في مناخ يكون التشابك فيه بين الأكاديمي والحياة السياسية ضرورةً حياتيةً ملحةً لتصحيح المسار، تصبح خسارةٌ بحجم وفاةِ المعلم والدكتور حازم حسني، ضررًا لا يمكن إصلاحه أو تعويضه، وتذكيرًا كئيبًا بالمخاطر التي يواجهها المثقفون في ظل الأنظمة القمعية. وكأنها ملخص رواية حزينة شاهدة على مأساوية العواقب بعيدة المدى للحكم الديكتاتوري.
فبعد حبسه لمدة تقارب سنةً ونصف في سجون النظام، خرج الدكتور حازم ليجد نفسَه محاصرًا داخل جدران منزله، قيد الإقامة الجبرية. واختار هو أن يزيد على العزلةِ عزلةً، فأعلن استقالته من عمله الأكاديمي، أستاذًا بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، احتجاجًا على موقف الجامعة منه أثناء اعتقاله، لأنها "كتمت شهادتها" على حد تعبيره، مضيفًا "وحيدًا إذن واجهت المحنة، ووحيدًا سأخوض معركة رد اعتباري".
كم بدت هذه الجملة حزينة في بيان استقالته من الجامعة. ولكن عندما أعلن بعد ذلك ابتعاده عن العمل السياسي والشأن العام في بيانٍ حمل عنوان "الرسالة الأخيرة"، ووقف يتفرج على الدراما التي تتكشف في المشهد السياسي للأمة، لم يكن يائسًا. حاول أن يبثَّ الطمأنينة فينا، بتأكيده على أنها رحلة جديدة سيحاول فيها التمسك بصواري مبادئه "ما أحوجنا، وهذا هو حال الرحلة، لأن نقتدي بحكمة أوديسيوس الأريب وهو يعتصم بحبالٍ تربطه بصاري سفينته وهي تعبر بحر الأهوال، أملًا في نجاته ونجاتها".
وحيدًا إذن واجهت المحنة.. ووحيدًا سأخوض معركة رد اعتباري
الانسحاب القسري لمثقف بهذا الحجم من الحياة العامة، وهو القرار الذي أعلنه بقلب مثقل، يثير تساؤلات عميقة حول التكلفة المجتمعية لقمع الأصوات التي تجرؤ على مناقشة الوضع الراهن، ناهيك عن تحديه. لتتحول قصة الأستاذ الجامعي حازم حسني إلى فصلٍ آخر في قصة أكبر، عن مخاطر تفريغ المجتمع من مثقفيه، ومهندسي الفكر النقدي، وحراس الديمقراطية.
"بعد أن كانت [صورة المنفى] عقوبةً خاصةً ذات رونق وتقتصر على شخصيات اجتماعية مرموقة [..] أصبحت عقوبةً قاسيةً تُفرض على مجتمعات وشعوب بأسرها".
- إداورد سعيد، "المثقف والسلطة".
المقابلة الأخيرة
خلال لقائي الأخير معه في ستوديوهات التليفزيون العربي في لندن، أواخر مارس/آذار 2018، تأملت في قرار تأييده الفريق سامي عنان عندما أعلن عزمه ترشيح نفسه للانتخابات في مواجهة الرئيس عبد الفتاح السيسي، قبل أن يحول سجن الأخير زورًا دون ذلك.
أذكر جيدًا الحوار الداخلي الذي دار في ذهني أثناء المقابلة؛ إنَّ تأييدَ مفكرٍ بثقل الدكتور حسني للفريق عنان، لا يمكن إلا أن يكون قرارًا مدروسًا، صدر عن رجل قادر على تقييم المواقف واتخاذ القرارات المناسبة بشأنها، بغض النظر عن قراءتي الشخصية لعنان والانتخابات. لأنَّ ضيفًا بثقل الدكتور حازم يمثل بوصلة، سيكون لها تأثير كبير على الدوائر السياسية والثقافية في مصر.
توقعت أن يُعتقل الدكتور حازم في أي لحظة بعد عودته إلى مصر كما حصل مع الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح قبلها بشهرٍ واحدٍ. لكنَّ خطوة النظام تأخرت، وخيِّل لي حينها أن رجالاته ربما عادوا إلى رشدهم، ووجدوا أنه من الصعب اعتقال شخص لا يحمل سوى لقبٍ أكاديميٍّ ويُعبِّر عن آرائه في إطار النقد التصويبي لنهج الحكم.
لكن لم تخب الظنون الأولى، واعتُقل الرجل بعدها ببضعة أشهر، في تذكيرٍ فجٍّ بأنَّ السجن هو المصير الحتمي لكلِّ من تسول له نفسه انتقاد أداء الحكم وإدارته لمعركة يفترض أنها ديمقراطية! طالت الاعتقالات في تلك الفترة هامات فكرية فاعلة في المجتمع المصري، منها على سبيل المثال لا الحصر الدكتور حسن نافعة والسفير معتصم مرزوق، وكثير من الأكاديميين والصحفيين والمحاميين، وصدرت أحكام غيابية بحق المهندس ممدوح حمزة وغيره.
عملية تجريف العقول وتفريغ المجتمع من كوادره وناشطيه السياسيين ليست أمرًا جديدًا على الأنظمة القمعية، فعلها نظام حسني مبارك، وإن كان بوتيرة أقل عنفًا وعشوائيةً عمَّا هو الحال اليوم، حيث كان اعتقال المثقفين وحبسهم ورقة تُستخدم للمناورة والوصول إلى تسويات مع المعارضين.
ويحضرني في هذا السياق العفو الذي أصدره مبارك عن الكاتب الصحفي إبراهيم عيسى عام 2008. اليوم، غابت مساحة المناورة تلك التي كانت تحافظ على شعرة معاوية بين النظام السياسي والمثقفين.
تضييق الخناق والقمع سيضمنان لأيِّ نظام ديكتاتوري بضع سنوات أخرى في الحكم أو حتى عقود. لكنَّ أثره الحقيقي لن يقتصر على الذين اعتقلوا أو جرى نفيهم أو حتى قتلهم، وعلى أسرهم ومحيطهم.
الأثر الأكبر في الفراغ الذي يخلقه غياب العقل النقدي عن المجتمع، لأنه سيُنتج أجيالًا لا تعرف سوى وجهة النظر الواحدة والتعصب والاستقطاب، أجيالًا مغيبةً لا تقرأ ولا تشتبك مع الأفكار، وبالتالي لن تتمكن من إنتاجها، أجيالًا ممسوخة لا تستطيع بناء الأوطان وإدارتها. وهي نفسها التي ستفتعل الحروب وتشكِّل الميليشيات وتحكم بمنطق العصابات. ولنا في لبنان أسوة، مع جيل اللصوص الذين يحكمونه إرثًا عن آبائهم القتلة.
مفترق الطرق
بناءً على حسابات الذكاء الاصطناعي غير الدقيقة، فإن بلدًا مثل كوريا الشمالية، إذا ما افترضنا الإطاحة بالديكتاتورية هناك غدًا صباحًا، سيحتاج إلى ما يزيد عن عشرين عامًا من العمل المتواصل ليدخل مرحلة التعافي طويل الأمد. وسيحتاج إلى أكثر من ثلاثة أجيال ليبدأ رحلة التعافي المجتمعي ويصبح قادرًا على إنتاج طبقة من المثقفين والمهنيين القادرين على محو آثار عقود من الديكتاتورية.
مصر أرض الأدباء والشعراء والعلماء والفنون، تقف أمام مفترق طرق كلُّ الخيارات فيه صعبة، لكنَّ عملية إنقاذ الأجيال المقبلة وإنقاذ البلاد من التجريف، معركة تستحق خوضها قبل فوات الأوان.
وداعًا دكتور حازم حسني، وكلي رجاء ألا يُحرم كلُّ طالبِ علمٍ من معرفتك وعلومك حتى بعد رحيلك، بل أن يكون غيابك فرصةً للتذكير بالقيم التي حاربت من أجلها، ولأجلها دفعت سنوات عمرك ثمنًا.