
أين تطوير الإعلام من وثائق مؤسسة هيكل؟
تحل اليوم ذكرى ميلاد محمد حسنين هيكل (23 سبتمبر/أيلول 1923 – 17 فبراير/شباط 2016)، الذي سطر لمهنة الصحافة تاريخًا غير مسبوق لم يطله أحد قبله، ووضعها في علوٍّ يكفي إذا أطللت منه أن ترى هول المنحدر الذي وصلنا إليه.
خلال سنواته الأخيرة، وفي حوارات امتدت بيننا، كان يأسى لحال الصحافة وما وصل إليه الإعلام، وظلَّ يردد أن نتائجَ الحلول المطروحة للعلاج سلبيةٌ تزيدُ الأمر تعقيدًا، وأن أحوال شباب المهنة باتت مقلقة لدرجة الخطر، وأن الإنقاذ يبدأ بهم لأنهم المستقبل وطاقة الأمل والتغيير.
كان يدرك أن ترك الأوضاع الاقتصادية وسوء الإدارة بالمؤسسات لمزيد من الانهيار ستكون له عواقبه، خاصة إذا تلاشت هوامش الحرية وضاقت سقوفها، في مهنة لا يمكنها أن تعيش أو تنمو إلا بمزيد من الاتساع.
مؤشرات الخطر على مستقبل المهنة كانت الدافع وراء إنشائه "مؤسسة هيكل للصحافة العربية"، التي بدأت بتدريب الشباب داخل وخارج مصر، إلى أن واجهته عقبات عدة.
وحتى عندما رحل تاركًا في وصيته التصرف في أمر المؤسسة لأسرته من بعده، كانت النتيجة جائزتين سنويًا للأعمال المتميزة لشباب الصحفيين، أضيف إليهما مساهمات في تمويل دورات بمركز التدريب بنقابة الصحفيين. لكن ظل المشروع الطموح والشامل لهذه المؤسسة، التي خصني وقتها بنسخة من وثيقة إنشائها، يراوح مكانه لأسباب تتعلق بالمناخ العام.
ما تركه الأستاذ
ونص الوثيقة كما خطّها بيده "مؤسسة محمد حسنين هيكل للصحافة العربية، مؤسسة أهلية للخدمات العامة، لا تستهدف الربح، منشأة طبقًا لأحكام القانون 84 لسنة 2002، وهدفها السعي مع غيرها من المؤسسات والهيئات والجمعيات المعنية والمشغولة بمستقبل مهنة الصحافة في العالم العربي، بقصد تكثيف جهود الجمعية للتعاون على رقي مهنة الصحافة وتقدمها، اتصالًا بتقاليد سبقت ولحاقًا بآمال تنتظر وسط عالم وزمان اتسعت فيهما آفاق المعرفة ودروس التجربة على نحو لم يسبق له مثيل".
وحدّد فيها مجموعةً من أوجه العمل لتحقيق أهدافه المأمولة من المؤسسة:
- مكتبة عامة تحوي ما تجمع لديه من كتب عن الصحافة والسياسة والحرب والتاريخ والمذكرات والأدب والفن، وغير ذلك من مجالات المعرفة والثقافة.
- مكتبة مفتوحة تحوي الأوراق الصحفية والسياسية لمحمد حسنين هيكل، بما فيها مجموعات كتبه ومقالاته وأحاديثه ومقابلاته، وما تجمع لديه من أوراق يمكن أن تكون لها قيمة بالنسبة للمشتغلين بالصحافة.
- مكتبة سياسية يكون استعمالها وفق تصريح من مجلس أمناء المؤسسة، وتضم ما تحصّل عليه محمد حسنين هيكل من وثائق مصرية وعربية وعالمية، بما يلقي أضواءً أبعدَ على مراحل مهمة من التاريخ السياسي الحديث للشرق الأوسط، بالتركيز على مصر والعالم العربي، ثم متابعة ما يمكن أن يضاف جديدًا إلى وثائق سابقة ولاحقة.
- مكتب مكلّف بخدمة مهنية مستمرة، وبلا مقابل، حتى تتوافر مصادر ومراجع متجددة، مضافة لمن يشاء من المشتغلين بالمهنة، ويكون بين بنود هذه الخدمة توفير متابعة للإعلام الدولي في أخباره وتحليلاته، بحيث يكون في وقته ولحظته تحت تصرف الراغبين في الاطلاع عليه من الصحفيين، خصوصًا شبابهم، كما يدخل فيه المساعدة على توفير إمكانيات الإنترنت، بحيث تدخل بيسر ضمن وسائلهم الأخرى.
- إقامة حلقات مناقشة دورية مكثفة لأهم قضايا المهنة الراهنة والطارئة، رغبة في توسيع دائرة اللقاء على فهم مشترك للمدارس والتيارات المستجدة.
- دعوة صحفيين من العالم الخارجي لما يمكن تسميته ورش عمل مكثفة عن شواغل العمل الصحفي في مختلف مناحي اهتمامه وتطوره، بما يؤدي إلى التواصل المهني بين الصحافة العربية وصحافة العالم.
- إيفاد بعثات تدريبية إلى الخارج لفترات مناسبة في صحف عالمية كبرى، بحيث يستطع الصحفيون الشبان أن يتعرفوا ويستوعبوا مستوى وأساليب وأجواء العمل الصحفي في ظروف مستجدة ومتقدمة.
- إتاحة سجلِ توثيقٍ مهنيٍّ يضم تشريعات حرية النشر ومواثيق الشرف، وما يتصل بها من التزامات المهنة وآدابها وتقاليدها، وذلك إلى جانب أهم الآراء وأحدث الاجتهادات في مجال حرية النشر والتعبير.
- تسهيل حضور عربي مناسب وكفء في اللقاءات والاجتماعات المهنية، التي تقيمها اتحادات الصحف ونقاباتها ونواديها وكليات الصحافة في أماكن متعددة من العالم، بحيث يكون شباب المهنة طرفًا في حوار المهنة عبر الحوار وعبر الثقافات.
- إصدار نشرة دورية بأهم المستجدات في ميادين التكنولوجيا المتصلة بالعمل الصحفي.
- إتاحة إمكانية خلاقة للتفاعل بين مختلف التعبيرات الصحفية من الجريدة إلى المجلة إلى الإذاعة إلى التليفزيون إلى وكالات الأنباء، باعتبار أن الصحافة، وهي الإعلام المكتوب، مهمة موصولة بمهام متعددة يقوم بها الإعلام المنظور والمصور والعابر للحدود.
- تقديم جائزة، أو أكثر، سنويًا للأعمال البارزة في الصحافة العربية.
ويقوم نشاط المؤسسة على وقفية محددة ومتجددة، كافية لتحقيق أهدافها يوفرها هيكل وأسرته دون اعتماد أو مشاركة من أي طرف مصري أو خارجي، ولا يجوز للمؤسسة أن تقبل إسهامًا خارج هذا الإطار في مرحلة التأسيس والإنشاء، وبعد هذه المرحلة فإن المؤسسة لا يجوز لها أن تطلب أي مساهمة من خارجها لأوجه نشاطها، لكن يحق لها بعد التأسيس أن تقبل شاكرة عارفة بالفضل لأصحابه، ما ترى قبوله من مساهمات معلنة.
ويتولى الحفاظ على عمل المؤسسة وأهدافها مجلس للأمناء، يشارك فيه ممثلو الوقفية إلى جانب عدد من الشخصيات المهتمة بالمهنة وبالعمل العام لا يزيد عددهم على سبعة، ويشترط أن يكون بينهم نقيب الصحفيين المصريين، وكذلك أحد الشخصيات العربية المعنية بصحافة العالم العربي، باعتبار تكامل العمل الصحفي على اتساع أوطان المنطقة.
ويختص برسم سياسة المؤسسة ووضع برامجها وإدارة أعمالها مجلس تنفيذي يتكون وتتحدد مهامه وفق لائحة يصدرها مجلس الأمناء.
وتضع المؤسسة كهدف عام لها مستقبل الصحفي العربي من كل وطن من أوطان الأمة، باعتبار أن الصحفي بذاته هو المؤتمن الأصلي على مستقبل المهنة والحفاظ على دوره التنويري ضمن حركة التقدم الشاملة للأمة، والمحافظة على مستوى يساعد على تمكين الصحافة العربية من دور مؤثر في محيطها يتواصل بالزمالة مع قوى التطور الأخيرة في الإعلام الدولي وحركته المتسارعة.
الصحفي ونقابته
نستدعي سيرة الأستاذ هيكل ونتذكره هذه الأيام والمهنة في محنة، وهو الذي لم يساوم يومًا على قناعاته رغم شدة خلاف كثيرين معه. حاور عبد الناصر في مناسبات عديدة حول تطور مهنة الصحافة، والأوضاع التي تثير قلقه وكتب؛ "لم أكن مُصرًّا على استمرار الملكية الفردية للصحف ولكني كنت مشفقًا على المهنة من التأميم، وأن ملكية الأفراد قد تكون أهون شرًا من ملكية الحكومة للصحف، وأن الصحيفة بتأثيرها قد تكون قوة ضاربة ضخمة لكنها في تكوينها الداخلي مخلوق هش وشديد الحساسية، فهي بالدرجة الأولى إحساس بمناخ.. الإحساس بالمناخ يملؤها بالثقة في قدرتها على ممارسة رسالتها أو يملؤها بالوساوس التي تأخذ منها قدرتها على ممارسة دورها".
مع إطلالة ذكرى ميلاد هيكل أشعر أنه ترك فراغًا لم يملؤه أحد
واقترح على جمال عبد الناصر في سنواته الأخيرة فكرة الملكية التعاونية للصحف، على غرار تجربة لوموند، وعندما حانت الفرصة ووضع تصوره في مشروع متكامل، جاء من عطل وعرقل لصالح الإبقاء على "صحافة النظام" لا "صحافة الشعب"!
وعندما اختلف مع السادات عبّر عن ذلك في كتاباته، متمسكًا بحقه في إبداء رأيه لأن قناعته "أن حرية الصحافة في صميمها هي تناول طريقة صنع القرار إلى جانب نتائج القرار"، في حين كان السادات يرى أن "ليس من حق الصحفي مناقشة القرار السياسي؛ لأنها مسؤولية الرئاسة". وعندما أراد أن يختاره لمنصب سياسي حتى يترك رئاسة تحرير الأهرام قال هيكل "إنه يستطيع أن يقرر أنه لم يعد يريد بقائي في الأهرام، لكنني وحدي أقرر ماذا أفعل بعد ذلك".
وظلّت لنقابة الصحفيين مكانة خاصة عند هيكل ارتبطت باحترامه لنفسه ولمهنته ولمنظومة قيم حافظ عليها.
وفي أزمات كثيرة واجهت المهنة أو تعرض لها بعض الصحفيين كان داعمًا لموقف النقابة، ورافضًا التنكيل بالزملاء أو نقل بعضهم إلى وظائف غير صحفية، ورفض تنفيذ قرار السادات بنقل ثمانين صحفيًا إلى هيئة الاستعلامات، ووضع استقالته أمام الرئيس.
وأرسى سابقة مهمة في رؤيته لدور النقابة، فعندما ترك الأهرام بعد قرار السادات تعيين الدكتور عبد القادر حاتم رئيسًا لمجلس إدارتها في 31 يناير/كانون الثاني 1974، دعا صباح اليوم التالي الدكتور حاتم ومجلس إدارة المؤسسة ومجلس التحرير، في حضور ممثل عن مجلس النقابة، وسلمه تقريرًا عن اقتصاديات الأهرام وتوزيعها وأرباحها ثم غادر!
وكان قبوله الجائزة التقديرية التي أسستها النقابة عام 2000 استثناءً لم يتكرر.
ومع ذكرى ميلاده أشعر أنه رحل وترك فراغًا لم يملؤه أحد، وحتى عندما بدأ مؤخرًا الحوار عن تطوير الصحافة والإعلام في محاولة للإنقاذ، تم ذلك -للأسف- باحتضان حكومي وفي غرف مغلقة تجري فيها الفضفضة ومحاولات الاحتواء الرسمي، دون مؤشرات، حتى الآن، على أكثر من ذلك.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.