المصداقية"، وفندوا ما جاء فيه وفق ميزانهم الخاص، واعتبروا أنَّ ما ذكره عن حبس معارضين أو التضييق على مرشحين رئاسيين، ما هي "إلا إدعاءات تفتقد الموضوعية، وكاشفة عن النية المبيتة لإصدار أحكام مسبقة عن العملية الانتخابية".
وشدد بيان البرلمان المصري على أن الهيئة الوطنية للانتخابات تقف على مسافة واحدة من الجميع، وبوصفها الجهة المسؤولة عن إدارة العملية الانتخابية سبق وأن تأكد لها، من واقع متابعتها، عدم وقوع أية مخالفات أو أعمال محاباة أو مضايقات من قبل الجهات المكلفة بتنفيذ قرارات الهيئة المتعلقة بالانتخابات الرئاسية.
يتحدث بيان البرلمان المصري عن عدم مصداقية وحيادية البرلمان الأوربي، في وقت أعلن فيه المجلس، وبشكل فج، وبما يخالف واجباته وصلاحيته المنصوص عليها في الدستور، انحيازه لمرشح بعينه خلال معركة انتخابية بعد أن بدأت بالفعل.
بعد برقية التأييد الفجة، لا يمكن للرأي العام أن يقبل من مجلس أعلن انحيازه أيَّ حديث عن الموضوعية والحياد، والوقوف مع باقي مؤسسات الدولة على نفس المسافة من كل المرشحين.
يعلم الجميع أن مؤسسات الدولة لا تعرف الحياد ولا المسافات الواحدة في أي معترك انتخابي يكون للسلطة التنفيذية ممثل فيه. لكن أن يقوم البرلمان، الذي يجب أن يعلو باقي السلطات فيُسائل ويحاسب مؤسسات الدولة على انحيازها أو تدخلها في العملية الانتخابية، بإعلان انحيازه على النحو الذي جرى، فتلك سقطة تضرب أساس شرعية المؤسسة التشريعية.