تعرفت على الأب متى المسكين من خلال قراءتي لمذكراته المعنونة أبونا القمص متى المسكين، التي نشرها دير الأنبا مقار عام 2017، وتضم سيرته التي كتبها عام 1978 وطلب عدم نشرها في حياته.
قبلها تكونت له في مخيلتي صورة شبحية منذ عهد السادات، الذي دخل في صراع معلن مع البابا شنودة، وأبعده عن منصبه البابوي. هنا ظهر الأب متى المسكين رمزًا جديدًا للأقباط، وبديلًا للبابا شنودة، الذي كان يمثل رمزًا قوميًا، خاصة في رفضه خطوات التطبيع مع إسرائيل، لذا انضم إلى الطيف الواسع من معارضي السادات.
كانت المذكرات مفاجأة بالنسبة لي، بحسّها الفلسفي العميق والمفتوح. أعتقد أنَّها، بأصالتها، تعتبر أحد المراجع الحديثة للفكر اللاهوتي المصري، الذي يتسم بنظرة كونية لا تفرّق بين دين وآخر، بلغة شديدة الخصوصية، لا تتبع منهجًا بعينه في التفسير سوى تقوية الحدس، والتعمق في قراءة/صداقة الإنجيل، وانتظار ما يمنحه النص الديني من إلهام.
صديقي الله
لم يكن الأب متى المسكين شخصًا مرغوبًا فيه داخل الكنيسة المصرية، لا هو ولا تلامذته الذين اتخذوا دير الأنبا مقار مقرًا لهم. حُورب من طرف البابا شنودة. تكررت محاولات محاصرة طريقته الحرة في التفكير، التي تفتح باب الاجتهاد والخيال والإلهام، والتي كان يستخدمها خاصة في تفسيره لإنجيل يوحنا.
يشرح في مذكراته هذه الطريقة:
"قلت لرهبان كثيرين، كم أتمنى شرح إنجيل يوحنا ولكني لا أقدر، إلى أن جاء اليوم، وأحسست أن الوعي الذي أشعر به قريب من الوعي الذي كتب به يوحنا، لدرجة أنني حين كان يستعصي عليَّ مفهوم، كنت أتوقف، وأجلس صامتًا وأصلي، أريد أن أشعر به وتقريبًا أخاطبه، وأقول له: ماذا تريد أن تقول؟ إن الكلام واضح ومفهوم ولكني لا أستطيع أن أعيه كي أكتبه: لحظتها، يأتي الحدس فأكتب، وهذا هو خلاصة قولي، حين تقترب من صاحب النص تحصل على الشرح، أنت تقول إنني مرآة، في الحقيقة لست مرآة، أنا موصل صديق لصاحب النص، قريب منه وأحبه".
نهاية الاجتهاد
دخلت الكنيسة المصرية في عهد البابا شنودة صراعًا سياسيًا مع السلطة آنذاك، ممثلة في الرئيس السادات، فحدثت انقسامات داخلية حول معنى الإيمان. مارست الكنيسة تحت ضغوط هذا الصراع سلطتها في المنع والحجب عن شعبها، كما تفعل الدولة تمامًا، لتحافظ على نوع من التدين الوظيفي الآمن، أو التابع، وضد أي أفكار أخرى مخالفة، مثل أفكار الأب متى المسكين التي وصفت آنذاك بالهرطقة.
أعتقد أنها مشكلة مصرية بامتياز، لا تخص ديانة بعينها لكنها تخص طريقة تفكير وتفاعل مع ديانة، أنبتت هذا الجمود أو الأحادية. أنَّ النخبة التي بيدها الأمر غالبًا ما تكون مُحافظة ووظيفية، تؤدي عملها في مناخ طقوسي، بلا روح ولا إبداع، في مجال يحتاج للإبداع، وتفضل عدم المغامرة في تفسير النصوص الدينية والاجتهاد، لأنها لم تعد تملك "الوعي العالي".
في حوار ثلاثي للدكاترة نصر حامد أبو زيد وجابر عصفور وهدى وصفي عام 1991 مع الأب متى المسكين(1)، عندما زاروه في دير الأنبا مقار، تساءل الأب موجهًا حديثه لصاحب مفهوم النص، وللدكتور جابر عصفور، عن سبب غلق باب الاجتهاد في الإسلام، فكان الجواب أنه بسبب أمور سياسية. ففي نظره غلق باب الاجتهاد، في الديانتين، هو السبب في بُعد المسافة بين المسلمين والمسيحيين، لأنه رسخ التمسك بالطقوس بدلًا مما وراء النصوص، وهو الإيمان أو الروح الكلية؛ أو كما يسميها "الوعي العالي".
"أنا أتكلم عن الباطن، فأنا أرى المسلم المتمكن من الروح الإسلامية الذي يتقن العبادة والتقوى عنده قدرة على دخول باب الاجتهاد، وهذا مُنع. وأنا في الحقيقة آخذ ذلك على المسلمين، فكيف يُغلق باب الاجتهاد بعد محمد عبده والأفغاني. أتعرف أن ذلك هو الذي فرّقنا، هو الذي فرّق الإسلام عن المسيحية.
حتى المسيحية حين انقسمت إلى كاثوليكية وبروتستانتية وأرثوذكسية، تركت الوعي العالي ونزلت إلى الوعي العقلي، فحين يرتفع المسلم في باب الاجتهاد ويتلامس مع الروح، سوف يتلامس معي بلا شك. ولكن حين ننزل على الأصول فقط، سيكون لك بيت ولي بيت، لا تزورني ولا أزورك".
في كتابه الكنيسة والدولة يُعرّف الأب متى المسكين الطائفية بـ "أن يستيقظ في الإنسان وعي استقلالي بجنسه أو دينه أو عقيدته، تحت دوافع صحيحة أو غير صحيحة، تجعله يسلك مسلكًا سلبيًا تجاه من لا يشاركه في جنسه أو دينه أو عقيدته، ثم تحت إلحاحات هذه الدوافع والإثارات؛ إما ينطوي على نفسه ليتفادى المصادمة، وإما ينطلق يهاجم ويصادم، بوعي أو دون وعي، المصدر الذي يستشعر عدوانه والذي يثير قلقه باستمرار، (…) ونستطيع أن نقول إن سلاح التهديد الاقتصادي في إثارة الفتنة الطائفية أقوى بكثير من سلاح التهديد الديني الخالص".
الوعي العالي
يصف الأب متى المسكين نفسه في الحوار بكلمات عذبة وتواضع جم، نافيًا عنها قدرتها البلاغية في التفسير، بل القدرة كامنة في الروح الكلية التي وضعها الله فيه، هذا الوعي العالي، الخارج عن العقل "هناك الفكر الكلي المطلق أو الوعي الكامل يتدرج إلى الوعي غير المطلق المرتبط بالعقل فيتنزل كلامًا، ولكن قبل الكلام (هناك) وعي خارج عن الكلام، وأكبر منه، ولكن لا يخرج عنه".
كنت أشعر أننا في مصلحة حكومية كبيرة يتم فيها الترقي بالواسطة وبدرجة القرب من رئيس الدير
يضيف وهو ينفي عن نفسه تميزها "أنا روح في لغة، لغتي ليس لها قيمة، لغة محدودة، ولكن الروح هو الذي يجعلها لغة براقة".
ربما يقصد أهمية الخيال أو الإلهام، وهنا يسأله دكتور نصر أبو زيد بعدما سمع كلمة "الإلهام" تتردد أكثر من مرة في الحوار "هل أنت من المتصوفة؟"، يرد بحسم "لا، لست صوفيًا".
ربما وجد الدكتور نصر منهجًا باطنيًا في قراءة الأب متى المسكين للنصوص الدينية، كما يفعل المتصوفة المسلمون، كأن التصوف مفهوم يتجاوز الديانة باتجاه الوعي العالي.
يكتب في "الكنيسة والدولة"، "من الأفضل للإنسان أن يعيش ميتًا في نظر الناس والعالم ويخلص، من أن يتبوأ أعظم المراكز والخدمات ويخسر حريته وحياته الأبدية".
وفي كتاب"حياة الصلاة" يقول "لتكن الصلاة سندًا لك في كل أمور حياتك، صلِّ بعمق وفهم وعاطفة، وعوِّد نفسك على ما هو ضد نفسك"!
كانت الدنيا تفرُّ من تحت بصره
في رحلات عديدة لأديرة الصعيد ووادي النطرون، قابلت العديد من القساوسة والرهبان وتحدثت معهم. كنت أستغرب، في غالبيتهم، تقلدهم لهذه المناصب الحساسة. أسأل أحدهم مَن أوكلك بهذا المنصب؟ يقول رئيس الدير. كنت أشعر أننا في مصلحة حكومية كبيرة يتم فيها الترقي بالواسطة وبدرجة القرب من رئيس الدير، وليس بالكفاءة والعلم والشفافية والإبداع، والتقرب إلى الله.
خَفَت البُعد الروحي الذي كان يتسم به رهبان الأديرة، وهو السبب في زياراتي المتكررة للبحث عن هذا البُعد الغائب في حياتنا المعاصرة. كانت إحدى أمنياتي أن أسلُك هذا الطريق، وأنا وسط الحياة، الزهد والتأمل وتنقية النفس وتقوية الحدس، كاتبًا كنت أو أيًا كانت مهنتي. بالتأكيد كان هناك رهبان آخرون أكثر شفافية وارتباطًا بهذه العزلة الاختيارية التى يخلصون لها، ويعيشون ويضحون بحياتهم من أجلها.
يصف الأب متى المسكين في مذكراته لحظة التحاقه بسلك الرهبنة:
" كان خروجًا إلى الرهبنة بكل معنى الكلمة، كنت كطائر ينطلق في الأجواء العليا بفرح لا تعيقه الجاذبية الأرضية، لأنه قد فرد جناحيه لتحمله قوة أخرى. ومن فوق كان ينظر إلى كل شيء فيراه صغيرًا، وصغيرًا جدًا، أصغر من جناحيه الطويلين حينما يلمحهما بعينيه، فيمتلئ زهوًا بأنه قد صار حرًا والدنيا كلها تفرُّ من تحت بصره".
أين كان الناسوت؟
شاهدت مؤخرًا فيديو للبابا تواضروس يرد على خادمة في العشرينيات في مدرسة الأحد، فضفضت أمامه وطرحت عليه تساؤل طفل في الصف الخامس الابتدائي "إذا كان اللاهوت لا يفارق الناسوت لحظة واحدة ولا طرفة عين، كما يقول الكتاب المقدس، فأين كان الناسوت قبل أن يتجسد؟".
النظرة لفداء المسيح أصبحت رمزًا يشغل مكانًا مهمًا في اللا شعور الجمعي للمسلمين والمسيحيين على السواء
استغرب البابا، أحس بمبالغة في السؤال، وربما استشعر بأنه سؤال أو قلق الفتاة نفسها. قال إن الناسوت كان في بطن العذراء، فسألت الفتاة "وقبل هذا؟"، قال البابا "لم يكن موجودًا". فردت عليه الفتاة أنها أجابت الطفل بأن الناسوت كان موجودًا في الأزل.
هنا تنبه البابا وابتسم، وقال للفتاة إنها يجب أن توجه قراءات هذا الطفل "المعجزة"، بعيدًا عن القراءات الفلسفية، لأن "عقله هيتعب".
لا أعرف هل اقتنعت الفتاة أم لا؟ ولكني توقفت أمام حيوية فكرها وحبها للتأمل، ومحاولة الوصول لقناعات شخصية وفكرية لمعجزات تعيش داخل صميم عقيدتها وخيالها.
تخشى الأديان من الفلسفة، ربما ظهر علم الكلام ليكون الفناء الخلفي الذي يقوم بتفسير هذه المعاني اللامحدودة داخل كلام محدود، بغض النظر عن نوعية النص المشار إليه.
أجيال ما بعد ثورة يناير
هناك أجيال جديدة من الشباب المسيحي أزالت ثورة يناير والسوشيال ميديا من حولهم العزلة والأسوار التي عاش داخلها آباؤهم. أيقظت الثورة الوعي الجمعي، غير الطائفي، الذي كان الأب متى المسكين أحد ممثليه، وصار أحد رموز هذا الجيل، وقائدًا روحيًا، في الظل.
في المذكرات، يتمثل الأب متى هذا الوعي الجمعي ويشرح خصوصية علاقته بالمسلمين وقراءته لنفسيتهم ونفسية المسيحيين بجرأة يحسد عليها، وبدون مجاملة:
"صداقتي وحبي للمسلمين كانت موضع تساؤل مستمر من المسيحيين وكأنه أمر يؤذيهم، فكنت أزداد عجبًا وغيرة، فأحدثهم عن أصالة الوعي المسيحي أنه وعي إنساني قبل كل شيء".
"كنت أبذل جهدًا في إزاحة الحواجز التي تحجزني عن المسلمين لأنها حواجز موروثة ومتبادلة. غير أني اكتشفت يومًا بعد يوم أنها حواجز مصطنعة وليست أصيلة، فليس لها أصل عرقي عنصري فقط، ولكن تحفُّظ المسيحيين وتكتلهم وسرية حياتهم وممارساتهم الدينية أنشأت لدى المسلمين نوعًا من الشعور بالمفارقة، ثم خوفًا منهم ومن التعامل معهم، مما أنشأ عندهم نوعًا من الاضطهاد حسب المبدأ القائل إن كل هارب ينشئ له مُطارِدًا، وهو هنا صحيح".
ثم يضع يده على نقطة مهمة، تحتاج لنقاش، في العقل الباطن لأتباع الديانتين:
"شعرت أيضًا بأن الإيمان المسيحي بالغفران بدم المسيح كضحية وذبيحة دائمة ينشئ في اللاشعور الإسلامي نوعًا من الشعور بالنقص، لعدم توفر هذه الوسيلة القوية الفعالة عندهم. وبمُضي الوقت انقلب هذا الشعور بالنقص إلى شعور بالتحدي والمهاجمة. كل هذا يجري فى العقل الباطن، ولا يظهر منه إلا ما يطفو على السطح من غيرة واضطهاد بآن واحد.
ولكن بشيء من التمعن والتأمل نرى أننا نحن السبب فى كل هذا، فلا لوم عليهم حين نبادلهم –عن غباوة وضيق عقل- حقدًا بحقد، أو نستمر فى عزلتنا وسرية حياتنا، لأنه كلما اقتربنا منهم ضاع منهم النزوع إلى التعقُّب، وكلما كشفنا لهم إيماننا وعقيدتنا -دون رغبة فى التبشير- كلما ارتاحوا إلى قربنا وإلى عقيدتنا".
هذه الفكرة الذكية لا تحيل شعور المسلمين الجمعي بالتفوق لكونهم الأغلبية، بل إلى إحساس دفين بالقصور وعدم امتلاكهم تضحية مماثلة لتضحية المسيح.
يقف الدين الإسلامي ضد هذه الفكرة، ولكن يمكن بحثها في نظريات علم النفس التي تبحث عما يشكل العقل الباطن للشعوب، وكيف تتكون أساطيره وعقد نقصه وتفوقه. فالنظرة لفداء المسيح أصبحت رمزًا يشغل مكانًا مهمًا في اللاشعور الجمعي للمسلمين والمسيحيين على السواء، فالرموز الدينية تعدّت نطاق الدين ودخلت في نسيج أفكار الجميع باختلاف شكل تمثيلها، لذا يجب التعامل معها بأكثر من علم وتفسير، وبأعمق من تأثيمها أو تبجيلها.