لبعض الأشخاص موهبة تتمثل في القدرة على نشر الوئام، وإشاعة الاحترام، وبث روح التفاؤل، وتجميع الناس من شتى المشارب والأفكار. وهي موهبةٌ لا يمكن اصطناعها، وهِبَةٌ لا يمكن اختلاقها. تزداد الحاجة لوجود هذه الشخصيات في لحظات الاختناق التاريخي، وعهود التوتر الاجتماعي والسياسي، إذ يسود التشتت، وتنتشر الفرقة. وتحتاج تلك اللحظات إلى رمزٍ مقبولٍ من الأطراف المُتباينة، بل حتى المُختلفة، أو المُتناقضة، يُوحد الصفوف ويُساهم في شق الطريق نحو المستقبل المنشود!
وكان هذا هو الوضع في أُخريات عام 2004، ران الجمود وشاع التراخي، وبسطا سُلطانهما على أركان المجتمع، بعد أن تربع حسني مبارك على قمته لمدة 23 عامًا، تآكلت فيها حيوية الدولة وتكلَّست أركانها، وانتشر الفساد، وبدا أن الدفع باتجاه توريث السلطة لجمال مبارك، نجل الرئيس، وجماعته، يسير على قدمٍ وساق.
الأمر الذي ألهب مشاعر الغضب، وحرَّك رياح المقاومة، فتأسست "الحركة المصرية من أجل التغيير" بمُبادرةٍ من مُناضلين من مختلفالأطياف والمشارب السياسية والأيديولوجية، اجتمعوا على ضرورة توحيد الكلمة، وتجميع الإرادة، رافعين شعار "لا للتمديد.. لا للتوريث"، واختاروا اسمًا عبقريًا لحركتهم الوليدة "كفاية"؛ بكل ماتحمله الكلمة من تلخيص وإيحاءات ومعانٍ، وسُرعان ما انتشرت دعوتها كالنار في الهشيم، وتدفق على صفوفها الآلاف تلو الآلاف، ممن رأوا فيها دعوةً للخلاص!
وهناك دلالة لا يُمكن تجاهلها، وهي أن جميع الذين أسسوا حركة كفاية وصاغوا بيانها التأسيسي، وجلُّهم مُسلمي الديانة، أجمعوا على اختيارهم للأستاذ جورج إسحق، المسيحي، كمنسقٍ عام للحركة. وكان هذا أبلغ تعبير عن تمسكهما، أي الحركة والمؤسسين، بهوية مصر الحضارية التاريخية، التي لا تُفَرِّقُ بين أهلها أيًا كانت عقيدتهم، بل تنفتح على كل فكرٍ صحيح، وتتسع لكل رأيٍ سديد، وتستوعب كل قيمة ثقافية وإنسانية مُتحضرة.
وكان هذا الاختيار موفقًا إلى حدٍ كبير، ليس وحسب لدلالته الواضحة كقيمة عُليا، وإنما أيضًا للكفاءة التي أدار بها "الأستاذ جورج" دولاب العمل التطوعي الواسع دون أن يكل أو يمل. واستقى الأستاذ خبراته العملية من تاريخ طويل من العمل العام والكفاح الوطني ضد الاحتلال البريطاني عندما كان صبيًا، وفي مُعترك الشباب في مواجهة "العدوان الثلاثي" على مدينته الأثيرة بورسعيد، عام 1956، ثم في ساحة العمل الحزبي بعد منتصف السبعينيات. فضلًا عن علاقاته الواسعة والمتشعبة التي كوَّنها خلال عمله التربوي، وجندها لخدمة حركة كفاية، ونشر دعوتها السلمية الرائدة.
غير أن المفاجأة لم تكن في اختيار اسم "كفاية" المُعبأ بالمعاني والأبعاد، وإنما في الإقبال الشعبي الذي فاق كل توقُّع، وخاصةً مع توالي مُظاهرات الحركة التي وصلت ذات يوم إلى الانتشار في 15 مُحافظة في وقت واحد، وتصاعدت وتيرة العمل الشعبي، وانتشرت موجاته في شتى أركان البلاد، مُشيرةً إلى طاقةٍ هائلةٍ تختزنها أعماق مصر التي تموج بالحيوية والرغبة في التحرُّر والانطلاق.
بعد عام على قيادته لحركة كفاية، أصر على اختيار منسق جديد لها، إعمالاً لقاعدة تداول المواقع القيادية التي كنا نطالب بها
في مُقدمته لكتابي المُعنون رفّة الفراشة: كفاية: الماضي والمُستقبل، الصادر عام 2006، يقول "الأستاذ جورج" أن حركة كفاية "استطاعت أن تُعيد الاعتبار إلى الكفاح الديمقراطي السلمي القانوني بعد أن تمت مُصادرته عبر أكثر من خمسين عامًا، وبعد أن أصبح عنف التنظيمات الراديكالية الإسلامية يبدو أنه الطريق الوحيد، رغم فشله، ورغم ما خلَّفه من ضحايا والآلاف من المُعتقلين، وما ساهم به في دعم أجهزة الأمن، التي أصبحت لها اليد الطولى في إدارة البلاد وتحديد مصيرها".
وعلى المستوى العملي، فلم تترك حركة "كفاية" تطورًا في الساحة العربية يهم وطننا وقضاياه، إلا وكان لها موقفًا وطنيًا وقوميًا واضحًا، في التفاعل معه والتعاطي مع نتائجه وتطوراته.
بعد مرور عام على قيادة الأستاذ جورج إسحق لحركة كفاية، أَصَّرَ على وجوب اختيار منسق جديد لها، إعمالاً لقاعدة تداول المواقع القيادية التي كنا نطالب بها. وخلّفه نفرٌ من أفذاذ الحركة الوطنية المصرية، ورموز عطائها الفكري والإنساني، كالدكتور عبد الجليل مصطفى، والدكتور عبد الوهاب المسيري وغيرهما، كمنسقين للحركة. واتجه إسحق بعد ذلك إلى النضال عبر ساحة العمل الحقوقي، من خلال عضويته في المجلس القومي لحقوق الإنسان.
كان يُدرك أن العمل لخير الوطن والمواطن لا يتجزأ، وإن إنسانًا بلا أمان أو كرامة في موطنه لا يُعوّل عليه في إحداث النهضة المُرتجاة، وأن جدول أعمال حقوق الإنسان في بلادنا مُتخمٌ بالقضايا، وأصبح بابه المفتوح على مصراعية هدفًا لكل صاحب مظلمة أو آمل في الإنصاف.
ورغم آثار التقدُّم في العمر، مواليد 1938، وحرج الحالة الصحية لـ "العم جورج" الذي كان أُصيب بسهم جائحة كورونا النافذ، لم يستسلم القائد صلب الإرادة، لوهن الجسد، أو صعوبة الحركة. بل ظل مُداومًا على العمل بكل ما يملك من طاقةٍ وعزيمة. نشط من خلال الحركة المدنية الديمقراطية، التي تضم 12 حزبًا مُعارضًا من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، اتحدت إرادتها على خوض "الحوار السياسي" من أجل توسيع المجال العام، وفتح بوابات النور ونوافذ الحرية، كشرطٍ لازم لمواجهة التحديات التي تُحيط ببلادنا من كل جانب!
رحل الأستاذ جورج إسحق، كما رحل من قبله أرتال العظماء والوطنيين الكبار في مسيرة التاريخ المصري الوضيئة نحو والعدل والحرية. رحل جسدًا، لكنه باقٍ كرمزٍ، وأيقونةٍ للنضال الوطني والعطاء الإنساني، ونموذجًا لقيم التسامح، والمغفرة، والسعي للخير المُشترك، والذود عن الصالح العام.
رحل جسدًا، لكنه باقٍ فيما أعطاه للناس والمُجتمع من جهدٍ نبيلٍ، وما أشاعه من روح وضَّاءة، وما دافع عنه من مبادئ وأفكار. وهو يستحق لهذا كله، أن يعيش في الوجدان الجمعي للأمة، وأن تُخَلَّد ذكراه في العقول والضمائر، وكما يقول الشاعر أحمد شوقي:
إن تسل أين قبور العظماء... فعلى الأفواهِ أو في الأنفسِ.