لا تخلو العلاقة بين القانون والسياسة من الالتباس. القانون أداة أساسية لتنفيذ خطط السياسيين، والسياسة لعبة يتفوق فيها من يستطيع اجتياز حدود القانون وتطويعه.
لكن يبقى لكلا العالمين مفردات وقواعد خاصة، تجعل الطبيعي هنا غير مقبول هناك. وما يُنظر له برهبة وتبجيل وكأمرٍ غير قابل للنقاش في كوكب القانون، لا يحظى بذات القداسة من السياسيين، بل وبإمكانهم تغييره، أو تحطيمه إذا تطلب الأمر، بقرار سيادي أو إجراء ثوري/تصحيحي/شعبوي.
ومن قدرة الراحل فتحي سرور على الحياة والترعرع وتحقيق النجاح وبسط النفوذ في كلا العالمين، اتسع الصخب عقب رحيله؛ الكثير من الرثاء والاعتراف بالفضل، والكثير أيضًا من النقد والهجاء.
تعكس المسافة الشاسعة بين الفريقين قدرًا هائلًا من الالتباس بين القانون والسياسة في مصر. وهو ليس فقط نابعًا من تقاطعهما المستمر منذ تشكلت الدولة الحديثة ببيروقراطيتها وقضائها ومؤسساتها، لكنه يعبِّر أيضًا عن تنافر متزايد في السنوات الأخيرة.
قالوا في كوكب القانون
مَن مدحوا فتحي سرور بشكل عام تعرفوا عليه من كتبه وأبحاثه ومحاضراته ومرافعاته، أي أنَّ شخصية القانوني والأكاديمي طغت عندهم على السياسي. لم ينظروا إلى رئاسته لمجلس الشعب طوال عشرين عامًا ولا إشرافه على إصدار تعديلات دستورية وتشريعية كرّست الشمولية وتسببت في أزمات كبرى، بل كانت الأولوية لديهم كتب الفقه القانوني التي ألفها الفقيد، وتكاد تكون الأوفى محتوىً والأوسع انتشارًا، في القانون الجنائي تحديدًا، بالشروح والتعليقات المفيدة للمحامين والقضاة.
يستحضر هؤلاء أيضًا مرافعاته التي طالما تبارى شباب المحامين في حضورها وتسجيلها لتعلم طريقة الإلقاء وترتيب الأولويات وكيفية مخاطبة المنصة. وحالفهم الحظ أنَّ الرجل بعد براءته في قضية موقعة الجمل، ترك عالم السياسة وعاد بكامل ألقه للمحاماة، في زمن سهولة التوثيق والتداول على السوشيال ميديا، فتحولت بعض مرافعاته إلى نماذج حية لجودة التحضير والأداء.
يذكرون لفتحي سرور أنَّ ظهوره الأبرز تحت الأضواء بعد سنوات الحبس كان مدافعًا عن حقوق بعض المتهمين في قضية تمويل جماعة الإخوان المسلمين، التي لا تزال مفتوحة وتضم نجم الكرة محمد أبو تريكة، وفيها بذل سرور، مع محامين آخرين، جهدًا كبيرًا لإلغاء قرارات التحفظ على الأموال، إيمانًا منه بعدم مشروعيتها.
دفع الرجل ثمن ذلك عندما تعرض لهجوم من بعض الإعلاميين، بدا مضطرًا للرد عليه بإجراء حوارات أكد فيها وقوفه خلف القيادة السياسية، وأنَّ دفاعه في قضية تمويل الإخوان كان عن صحيح القانون لا عن أفكار المتهمين، وأنه لا يقبل أي قضية لشخص ينتمي لتنظيم إرهابي.
على الأرجح، لا يهتم الناشط المعارض ولا المواطن الحانق على رموز نظام حسني مبارك بما سبق. إنه كوكب آخر، يتحدث أهله لغةً مختلفةً غير مفهومة، ولهم شواغل خاصة.
ترزي يجيد قياس المساحات
ولهذا كان رد فعل الفريق الثاني على وفاة فتحي سرور مختلفًا تمامًا، يتدرج من استخدام كثيف لكلمة "ولكن" بعد "قانوني عظيم"، و"فقيه كبير"، وصولًا إلى اتهامه بالاشتراك في كل ما يُنسب لنظام مبارك من فساد وخطايا دفعت إلى اندلاع ثورة يناير، ولا تزال تلقي بظلالها السوداء على الأوضاع الاقتصادية والسياسية.
"ترزي القوانين" هو الوصف الأبرز لسرور لدى منتقديه. يعتقدون أنه وصف سلبي بالكليّة، يُجرّح في الراحل وينزع عنه أي فضل، ولا يدركون أنه لم يكن يضيق به ذرعًا.
ففي السنوات الست الأخيرة من عهد مبارك، تلك التي شهدت حراكًا واسعًا في الشوارع والميادين وصناديق الاقتراع للانتخابات والاستفتاءات ودعاوى التقاضي الاستراتيجي في المحاكم، انتشرت وذاعت عبارات قالها رموز النظام، من بينها "الفساد وصل للركب" للنائب زكريا عزمي رئيس ديوان رئيس الجمهورية، و"القوانين محتاجة ترزي شاطر" التي قيل إن فتحي سرور رد بها على منتقديه في جلسة عامة لمجلس الشعب.
هذا الاعتراف الممزوج بالفخر بـ"الشطارة" في تفصيل القوانين يبدو منطقيًا عندما نطالع حوار جريدة الأهرام معه في يونيو/حزيران 2018، عندما قال "لا أغضب من وصف الترزي، فالبرلماني صانع القانون، وحرفيته أن يلائم القانون المقاس الذى صنع من أجله، ومن يريد الانتقاد عليه انتقاد المقاس، وعلى أي أساس فصَّل الترزي رداء القانون.. مهمة النواب هي صناعة القانون، وكيف يفصلونه وفقًا لمقاسات معينة تتجسد في المصالح والاحتياجات السياسية".
تمامًا كالعبارات المطاطة في العديد من القوانين التي أشرف سرور على إصدارها، يتسع تفسير مصطلح "المقاس" ليشمل الجوانب الإيجابية والسلبية على السواء. يُمكن تفسيرها بالمصالح والأهداف العليا للشعب والدولة، وتحتمل أيضًا معنى "الأنسب للترويض أو التقييد". ومن رأيه أن دور الترزي لا يجب أن يتعرض للنقد طالما كان المقاس المحدد من صاحب الرداء (الزبون) غير مناسب.
لم تكن هذه أولى محاولات سرور لإبراء ذمته. فعقب ثورة يناير حاول التنصل من دوره الكبير عندما زعم بعد شهر من الإطاحة بمبارك عام 2011، عبر جريدة المصري اليوم، أنه رسم لنفسه "مربعًا لا يتحرك خارجه، هو مجلس الشعب".
لم يكن هذا صحيحًا بطبيعة الحال، ليس فقط لأن طبائع الأشياء تأبى أن يكون رئيس البرلمان لعقدين شخصًا محدود التأثير، بل لأنه أكد ذلك بنفسه مطلع عام 2010. فبينما كان الحزب الوطني يستعد للانتخابات البرلمانية التي غدت الأخيرة في عهد مبارك، تحدث سرور بثقة شديدة عبر "المصري اليوم" ذاتها كيف أنه "لا توجد عوائق بينه وبين مبارك"، وأنه يتواصل معه مباشرة في مسائل تشريعية، ويتحدث بثقة في السياسة الداخلية والخارجية والعلاقة بالولايات المتحدة وإسرائيل وفلسطين.
لكل عصر بالضرورة "ترزيته القانونيون" لكن مَن هم وأين هم اليوم؟!
وقبلها بسنتين، في نهاية 2007، وعبر "المصري اليوم" أيضًا، أيّد فتحي سرور ترشح جمال مبارك للرئاسة، ووصفه بـ"المواطن الممتلئ بالوطنية، الذي قاد أمانة سياسات الحزب الوطني في مرحلة مهمة من تاريخ البلاد"، مدافعًا بشراسة عن تعديلات الدستور آنذاك، بالأخص المادة 76 التي كانت مفصلة على مقاس جمال مبارك، وقال إنها "تنقل البلاد إلى مرحلة متطورة من النظام الجمهوري".
كثيرًا ما يهرب ترزية القوانين من تعقيدات السياسة ونسبيتها المطلقة إلى النصوص والصياغات بحثًا عن مساحة آمنة يجيدون الحركة بين تضاريسها، فينتصرون للسلطة بحجة "تطبيق صحيح القانون".
ففي ذلك الحوار يوجه سرور رسالة للمعارضة "إذا لم تكن قادرًا على منافسة ابن الرئيس في صندوق الاقتراع، فأنت لا تستحق المنصب" متجاوزًا ببساطة مُخلَّة كل المزايا التي كان يتمتع بها النجل غير المتوج.
ترزية لا نعرفهم بمقاسات جديدة
لم يكن فتحي سرور الترزي الوحيد في دائرة مبارك، وإن كان الأشهر. كان هناك قضاة سابقون وأساتذة قانون ووزراء ونواب، يعملون على هندسة وتفصيل السياسات العامة والاقتصادية والأمنية، ويتواصلون بشأنها مع مبارك والوزراء وقيادات الحزب الوطني والجهات القضائية والقوى السياسية المعارضة ومجتمع الأعمال والمحليات.
وبعد مرور 14 عامًا من خلع مبارك ونسف دائرة الترزية، يجب الاعتراف بأن معرفة الناس بأبرز شخصياتها في ذلك الوقت، وظهورهم في الإعلام والبرلمان ومؤتمرات الحزب الوطني، وتمتعهم بالاحترام في أوساط عدة، وأسلوب تفاعلهم مع مجتمع السياسة والأعمال، كان يسمح بخلق مساحات ضرورية للاطلاع ومعرفة التفاصيل، وخوض معارك نظرية من شأنها تحسين جودة المنتج التشريعي وزيادة الوعي العام به، من خلال اشتراك العديد من أصحاب المصلحة، بشكل مباشر أو غير مباشر، في النقاش حول آثاره قبل خروجه إلى النور.
أذكر هنا المساجلات بين سرور، وهو رئيس السلطة التشريعية، والمستشار عادل فرغلي رئيس قسم التشريع الأسبق بمجلس الدولة، عامي 2009 و2010 خلال إعداد قانون زراعة الأعضاء البشرية، حيث لعب الإعلام دورًا بارزًا في توضيح الخلافات القانونية بين وزارة الصحة ومجلس الشعب ومجلس الدولة، وتطور الأمر إلى تراشق بالتصريحات بين سرور عبر الصحف القومية وفرغلي عبر جريدة الشروق، فانكشف للرأي العام تاريخ من الحساسيات المتبادلة بسبب الخلاف حول تفسير اختصاص مجلس الدولة في مراجعة التشريعات قبل إصدارها، وحدود سلطته على مشاريع القوانين المقدمة من الحكومة.
حدث كلُّ هذا في الصحافة وأمام الناس.. خيالٌ بمعايير اليوم، أليس كذلك؟!
ترك ذلك المشهد آثاره على القانون محل الخلاف، وقوانين أخرى كانت تُدرَس بالتزامن، وعلى مناقشات وضع النصوص المنظمة لاختصاصات مجلس الدولة في دستور 2012 ثم دستور 2014.
لكل عصر بالضرورة "ترزيته القانونيون" بالمعنى الذي صاغه سرور، لكن مَن هم وأين هم اليوم؟! الناس لا تعرف، ولا المتخصصون.
استعانت بعض مؤسسات وأجهزة الدولة في السنوات العشر الأخيرة بعدد ممن عملوا مع نظام مبارك، مثل فتحي سرور ومفيد شهاب ومحمد الدكروري، في مناسبات متفرقة وبصورة منفردة لم تغير الملامح العامة لصناعة التشريعات في العصر الحالي.
فالقاعدة أنَّ مشاريع القوانين تُولد في صمت، ويعرفها المتابعون المحنكون فقط من خلال بيانات مجلس الوزراء المزدحمة بالتفاصيل. ربما يحقق ذلك السرية ويمنع "البلبلة" التي يتخوف البعض من إثارتها، لكن الحقيقة أن هذا يحرم الدولة، صانعة التشريع، من حيوية الحوار المجتمعي الحقيقي، ويخلق لاحقًا حالة من فوضى التطبيق والجهل بالأحكام الجديدة، وقد يؤدي إلى احتياج لتعديلات عاجلة وسريعة لمواجهة مشكلات لم تكن في الحسبان.
نعم، هناك استثناءات تستشير فيها الدولة ممثلين عن مجموعات أصحاب المصالح، لكن الأعم أن القانون الجديد يُدركك من حيث لا تحتسب، وكأن دوائر التقاطع بين السياسة والقانون والمجتمع قد تلاشت في مصر الكبيرة.
وفي مجلس النواب تسير العملية التشريعية بالسرعة القصوى. تغييرات جذرية كبرى في القوانين الجنائية والاقتصادية مُرّرت في سويعات، فلا يعلق في ذهن أحد مشاهد كالتي كان يظهر سرور في خلفيتها. لا مشادات ولا "خناقات" ولا مداخلات قانونية تشحذ الفكر أو تثير الجدل.
أما كلمة "موافقة" المأثورة التي رددها سرور أكثر من أي رئيس برلمان آخر في تاريخ مصر. فنبرتها الآن هادئة مُتوقعة دومًا، لا تحسم أزمة ولا تفض خلافًا، ولا تعقُب تصويتًا حرجًا يجعل لكل صوت نيابي قيمة كبرى، ويثير شهية المتابعين.
بضدّها تتبيّن الأشياء، وفتحي سرور كان لاعبًا رئيسيًا في مناخ سياسي وتشريعي يتمتع بالحد الأدنى من العلامات الحيوية، يفتقده الملايين اليوم.