وقعت عيني على اسم عبد الخالق فاروق للمرة الأولى على صفحات جريدة الوفد في أحد أيام عام 1991، بينما كنت أقضي خدمتي العسكرية ضابطَ احتياطٍ بسلاح الدفاع الجوي، وتشتعل في رأسي مخاوف وهواجس، وتوخزه أشواك الأسئلة عن فرص العمل المتاحة أمامي بعد انتهاء تجنيدي، وأنا من يرغب في أن تكون الكتابة موهبتي ومهنتي ومهمتي، لذا رحت أتابع باهتمام وشغف كل ما يُنشر في الصحف منسوبًا إلى مراكز الدراسات، وكان أحدها تابعًا للوفد.
كتب فاروق مقالاته تحت لافتة "مركز دراسات الوفد"، الذي أسسه السياسي والصحفي المصري أيمن نور، ورأيت في ما يكتبه هذا القلم اليساري على صفحات جريدة ليبرالية عمقًا في التناول والتحليل، وانحيازًا إلى العدل الاجتماعي والحرية في آنٍ. قلت لنفسي: قد أجد مكانًا بين هؤلاء حين أنهي خدمتي العسكرية. جاءت الكتابة في منابر أخرى، وبقي اسم عبد الخالق محفورًا في رأسي، لشجاعته، وشمول تحليله، ووضعه بذكاء الاقتصاد في تفاعلٍ خلَّاقٍ مع السياسة، وفي انشغال واضح بقضايا المجتمع، وحاجة الناس إلى الكفاية، واحتياج القرار الوطني إلى الاستقامة والاستقلال.
ولمَّا طالعت كتبًا أربعةً لعبد الخالق، وهي مصر وعصر المعلومات واختراق الأمن القومي المصري وأوهام السلام والتطرف الديني ومستقبل التغيير في مصر، وجميعها صدرت بين 1991 و1994، أدهشني فهمه للسياسة قدر فهمه للاقتصاد، لا سيما أن كتبه اللاحقة حللت الاقتصاد الجزئي لمصر، إذ لم يترك بابًا فيه إلا وطرقه بقوة، فدرس اقتصاديات التعليم والإسكان والصحة والطاقة، وحتى الاقتصاديات المرتبطة بالدين لم يغفلها، فألَّف كتابيه اللافتين كم ينفق المصريون على الحج والعمرة؟ واقتصاديات جماعة الإخوان المسلمين في مصر والعالم.
الفيات الذهبية وما بعدها
قبل عشرين عامًا، هاتفني الدكتور محمد حلمي عبد الوهاب وقال لي: أدعوك إلى غداء في بيتي برفقة عبد الخالق فاروق، فهل تعرفه؟ أجبته: نعم، قرأت له مقالات ودراسات وكتبًا، فقال: هو قرأ لك ويود أن يعرفك عن كثب. وجاء عبد الخالق إليَّ بسيارة فيات دهنها بلون ذهبي مميز، لكن مظهرها لم يقدر على إخفاء جوهرها، فرحنا نضحك عليها وهي تزمجر وتتأرجح بنا إلى حدائق القبة، ونقول سويًا: ما أشبهها بنظام الحكم الذي يقبض على البلاد.
كان عبد الخالق وقتها ما زال محتفظًا بالكثير من الصورة التي رأيتها تعتلي مقالاته، حيث الوجه المستدير الذي يسكنه شارب كثٌّ مشذب، ونظارة سميكة تحط على ملامح صارمة ينساب تحتها قوام ممشوق. ثم رحت أرى الزمن يخط معالمه على وجهه، ويرمي أثقاله على جسده فينهكه ويرهله، لكن لم ألمس أبدًا أي تغير يطرأ على روحه الوثابة، وجرأته، وإخلاصه، وتمرده على السائد، وانحيازه لبسطاء الناس، وطموحه الدائم في أن تصل كلماته إلى أعماق المجتمع.
على الطريق كله منذ أن طاله الوعي وحتى سجنه الأخير أخلص عبد الخالق لكونه مثقفًا عضويًا
تجاذبنا أطراف الحديث وتعددت اللقاءات، فوجدت أمامي رجلًا يقف بصلابة على أكتاف تجربة طويلة من العمل السياسي والعطاء العلمي المتدفق، يتعثر في وظيفة تكبر مع الأيام، لكنها لا تخلو في كل مرحلة من متاعب إدارية قاسية، إذ إن جهره بما يراه حقًا وصوابًا جعله في خصومة دائمة مع كل الذين اعتلوا منصب رئيس الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة، حتى أنهم أبعدوه عن المبنى الضخم المميز في مدينة نصر إلى شقة تابعة للجهاز تطل على ميدان باب اللوق، وخصصوا له غرفة ملأها بالكتب والأوراق، فغرق هناك في أبحاثه التي كانت بذرتها تقارير ودراسات قصيرة يقدمها إلى رؤسائه المتتابعين، ويرى أنهم لا يأخذون بها.
انشغل عبد الخالق بهموم الوطن منذ شبابه مع التحاقه بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، مخالفًا رغبة والده الضابط في أن يلتحق بالكلية الحربية، بعد أن يسَّر له أمر القبول بعلاقته الطيبة بقادته الكبار. فحين مثل عبد الخالق في كشف الهيئة بعد اجتياز الاختبار الطبي بنجاح، صارح اللجنة قبل أن توقع بالموافقة بأنه راغب في دراسة الاقتصاد، فعدلوا عن الموافقة، واستجابوا لرغبته، وتركوه إلى حال سبيله.
ربما جذبه إلى هذه الحياة نشاطه مع اليافعين في حملة النائب البرلماني العظيم علوي حافظ في حي الدرب الأحمر بالقاهرة، وانجذابه إلى الفكر اليساري، ووقوفه البسيط في البداية على تجربة التنظيمات السرية، ما ترجمه عبر الانخراط في النشاط الطلابي. فكان ممن يرفعهم المتظاهرون داخل الجامعة على الأكتاف، بل التحق بعمل بسيط في أحد مصانع شبرا الخيمة، متعللًا بتوفير نفقات دراسته، بينما كان يرمي إلى تجنيد العمال لتنظيم يساري كان من قياداته الشابة.
وحين انطلقت انتفاضة الخبز عام 1977 كان بين المشاركين فيها بقوة، حتى انتبهت إليه أجهزة الأمن، وطاردته من الجامعة إلى شوارع المنيل ثم مصر القديمة حتى اعتقلته ليقضي، وهو طالب بالسنة الجامعية الثانية، شهرًا في محبسه، ثم عاد إلى السجن عام 1981 حين شارك الغاضبين من اشتراك إسرائيل لأول مرة في معرض القاهرة الدولي للكتاب. والمرة الثالثة كان ضمن المقبوض عليهم في "خلية شيوعية" عام 1989، وهي تجربة سجلها في كتيب صغير.
أصدر بعد تخرجه نشرة دورية باسم "الحساب"، احتوت على مقالات ودراسات تطالب بالعدل الاجتماعي والتنمية الذاتية، ورفضت الدرب الذي سار عليه الرئيس السادات في السياسة والاقتصاد. جذبت "الحساب" إليها أقلامَ يساريين كُثُر من الشباب، بعضهم تخلى عن أفكاره ودوره فيما بعد، وسلك دربًا مغايرًا تمامًا، حتى أنني انفجرت ضاحكًا حين أطلعني على بعض أعداد هذه النشرة عام 2015، فرأيت فيها أسماءً انتقلت من النقيض على النقيض، جريًا وراء منافعَ ذاتية زائلة.
أما عبد الخالق فلم يتخلَّ عن فكره، ولم يساوم عليه، وإن كانت التجربة أمدَّته بكثيرٍ من الأفكار والتدابير، التي جعلته مؤمنًا بالحرية وتداول السلطة والتعددية، جنبًا إلى جنب مع العدالة الاجتماعية واستقلال القرار الوطني.
بين الناس.. ضد الفساد
على الطريق كله منذ أن طاله الوعي وحتى سجنه الأخير، أخلص عبد الخالق لكونه مثقفًا عضويًا، فلم يحبس نفسه في قمقم، أو ينعزل في برج عاجي، إنما نزل إلى الشارع وخالط الناس ووقف على معاناتهم، وحاول أن يبصرهم بما عليهم فعله، وأن يأخذ بأيديهم إلى الأمام، دافعًا إياهم إلى التمرد على ما تتيحه السلطة وتراه مِنحًا وعطايا وربما صدقات، بينما هو حق أصيل لهم.
وأردف عبد الخالق مع رؤيته الاقتصادية والسياسية، التي يعانق فيها التعبيرُ التدبيرَ، والفكرُ الحركةَ، والجدلُ العلمي البرنامجَ العملي، مسلكًا آخرَ يتعلق بالإدارة وشؤونها وشجونها، حيث كتب مطالبًا بأن تصبح على قدر من الكفاءة اللازمة، وعلى بيِّنة من الإخلاص الدائم، فأصدر في هذا مؤلفًا مهمًا هو جذور الفساد الإداري في مصر، وآخر بمشاركة آخرين عن اقتصاديات الفساد في مصر: كيف جرى إفساد مصر والمصريين، مستفيدًا في كل هذا من تجربته الوظيفية ليس في الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة فقط، بل أيضًا من خلال عمله باحثًا اقتصاديًا بمكتب رئيس الوزراء فؤاد محيي الدين عام 1982، ثم بالهيئة المصرية للرقابة على التأمين التابعة لوزارة الاقتصاد عامي 1983 و1984، وخبيرًا في شؤون الموازنات العامة الحكومية في المنتديات الدولية، وعضوًا بالمجلس القومي للأجور عام 2011، ومستشارًا لوزير القوى العاملة والهجرة عام 2013.
اشتهر عبد الخالق بأنه محارب عنيد عتيد للفساد، وجهر في هذا برأيه دون وجل ولا خجل، وفي اندفاع بلا رويّة، ومواجهة بلا تردد، حتى ظنه البعض متهورًا غير محترس، أو جاهلًا بقانون العقوبات، بينما هو الرجل الذي دَرس القانون فحصل على ليسانس الحقوق ثم دبلوم فيه بعد 18 عامًا من حصوله على بكالوريوس الاقتصاد، أتبعه بدبلومٍ ثانٍ فى القانون العام، وثالث في إدارة الجهاز الحكومي القومي من معهد الإدارة العامة باليابان.
في مسيرته المهنية أيضًا تعاونَ مع مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، كما رأسَ مركز النيل للدراسات الاقتصادية والاستراتيجية لثلاث سنوات. وطوال هذه السنوات لم ينسَ دوره مع الناس، فانخرط في حركة كفاية، وكان في طليعة ثورة يناير 2011، ورأيناه في يومها الأول يجوب على مقاهي حي بولاق أبو العلا يخطب في الناس أن ينهضوا للمشاركة في الغضب النبيل. بعدها بذل جهدًا مضنيًا ضمن "لجنة المائة" التي حاولت اختيار مرشح توافقي خلال انتخابات الرئاسة عام 2012، ولو كان قُدِّر لها النجاح، لذهبت مصر في طريق آخر.
هذه المسيرة الطويلة في العلم، التي أنتجت ما يربو على أربعين كتابًا في الاقتصاد والإدارة والسياسة، والمسيرة المريرة في العمل التي صنعت رجلًا يخلص بكل كيانه لبلده ويحلم ويعمل ليراه في أعلى عليين، لم يجنِ عبد الخالق منها سوى الحنظل، إذ ظل طوال الوقت من المستبعدين، يصرخ فيضيع صوته في البرية، ويشهر سيفه ليحارب طواحين الهواء، ويقبض فقط على جائزتين للدولة التشجيعية عامي 2002 و2010، وجائزتين أخريين لأفضل كتاب في معرض القاهرة الدولي، وحين تقدم لجائزة الدولة للتفوق استبعدوه، وهو ما يستحق جائزة الدولة التقديرية عن جدارة.
الحصاد المر
أيقن كل من يعرف عبد الخالق فاروق هذا الحصاد المر، حين رأوه يُساق إلى الحبس مرة أخرى في أكتوبر/تشرين الأول 2018 بعد تأليف كتاب هل مصر بلد فقير حقًا؟ وفيه تفنيد للرؤية التي ترغب السلطة السياسية في تعويمها وترويجها وترسيخها بأن مصر بلد ضعيف غارق في الحاجة والعوز. وزادت مرارة الحصاد مع حبسه مرة جديدة قديمة قبل أيام، بسبب مقالات عن إهدار المال العام، وعن سوء الإدارة، وتراخي الإرادة، لم يجرؤ منبر في مصر على نشرها، فأطلقها على فيسبوك غير خائفٍ من حساب.
من يدخل شقة عبد الخالق البسيطة جدًا في حي الشروق يدرك أن صاحبها لم يتكسَّب من السياسة يومًا، ولم يبِع قلمه لأحد، ولم يكتب إلا ما يؤمِن به ويعمل من أجله. أما من يطلب منه التحايل بعض الشيء فهو لا يدرك اشتعال الجسارة الدائمة في نفسه، ومن يدعوه إلى المسايرة لا يعرف شيئًا عن كبريائه، ومن يطالبه بالتمهل لا يدرك أنه في عجلة من أمره، مسرعًا نحو غايات نبيلة يصبو إليها.
أنصتَ عبد الخالق طويلًا إلى كل من نصحوه بألَّا يقذف حجارته نحو من لا يروق له مسلكهم، ثم أهداهم ابتسامته العذبة، المعجونة بمحبة البسطاء من أهل مصر الذين تربى بينهم في الدرب الأحمر، والمغموسة في أمل لا ينقطع بأن الغد يجب أو يولد على أكف المستحيل، وقال لهم في هدوء: إن لم يقُلها أمثالي فمن يفعل؟ وإن لم يكُن الآن فمتى؟ ثم يمضي في سبيله.
يمضي ويعتب أحيانًا على أولئك الذي يقرأون جسارته ويسمعون صرخات حروفه ثم لا يشاركونه الرأي والموقف، بل يعلن غضبه منهم وخصومته لهم، لكنه لا يلبث أن يلتمس لهم الأعذار، فالأولادُ مجبَنةٌ مبخَلةٌ، والأحوال تدق المطارق فوق الرؤوس فلا تنشغل سوى بتدبير القوت الشحيح، والسجون لا يَقدِر عليها إلا من يرون أن الرضا بالاستبداد والفساد هو السجن الأكبر.
حدثني قبيل سجنه الأخير عن الأمراض التي سكنت أعضاءه وخلاياه، وهو يمضي في عامه السابع والستين، وعن جسده الذي يريد أن يسقط في خيانة روحه وأمله، وعن مخاوفه من أن يدركه الموت قبل أن يرى قامة مصر تعلو فتستعيد قيمتها من جديد، ثم سألني: ماذا يمكن أن تقول الأجيال المقبلة عنا؟ هل يغفرون لنا أننا رمينا في طريقهم كل هذا العثرات؟
وقبل أن أجيبه يجيب هو: كل يعمل على قدر استطاعته، ومن يُضيِّق هذه الاستطاعة حتى تكاد تتلاشى، يكون خان الحياة كلها، فما خلق الرجال إلا للكفاح في سبيل تحسين شروط العيش، عيشِنا جميعًا، وليس قلةً منا تستأثر بكل شيء، وتترك من حولها جوعى حيارى يأكلهم الخوف والقهر.