أسوأ ما قد يتعرض له بلد أن يُبتلى بنظام لا يقبل بالتعددية، ولا يؤمن بمبدأ تداول السلطة، ويمارس كل أشكال الوصاية على الشعب الذي يراه غير مؤهل لاختيار الحكومات أو النواب الذين يراقبونها مع بقية مؤسسات الدولة.
ولأن هذه الأنظمة لا تعتبر الشعوب قادرة على المشاركة في صناعة السياسات والقرارات، فإنها تصادر كل مساحات التعبير والحركة، وتسيطر على منصات الإعلام حتى لا يسمع الناس سوى روايتها، وتقصر العمل السياسي على الأحزاب والكتل التي تخرج من رحمها.
أما ما هو أسوأ، فهو أن تنحاز النخبة المُسيسة والمُثقفة إلى هذه الأنظمة على حساب الناس؛ فتقبل بلعب الأدوار المرسومة لها بالدفاع عن توجهات السلطة، وتشارك في حملات تغييب الوعي وهي تُلبس الحق بالباطل ويكتم رموزها الحق وهم يعلمون. فيتحدثون إلى الشعوب عن مخاطر التعددية والتهديدات التي تُشكِّلها المنافسة الحزبية أو الانتخابية لاستقرار الوطن المُحاط بأحزمة النار، ويروجون لأن دعوات إتاحة الحق في الحرية والديمقراطية والتنوع تفتح الباب أمام التدخل الخارجي، ويحسبون بذلك أنهم يحسنون صنعًا.
قبل سقوط مبارك بسنة وأربعة أشهر، عَقَد الحزب الوطني الحاكم آنذاك مؤتمره السادس تحت شعار "من أجلك أنت"، وهو نفس شعار مرشحيه في انتخابات التجديد النصفي لمجلس الشورى التي جرت في مايو/أيار 2010. ثم في النصف الثاني من العام نفسه، استقر فوق صور مرشحي الحزب في انتخابات مجلس الشعب شعار "عشان تطمن على مستقبل أولادك".
هذه الشعارات، وغيرها، ومعها وعود قادة الحزب بتحسين أحوال الناس المعيشية وإصلاح الأوضاع السياسية، لم تفلح في إقناع المواطنين بانتخاب مرشحيه. لذا لجأ النظام إلى التزوير الفج ليتمكن من السيطرة على أغلبية غرفتي البرلمان، ما أفقد الشعب أي أمل في إمكانية تحقيق أي إصلاح أو تغيير عبر صناديق الاقتراع. فلما ضاقت الصدور وبلغ الغضب مبلغه، اندفعت الجماهير إلى الشوارع تعبيرًا عن قنوطها من نظام احتكر السلطة والثروة لثلاثة عقود.
لم تفلح أحزاب الموالاة خلال العقد الأخير حتى في صناعة مشاهد الديمقراطية الديكورية
بعد أيام من بدء النيابة العامة تحقيقاتها مع مبارك ونجليه بتهم تتعلق بالإضرار بالمال العام وقتل المتظاهرين في أبريل/نيسان 2011، أصدر القضاء حكمه بحل حزبه الوطني بعد أن "ثبت باليقين أنه أفسد الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية".
حُكم المحكمة الإدارية العليا أشار في حيثياته إلى أن السلطة التشريعية بمجلسيها وقعت تحت الأغلبية المصطنعة للحزب المذكور، عن طريق انتخابات شابتها مخالفات جسيمة على مدار سنوات حكم مبارك، كانت انتخابات 2010 آخر حلقاتها.
وبعد هذا الحكم بيومين فقط، أصدرت لجنة تقصي الحقائق حول أحداث ثورة يناير تقريرها الذي أكدت فيه أن "القمع الأمني الذي استخدمه نظام مبارك في تمرير مشاريعه وإسكات المعارضة، والتضليل الذي مارسته أذرعه الإعلامية وتفريغ الحقائق من مضمونها"، مع أسباب أخرى، دفع الشباب إلى التجمع والخروج للتعبير عن أمانيهم في "التغيير والحرية والعدالة الاجتماعية بشكل سلمي متحضر".
انتقد تقرير اللجنة انتهاكات نظام مبارك لحقوق الإنسان، وتوسيعه صلاحيات أجهزة الأمن واعتقال المعارضين وفرض القيود على حركة السياسيين، ما أدى إلى ضعف الأحزاب الحقيقية، لا الورقية، وتراجع دور النقابات والاتحادات العمالية التي سيطر عليها الحزب الوطني الحاكم، ما أحدث حالة من الفراغ، و"حوَّل مصر إلى نظام الحزب الواحد والرجل الواحد والصوت الواحد".
تجاوز عدد أعضاء الحزب الوطني المليونين ونصف المليون، إلا أن الحزب تلاشى واختفت كوادره وتنكرت له قياداته عندما قررت الجمعية العمومية للشعب المصري الخلاص من رأس النظام، الذي هو رئيس الحزب، ذلك أنه لم يكن يومًا حزبًا حقيقيًا يعبر عن مصالح الناس انطلاقًا من عقيدة أو مذهب سياسي واضح وأهداف محددة، ولم يسعَ إلى السلطة لتطبيق أفكاره وحل أزمات البلاد ورفع شأنها من خلال المنافسة الانتخابية، بل حرص عبر تزوير الانتخابات على دعم بقاء النظام وتحويل الدولة إلى عزبة يُقسِّم أعضاؤه ريعها كلٌّ حسب موقعه الحزبي.
أي حزب لا يملك عقيدة سياسية واضحة، ولا يقدم نفسه بديلًا يسعى إلى الوصول للسلطة عبر المنافسة الانتخابية الحرة، هو إما مسخ سياسي يكتفي بلعب دور في مسلسل الديمقراطية الديكورية، أو أنه يمثل السلطة التي خلقته وفرضته على الحياة السياسية لتضمن به الهيمنة على المؤسسة النيابية بما يحولها إلى ذراع لها، تبرر لها أخطاءها وتزين لها سوء أعمالها.
حزب الجبهة الوطنية، الذي أعلِن تدشينه قبل أيام، لم يطرح نفسه بديلًا يملك أفكارًا وحلولًا لإصلاح الأوضاع القائمة، كما لم يأتِ بيان تأسيسه على ذِكر المنافسة الانتخابية، "دورنا الأصيل هو تحقيق المصلحة العليا للوطن بعيدًا عن التجاذبات والصراعات الضيقة في ظل ظروف إقليمية غاية في التعقيد".
لم يكشف بيان التأسيس ولا تصريحات المؤسسين عن توجهات أو عقيدة سياسية للحزب الجديد؛ فلا هو يمثل اليسار ولا اليمين، ومن بين أعضائه من يؤمنون بالاشتراكية، ومن يعتقد في الرأسمالية، وبين ذلك سبيلاً ليبراليون وناصريون وأعضاء سابقون في الحزب الوطني المنحل وآخرون حاليون في حزب مستقبل وطن، هرعوا جميعًا إلى الحزب الجديد أملًا في "المساهمة الفعالة في بناء الجمهورية الجديدة".
فشلت أحزاب الموالاة التي خرجت من رحم السلطة القائمة أو دارت في فلكها خلال العقد الأخير في نَيْل ثقة الناس، كما أخفقت في دعم النظام وإقناع المواطنين بأن ثمة أملًا في نهاية النفق، ما زاد من حالة السخط العام. ولم يفلح قادة تلك الكيانات حتى في صناعة مشاهد الديمقراطية الديكورية التي احترف نظام مبارك إخراجها طوال سنوات حكمه، مع وجود لاعبين سياسيين محترفين. ومع ذلك، دشَّن أصحاب القرار حزبًا جديدًا يضاف إلى ما سبقته من أحزاب، ظنًا أن ذلك سيحدث فارقًا.
لن يخرج هذا البلد من عثرته ويتجنب المصائر الكارثية التي حلَّت بغيره من دول المنطقة، إلا بتغييرٍ جذريٍّ نابعٍ من إيمان السلطة بألَّا بديل عن المُضي قُدمًا في مسار إصلاح سياسي حقيقي، يبدأ بإتاحة مساحة لحرية الرأي والتعبير والتنظيم والحركة، ومنافسة انتخابية تسمح بوجود بدائل قادرة على تداول السلطة عبر صناديق الاقتراع.
بهذا فقط تستقر الدولة، وتكتسب مناعة تحميها من أي هزَّات ومؤامرات.