تصميم: سيف الدين أحمد، المنصة 2025
الصحيفة التي صدرت بلسان حال حزب الوفد الجديد أصبحت في صدارة صفوف المعارضة في أوائل عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك

الوفد.. الحد الأدنى للمهنة!

منشور الاثنين 13 تشرين الأول/أكتوبر 2025

سرحْتُ بخيالي وأنا أطالع صورة الزعيم سعد زغلول التي تتصدر بهو القصر التاريخي الذي يضم مقر حزب الوفد في حي الدقي، بعد أن أصبح قَدْرُ الحزبِ أقلَّ من حجم الصورة التي يُنسب لصاحبها قوله "مافيش فايدة" في سياق مختلف، عُمِّم على أي موقف يبلغ فيه اليأس مداه.

تذكرت وقتها، وعلى وقع معركة صحفيي الوفد خلال الأسبوع الماضي عندما لمحتُ وأنا أتصفحُ برتابةٍ فيسبوك، قبل بضعة أشهر عناوين زاعقة لصفحة أولى تحمل التصميم الأخضر المعروف لجريدة الوفد، تنقل أصداء رفع أسعار الوقود، وأثر ذلك على حياة المصريين. اعتقدت للوهلة الأولى أنها صفحة قديمة تعود لسنوات مضت بحلوها ومرها، تطل علينا أحيانًا وفق اختيارات الموقع الأزرق لتستدعي للذاكرة ما يدق في دواخلنا نواقيس الحنين للماضي من نوستالوجيا الصحافة التي كانت.

لم أعتقد أبدًا -قبل التدقيق في تاريخ النشر ومطالعة تعليقات الاحتفاء- أنها صفحة حديثة، فالصحافة المصرية منذ نحو عقد تقريبًا في "ثلاجة ليس فيها سوى زجاجة مياه"، أي أنها لا تتغذى ولا تقتات، ولا تنمو ولا تتطور، وإنما باقية بالحد الأدنى من مقومات الحياة، قليل من الماء محدود بزجاجة لا أكثر ولا أقل.

الوفد القديم

الصحفي والسياسي الوفدي مصطفى شردي                                                                                               

كان غريبًا أن تصدر الوفد بعنوان لا ينتمي إلى الصحافة السيَّارة هذه الأيام بعيدًا عن المطروق في الألفاظ والمقصود من المعاني. وبدا لي أن الصحيفة التي وُلدت عملاقة ومشتبكة مع الشأن العام سنة 1984 برئاسة تحرير الكاتب الكبير مصطفى شردي عادت إلى عهد ولَّى وزمن راح؛ كان فيه همُّ الأقلام هو التعبير عن الناس العاديين الذين يمشون على أقدامهم في الأسواق تتقاذفهم الأسعار التي تتعالى على دخولهم وتنظر إليهم من الأبراج المعزولة.

الصحيفة التي صدرت بلسان حال حزب الوفد الجديد- الذي ورث حزبًا تاريخيًا قديمًا انتهى وجوده رسميًا بعد ثورة يوليو 1952- أصبحت في صدارة صفوف المعارضة مع بداية العمل فعليًا في الساحة السياسية المصرية في أوائل عهد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك (1981-2011).

وتحت رئاسة مصطفى شردي بين عامي 1984-1989، حفرت الوفد مكانًا مقدَّرًا ومحترمًا في بلاط صاحبة الجلالة، وكانت التحقيقات والانفرادات والمقالات محل نقاش عام صباح كل يوم، في عموم المحروسة.

صنعت الوفد فريقًا من النجوم في مهنة البحث عن المتاعب ظلت تقتات على مواهبهم لسنوات طويلة حتى خبا مصباح المعارضة والصحافة معًا تدريجيًا بعد الموجة الثورية في 2013 بفعل أوضاع متشابكة ومعقدة أزاحت الصحافة، وقبلها السياسة، إلى صفوف التأثير الخلفية بعيدًا عن الأضواء والفعل العام.

مانشيت الاحتراق

الصفحة الرئيسية لجريدة الوفد والمانشيت الرئيسي يحمل نقدًا لاذعًا للسياسات الاقتصادية للحكومة، 12 أبريل 2025

عندما قررت لجنة التسعير التلقائي للمنتجات البترولية في مصر زيادة أسعار البنزين والسولار صباح 11 أبريل/نيسان الماضي، كان طبيعيًا ومعتادًا نشر الخبر الحكومي بدون رد فعل المواطنين أو تعليقاتهم، مع كثير من التبرير، وإبداء الأسباب والحجج التي بُني عليها القرار. وكان هذا هو المعتاد في جميع الصحف والمنصات المصرية، وليس في الوفد وحدها خلال السنوات الأخيرة.

لكن وبطريقة مفاجئة ودون أي مقدمات أو تمهيد، صدرت الوفد صباح اليوم التالي بمانشيت "الوقود يشتعل والمواطن يحترق" وهو عنوان معبر عن معاناة المواطنين التي تصل لحد الاحتراق بفعل زيادة البنزين التي تنعكس على تكاليف نقل كل المنتجات وبالتالي سعرها النهائي.

لم تكتفِ الجريدة بالعنوان الرئيسي إنما انتقدت في تقرير على الصفحة ذاتها بحدةٍ الوزارة المسؤولة عن زيادة الأسعار في عنوان آخر "البترول تكذب وتتجمل وتبرر زيادة الأسعار". هذه الطريقة في كتابة العناوين ومغازلة الجماهير لم تصافح الجريدة مثيلًا لها قبل عقد على الأقل، لدرجة أن الإعلامية قصواء الخلالي وصفتها بأنها "متنفس بين مانشيتات الانبطاح"، بينما اعتبر سليمان جودة رئيس تحرير الوفد الأسبق أن القراء "يتنسمون رائحة صحفية غابت منذ فترة".

قلق وخوف

انشغلت السوشيال ميديا وقتها بالعناوين الموصوفة بالشجاعة أو التعبير عن معاناة الجماهير التي نشرتها الوفد، كما تطرقت لمصير من يقفون وراء العنوان بتعليقات وصلت إلى حد الشفقة والخوف على مصائرهم من تبعات الجرأة أو التهور، وأن تكون النهاية بالإقالة أو تحديد "الإقامة الصحفية" لرئيس التحرير في زاوية أو عمود أو منفيًا وراء مقال في جريدة أخرى.

كان مبعث القلق الحقيقي أن هناك صحفيين يخضعون للمحاكمة والحبس الاحتياطي لكتابتهم عناوين أقل حدة أو لعدم كتابتهم أصلًا، أو لإعادة نشر محتوى اعتبرته السلطات تكديرًا للسلم الاجتماعي أو تهديدًا للأمن القومي. وكان أن توقع البعض إبعادًا أو استدعاءً أمام النيابة العامة لرئيس تحرير الوفد، لكنَّ شيئًا من هذا لم يحدث حتى الآن بعد مرور عدة أشهر، رغم تكرار نشر عناوين عالية الصوت قليلًا لم تكن معتادة كما قلنا خلال العقد الأخير.

وتكشف المتابعة لعناوين الوفد بعد "مانشيت الاحتراق" عن تراجع الاهتمام بالشأن المحلي لصالح الاهتمام بالشأن العربي والدولي والتركيز على المأساة الإنسانية في غزة بعناوين مثيرة تتماهى مع موقف الدولة المصرية مما يجري في القطاع المنكوب.

تساؤلات مشروعة

أثار نشر عناوين الوفد القوية -التي يفترض أنها طبيعية في سياق الصحافة والمهنة- تساؤلات مشروعة ولازمة لفهم الحالة، وهل هي مغامرة محسوبة أم مقامرة متهورة أم هي منعطف، ونقطة تحول مقصودة ومتفق عليها في علاقة الصحافة المصرية بالقراء؟

مبعث التساؤلات أن آلية عمل الصحافة حاليًا لا تدع مجالًا لاستثناء يمر، إذ يتشابه برتابة ذلك المحتوى المنشور في الصحف المصرية، دون فرق بين المملوكة للدولة أو الأحزاب أو رجال الأعمال، ولا مجال للخروج عن النص الذي يفرض صياغات رسمية وتحليقًا متعاليًا ودعائيًا في تغطية أي حدث دون النزول لساحة نقاش حقيقي ومتعمق للمشكلات القائمة.

الصحيفة الحزبية الأكثر عددًا وعتادًا لم تستمر على صحوتها المهنية مع تدني مستوى أجور صحفييها

لو تمثلنا أحوال الصحافة المصرية في ظل تطبيق واتساب، لتوقعنا أن ما نُشر هو تجريب يمكن النكوص عنه في ظل بحث عن حراك وسط أجواء مأزومة، أو هو بوضوح أكبر تنفيس مقصود متفق عليه، تعبيرًا عن توجه جديد لدى ولاة الأمر الصحفي، لا يُعرَف الداعون له تحديدًا، لكنه يبدو اتفاقًا، يشمل بنودًا أخرى، جرى إبرامه استجابة لمتغيرات كثيرة في الداخل وفي الإقليم والعالم تستلزم مواءمة وفتح هامش بسيط بالرضا لا يسمح بارتفاع الأسقف واتساع الهوامش.

هذا هو الاحتمال الأقرب، الذي تؤكده الشواهد والتسريبات في ظل غياب القدرة على الفعل الراديكالي وعدم السماح به في ملف الصحافة وغيره، لأن تفسيرًا ثانيًا سيظل خيالًا بلا دليل وهو أن أحدهم ابتلع دون سابق إنذار حبوب الشجاعة وخرج فارًّا بقلمه من جروب واتساب.

ما يرجح كفة التفسير الأول أنه يراد للصحيفة أن تعوض تراجع دور الحزب، لأن المزاج الرسمي يمكنه تحمل صحيفة توزع عدة آلاف بكلام منضبط متفق عليه عن تحمل حزب يتبعه ملايين الأعضاء بفعل حقيقي في الشارع السياسي لا يمكن ضبطه. 

لكن الصحيفة الحزبية الأكثر عددًا وعتادًا لم تستمر على صحوتها المهنية فقد كشفت لجنتها النقابية عن تدني مستوى أجور الصحفيين فيها بطريقة لا يمكن أن يصدقها من يتابع الشأن الصحفي ويوغل فيه. 

بعد معركة طويلة للصحفيين في جريدة الوفد اليومية انتهى فصل بائس من تاريخ الصحيفة التي تحمل اسم أعرق الأحزاب المصرية وأقدمها، والتي كانت إبان نشأتها درة تاج الصحافة المعارضة في بر مصر المحروسة.

بعد تفاصيل كثيرة، واعتصام صلب لصحفيين وصحفيات نظمته اللجنة النقابية، وافقت قيادة الحزب الذي أصبح يتمسح في العراقة على تطبيق الحد الأدنى للأجور على العاملين في الجريدة، بعد أن كان جلهم يحصل على نصف أو أقل من الحد الأدنى للأجور البالغ سبعة آلاف جنيه مصري (147 دولارًا أمريكيًّا).

بعد شد وجذب وكر وفر وسحب ودفع انتهت حرب الحد الأدنى للأجور في الوفد ليصبح لزامًا أن تبدأ معركة الحد الأدنى للمهنة، وبينما كان قرار رفع الأجور بيد رئيس الحزب الدكتور عبد السند يمامة وأعضاء المكتب التنفيذي فإن معركة الحد الأدنى للمهنة ستحسمها إرادة صانع القرار السياسي، وعزم أهل المهنة، وهي معركة لا يُعرف المدى الذي يمكن أن تصل إليه في ظل أن كثيرًا من المتابعين للشأن الصحفي ولمتطلبات الساحة السياسية يرفعون شعار "مافيش فايدة". 

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.