في غمرة التنافس الحاد بين التيارين الديني والمدني في مصر عقب ثورة 25 يناير 2011، انبرى أحد وعاظ السلفية ليصف الليبرالي وصفًا غريبًا، لا ينطوي فقط على خطأ وتحامل، بل أيضًا يعبِّر عن اتجاه التيار السياسي الإسلامي في تشويه معنى الليبرالية في أذهان المصريين، مثلما فعل سابقًا مع اليسار المصري وهو يتهمه باعتناق الشيوعية التي تدعو إلى الإلحاد.
كان الواعظ هو حازم شومان، الذي توجه إلى الدكتور محمد البرادعي بوصفه القائد الليبرالي الأول وقتها، وقال له في خطبة شهيرة أمام جمع غفير "دولة مدنية؟ مدنية يعني إيه؟ يعني أمك متلبسش حجاب. ليه؟ أمي أنا؟ (..) عايزين دولة ليبرالية. يعني إيه ليبرالية يا برادعي؟ (..) يعني أي حكم يحكمنا إلا الإسلام. ليبرالية يعني مفيش حاجة اسمها راجل وست، ممنوع رجولة أصلًا".
وبقدر ما أثار هذا سخرية الليبراليين، بقدر ما أطلق شكوكًا في أذهان الجمهور حديث العهد بالسياسة وأفكارها حيال الليبرالية، باعتبارها فكرة مرتبطة بالانفلات والتحلل والتغريب التام، أو أنها نبت غريب، يعمل البعض على زرعه عنوة في تربتنا الاجتماعية والسياسية.
يُذكِّرنا خطاب شومان هنا بما جرى للمفكر المصري أحمد لطفي السيد، حين ترشح في إحدى دوائر الدلتا على مقعد بأول جمعية تشريعية مصرية عام 1913. فقد سبقه منافسه إلى الدائرة وقال لأهلها إن لطفي السيد "رجل ديمقراطي"، فلما سألوه عن معنى "ديمقراطي" قال لهم إنه الرجل الذي يقبل أن تعاشر زوجته رجالًا غيره، ويريد للكل أن يكونوا على شاكلته. وحين زار لطفي السيد الدائرة أخذ الناس يسألونه: هل أنت ديمقراطي؟ فكان يجيب بكل ثقة: نعم أنا ديمقراطي، فيضرب الناس كفًا بكف منصرفين عنه، ليسقط في الانتخابات سقوطًا مروعًا، تاركًا خلفه حكاية تُروى إلى يومنا هذا.
مركزية الفرد
إنه التدليس المستمر الذي تصنعه السياسة وهي تضع الأكاذيب على الألسنة، فلا من اتهم لطفي السيد كان يروم الحق والحقيقة، ولا شومان قصدها أيضًا، إنما هي الضغائن والصراعات الأيديولوجية التي جعلت بعض فصائل اليسار نفسه تنظر إلى الليبراليين المصريين باعتبارهم مغتربين ومتغربين بالضرورة، يتساوقون مع المشروع الرأسمالي المتوحش، ولهم همزات وصل بأصحابه، ويتبنون من القيم والتصورات ما لا يناسب مجتمعنا، ولا معتقدنا الديني.
ليس هذا سوى افتراء أو تعميم خاطئ، فإذا كان هناك ليبراليون أفراد يمكن أن تنطبق عليهم بعض تفاصيل هذه الصورة، فإن الأحزاب الليبرالية ليست على هذا النحو، إنما ينهل كثيرون فيهم من معين المرحلة الليبرالية المصرية الوطنية نفسها التي كانت قائمة قبل يوليو 1952، ولا يزال هناك بيننا من يحن إليها، ولا يزال بيننا حزبٌ يتبناها وهو حزب الوفد الجديد، ومعه بعض المثقفين ووجهاء المجتمع.
وجدت الأحزاب والحركات الليبرالية المصرية نفسها في موقف دفاعي حيال هذه الدعاية المضادة، مارستها الجماعات السياسية الإسلامية وبعض اليسار، ولذا كان عليها أن تجتهد في بلورة رؤية خاصة لليبرالية، تناسب وضعها وموقعها ودورها.
الليبرالية المصرية الراهنة تنادي باحترام المعتقد الديني وحق كل فرد في اعتناق ما يريد
ويمكن هنا أن أضرب مثالًا بالنقاش العميق الذي أجراه حزب المحافظين بوصفه أحد أكبر الأحزاب الليبرالية في مصر حاليًا، أو أكثرها طموحًا، في سبيل حل هذه المعضلة، فانتهى إلى صيغة يعتنق فيها مبادئ الليبرالية المعتدلة، التي لا تعارض الأديان والتقاليد والقيم الراسخة المتفق عليها من الجماعة الوطنية، بل ترى أن للدين والتراث دورين مهمين في بناء منظومة القيم الإنسانية، والأخلاق العليا للمجتمع.
ما يرفضه حزب المحافظين هو الدولة الدينية، أو إقحام الدين في السلطة السياسية، بحيث يزعم شخص أو مؤسسة أنها تحكم باسم الله، أو يتحول الدين نفسه، من مصدر أساسي للامتلاء الروحي والسمو الأخلاقي والخيرية أو النفع العام، إلى عقيدة سياسية، أو طريقة لإدارة الدولة، وحصول نظام الحكم على شرعيته، التي يجب أن تُسند أو تعود في كل الأحوال إلى إرادة الأمة، وإلى الدستور الذي يقره الشعب.
نعم، هذا الصنف من الليبرالية المصرية الراهنة ينادي باحترام المعتقد الديني، وحق كل فرد في اعتناق أي دين أو مذهب، ويضمن حريته في إقامة شعائره كحق طبيعي، ويرفض أي أساليب أو وسائل قسرية لإكراه الناس على معتقد، وترى في هذا قهرًا وعنفًا يتعارض مع حرية الفرد وكرامته.
نحن أمام نموذج مصري لليبرالية يدور حول احترام حرية الفرد وحقوقه، وفق عقد اجتماعي واضح المعالم، مبرم بين السلطة والشعب. وهي ليبرالية تُعلي المصلحة لا المنفعة القائمة على التكالب والاستئثار والاحتكار، ولا تجعل حرية الفرد في عداء مع حريات الآخرين، لكن تضمنها بطريقة متوازنة في المعتقدات والأفكار، وإدارة الاقتصاد القومي، وتُقيم علاقة بناءة بين الحرية والأخلاق، فهي لا تأبه بسلوك الفرد طالما يسري في دائرته الخاصة، ولا يجرح معتقدات ومشاعر وأذواق الآخرين.
والنزعة الفردية التي انتهى إليها النقاش في حزب المحافظين تنطلق من أن الفرد هو الأساس، فهو من تدور حوله فلسفة الحياة برمتها، بوصفه كائنًا يعرف مصلحته، ويسعى إلى ما يحقق حريته وكرامته، ويضمن له حق الاختيار، وحق التعبير عن الذات، وإبداء الرأي والموقف حيال المجتمع بمختلف الوسائل المشروعة، وحق البحث عن معنى للحياة وفق القناعات التي يختارها، لا وفق ما يُملى أو يُفرض عليه.
وإذ تؤمن هذه الليبرالية بالتسامح، واحترام كرامة الإنسان، وضمان حقه في الحياة والعمل، فهي ترفض أي دور للدولة في الهيمنة على العلاقات الاجتماعية وأنماط التنشئة، وأنواع الأنشطة الاقتصادية، إلا إذ وقع خلل يضر بمصالح الأفراد والمجتمع.
وفي الاقتصاد يقوم هذا النموذج على حق التملك، وضمان الأجر مقابل العمل، وحرية تصرف الأفراد في مالهم الخاص، وإطلاق الإنتاج والتجارة دون قيود أو تدخل من قبل الحكومة، على أن يكون للأخيرة دور محدود في إرساء القانون خلال أي معاملات اقتصادية أو تجارية، والعمل على توفير الفرص المتكافئة بين المنخرطين في مختلف الأنشطة الاقتصادية، وإقرار عدالة في توزيع عوائد التنمية بما لا يترك أي أثر لظلم اجتماعي.
كما تضمن الحكومة أيضًا منع الاحتكار، وحق المستهلك في سلعة جيدة، ومحاربة الفساد والاستغلال، وتشجيع العمل النقابي، وفتح الأسواق أمام المنافسة الحرة، التي تعود بالنفع على المجتمع، والكفاءة والكفاية، وتفتح الباب أمام الرخاء، وتقر مستوى معتدلًا ومناسبًا من الضرائب والجمارك والرسوم، وتمنح المواطنين خدمات مقابل دفعها، وتضمن حقه في المشاركة السياسية.
الحاجة إلى رد الأكاذيب
إنها ليبرالية لا تهمل الجوانب الاجتماعية، ومنها مكافحة العبودية بأشكالها الحديثة، والمساواة بين الجنسين في الحقوق والواجبات، وضمان الحق في العمل، وتحصيل الأجر المناسب مقابل الجهد، دون ظلم أو فائض قيمة، وتطالب الحكومة بتبني برامج مدعومة للتعليم والرعاية الصحية، وتربية الأطفال، ورعاية المسنين وذوي الاحتياجات الخاصة، وأن يكون هناك ضمان اجتماعي أو شبكة أمان مناسبة، وأن تفرض الدولة حدًا أدنى للأجور يكون من شأنه توفير الاحتياجات الضرورية للمواطن.
نكون هنا أمام "ليبرالية معتدلة" وفق تصور أصحابها، وهي تتطلب وعيًا اجتماعيًا وسياسيًا يحرر الإنسان من قيود السلطوية، ومن التسلط الذي يكبل الإرادة، ويراعي القيم العامة التي تشكل ثقافة راسخة لمجتمعنا.
سبق وأن واجه اليسار المصري الافتراءات نفسها التي واجهتها الليبرالية، فكان حزب التجمع يصف نفسه بأنه "وحدوي ديمقراطي"، وتفرد جريدته الأهالي صفحة دينية في عددها الأسبوعي الذي يصدر كل أربعاء، ويحرص زعيمه خالد محيي الدين على أداء الصلوات في مقر الحزب، حيث لم يخلُ مكتبه من مصحف وسجادة صلاة، وكان البعض ينادونه بالحاج خالد.
واليوم، ومع انحسار اليسار، عادت هذه الفرية على ألسنة بعض السياسيين الإسلاميين وأتباع السلطة الحاكمة كذلك، مع التنافس السياسي الحاد على المجتمع، وصارت تشكل معضلة أمام الليبراليين المصريين وأحزابهم، بات عليهم أن يتصدوا لها، ويعملوا على تجاوزها، وأن يردوا على أي أكاذيب بشأنها، حتى لا تؤدي إلى الخصم الشديد من رصيدهم الاجتماعي الضعيف أصلًا.