كما يموت النخل، مات الدكتور أحمد عبد الله رزة في السابع من يونيو/حزيران قبل سبعة عشر سنة، واقفًا على قدميه، لم يركع، ولم يفرط في مثقال ذرة من شرفه وقناعته وحبه للبسطاء.
مثقفون لا حصر لهم انكسروا في منتصف الرحلة، باعوا وقبضوا ثمنًا بخسًا، بحثًا عن المتاح من الفتات الرخيص، أو سبحوا بحمد السلاطين الجائرين أملًا في مناصب لا تدوم، أو إيثارا للسلامة، والراحة الخادعة.
أما رزة، الذي رحل في صمت، رغم أنه كان الأعلى صوتًا بين أبناء جيله، فلم يخن الفقراء الذين كرس حياته من أجلهم، احتج لصالحهم، فذاق التهميش والإبعاد والقتل المنظم على أيدي سلطة لا ترحم، كانت ولا تزال تتمدد كحيوان خرافي في كل مكان.
لم تستطع أي من مؤسسات مصر أن تستوعب رزة، لأنه كان متمردًا دومًا على أي مؤسسة في بلاد الموظفين المطيعين، فبنى مجده على كفيه، وصنع أسطورته الذاتية حين أسس "مركز الجيل" بين المساكين وذوي الحاجة في حي عين الصيرة الفقير، وكأنه يرى أن الموهبة هي المنصب الذي لا يستطيع أحد أن يقيلك منه إلا الله، وكان عزاؤه حب الناس، والتفافهم حوله، حتى في أحلك الظروف.
وباسم هؤلاء الفقراء ترشح لنيابة البرلمان عام 2005، وعول عليهم في نصرته، لكن ما حصده من أصوات لم تكن أبدًا تترجم قدر محبته لهم. انكسر قلبه لما جرى، غير أنه عذَر الناس، فوقتها كانت القاهرة في المرحلة الثالثة التي تمت تزويرها بالكامل، ولم يكن رزة مرغوبًا فيه من السلطة أو الإخوان على حد سواء.
على ضفاف الحلم
تعرفتُ على رزة في صباي على الورق من خلال كتابين، الأول حرره وشارك فيه بعنوان الجيش والديمقراطية في مصر، والثاني هو أطروحته للدكتوراه الطلبة والسياسة في مصر فأكبرته، وسألت عنه من هم أكبر منا سنًا وأغزر معرفة ففاضوا في الحديث عن شجاعته ومآثره، ورسموا معالم كفاحه كزعيم نابه للحركة الطلابية في سبعينيات القرن الماضي. امتلأ قلبي الغض إعجابا به، وراح يتسلل، من دون استئذان، إلى خاطري فشكل، مع أمثاله من المناضلين الكبار من مختلف التيارات والمذاهب، جزءًا أصيلا من رؤيتي، وبعض زملائي، للناس والحياة.
ورأيته أول مرة قبل واحد وثلاثين سنة في ندوة شهرية للمركز العربي الإسلامي للدراسات الذي كان يتبع حزب العمل، فقستُ هيئته الحاضرة أمامي على الصورة التي رسمتها له في ذهني، فتطابقا تمامًا. لم يتغير رغم مرور السنين، وكان يبدو طالبًا على ضفاف الحلم والحماس في لباسه وطريقة كلامه وانحيازه للبسطاء ودفاعه المستميت عما يعتقد أنه الحق والصواب والخير والجمال، حتى لو أغضب كثيرين، أو تخلى عنه رفاق الفهم والحلم والدرب.
كانت ملامحه قد ضمرت، لكن بريق عينيه لم يفقد تألقه
وسمعته وقتها، رغم يساريته الحادة الجلية، يدعو عتاة "الإسلاميين" بمختلف أطيافهم، والاشتراكيين الاعتداليين بشتى ألوانهم، والليبراليين المنادين بتحرير كل شيء، وكذلك الصامتين المترقبين غير المنحازين لتيار أو مذهب، إلى أن يتعاونوا ضد الفساد والاستبداد، شارحًا كيف أن القواسم المشتركة بينهم أكبر بكثير من نقاط الخلاف والاختلاف، وهي مسألة لم يتم تداركها خلال أحداث ثورة يناير، فانتهى الجميع إلى التشرذم والتفرق، الذي سهل للقوى المضادة للثورة أن تنقض عليها.
وظلت أحلام رزة (1950 - 2006) مطوية في الصدور والعقول حتى جاءت الحركة المصرية من أجل التغيير "كفاية" التي كان أحد مؤسسيها، لتترجم الأقوال إلى أفعال، والأحلام إلى واقع، في تكوينها من أخلاط سياسية مصرية، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
بلدي يتمزق
بعدها لم أر الدكتور أحمد عبد الله عشر سنوات كاملة، سافرت نصفها تقريبًا إلى الخارج، لكنني كنت أتابعه في كتاباته التي توالت، عميقة على ندرتها، مشحونة بالحماس كعادتها. وذات مرة قابلته مصادفة في ميدان باب اللوق. كان قد نسي ملامحي، لكنني عانقته وعرفته بنفسي، فاكتشفت أنه يتابع ما أكتبه ويقرأه. كانت ملامحه قد ضمرت، لكن بريق عينيه لم يفقد تألقه، وحنقه زاد على النظام الحاكم إلى حد القطيعة والغبن والكراهية الكاملة.
سألته لماذا لم يعد يكتب في الصحف المصرية، فقال "قاطعت الكتابة إلا في الصحافة الأجنبية من أجل لقمة العيش، وأرفض أن أظهر في التليفزيون المصري للتحدث عن مشاكل الفلبين وكوستاريكا وبلدي يتمزق".
بعدها التقينا في ندوة كنت أشارك فيها بورقة عنوانها "جامعات سجينة"، وكان رئيس الجلسة، المجرد من أي شيء سوى أحلامه وحبه للوطن، فقدم المشاركين في لغة غارقة في الحماسة، وكأنه لا يزال يخطب داخل مدرجات جامعة القاهرة، ويعلن رفضه، جهارا نهارا، لسياسات السادات.
وأذكر أنني قلت له "سيناريو توريث الحكم يجري على قدم وساق" فقال بنبرة حادة جازمة "على جثتي". وقتها أشفقت عليه، وشعرت بحجم شعوره بالمسؤولية، ومقدار استعداده لأن يدفع روحه ثمنا لتحقق أي قدر من أحلامه العريضة، بوطن حر متقدم، وحكم عادل وديمقراطي، وثقافة مقاومة للقهر والطغيان.
اختلفت معه، كغيري، في بعض ما كان يدور في ذهنه المتوقد من أفكار نظرية، لكننا جميعًا، على ما أتصور، احترمنا مسلكه العملي، وتمنينا أن نكون مثله، لا نقبل الدنية في أحلامنا، ولا المساومة على مستقبل بلادنا العزيزة.
خطفت الحقيقة الخالدة الدكتور أحمد عبد الله منا، لكن كتاباته وحركاته، ستظل دوما معنا، تذكرنا برجل لن تنزوي سيرته العامرة بالكفاح والشرف أبدا في زاوية النسيان.