صفحة خالد البلشي نقيبًا للصحفيين، فيسبوك
نقيب الصحفيين خالد البلشي خلال حملته الانتخابية للفوز بفترة ثانية، 26 أبريل 2025

خالد البلشي عارف.. ونافع أيضًا

منشور الثلاثاء 29 أبريل 2025

حين قابل حسني مبارك في مكتبه نقيب الصحفيين الأسبق الأستاذ جلال عارف، فوجئ أنه أمام رجل مختلف عما كان مستقرًا في ذهنه من صورة مشوهة للرجل، رسمها مقربون من الرئيس الأسبق من بين رؤساء مجالس إدارات وتحرير الصحف القومية؛ كصحفيٍّ جامح ممعن في التمرد عنيد في غير الصالح العام، ولا يمكن الإنصات إليه أو التفاهم معه أو قبوله، بأي حال من الأحوال، نقيبًا للصحفيين.

اتصل مبارك بصفوت الشريف، وقال له: نقيب الصحفيين الجديد على قناة الجزيرة مع حسين عبد الغني، تابع اللقاء، ثم عد إليَّ. عاد الوزير إلى رئيسه فقال له الرئيس: أريد أن أرى جلال عارف.

حين جلس عارف أمام مبارك، وفق ما حكى لي النقيب في حينه، راح الرئيس يحدثه في مودة، وعارف يطلق ابتسامته الطفولية العذبة. وبعد أن وجد نفسه أمام شخص محترم، يفهم الصالح العام، ويتصرف كرجل يفهم مهام الدولة ومؤسساتها، ويمكن التعويل عليه من الذين اختاروه، سأله مبارك: ماذا تريد؟

طلب عارف أن تتدخل الدولة لإنقاذ نقابة الصحفيين، بعد أن سحبت 8 ملايين جنيه على المكشوف (نحو مليون و740 ألف دولار أمريكي) في عهد سلفه إبراهيم نافع، فتحدث مبارك على الفور مع وزير المالية، وطلب منه أن يعطي نقابة الصحفيين 10 ملايين. ثم توجه إلى عارف، وسأله: ماذا تريد لنفسك؟ ابتسم عارف وقال: هذا كان لنفسي، فما للنقابة هو لي، فهذه مسؤوليتي وواجبي، لا سيما الآن. هز مبارك رأسه، وقال: لا أقصد هذا، إنما لك أنت، ألا تريد أن تكون رئيس تحرير؟ ضحك عارف، وقال: لا، لا أريد أبدًا. وحكى مبارك بعدها لوزير مقرب إليه، لا يزال على قيد الحياة، قائلًا: أول مرة أقابل صحفيًا كبيرًا لا يطلب شيئًا لنفسه.

اعتاد مبارك على كثيرين اتخذوا من ثقة الجمعية العمومية في موقع النقيب أو عضوية مجلس النقابة مطيةً لتولي إدارة مؤسسة صحفية ورئاسة تحرير أحد إصداراتها، أو الاحتفاظ بالمنصبين إن كانا في يده، وهي آفة رأيناها كثيرًا في مرحلة ما بعد عارف ونافع.

المعرفة مقابل المنفعة

خالد البلشي بعد الإعلان عن فوزه بمقعد نقيب الصحفيين، 17 مارس 2023

تطل علينا الظاهرة نفسها الآن بصوة أكثر فجاجة، ولها رائحة تزكم الأنوف، من فرط غرقها في وحل سوء الأخلاق ولا أريد أن أقول من كثرة وقوعها في الانحراف عن الصالح العام للصحفيين، الذين عليهم، فردًا فردًا، ألَّا يسمحوا لأنفسهم، وبعد تقدير أحوالهم ومصائرهم ومصالحهم، أن يكونوا مجرد جسر يعبر عليه طامع إلى منصب في مؤسسة صحفية أو هيئة تدير الصحافة والإعلام، ومن يسمح لنفسه أن يكون "قنطرة"، فعليه أن يتحمل وطأة النعال التي ستعبر فوقه في قابل الأيام، ولا يلوم إلا نفسه.

يريد بعض هؤلاء العابرين إلى أطماعهم على أجساد الصحفيين وأرواحهم، وصالح مهنتهم، وأمنهم الشخصي، وقوت أولادهم فيما بعد، أن يطرحوا لنا الأمر على النقيض من حقيقته، وكأننا مجموعة من الغافلين، أو بلا ذاكرة مثل الأسماك.

يصورون لنا الدفاع عن استقلال النقابة وحرية الصحافة على أنه نقيض حصول الصحفيين على منافع، واضعين الحرية مقابل الخدمة، وكأن جلْب الخدمة يجب أن يكون مغموسًا في الذل والمسكنة والنفاق والمسايرة، على حساب صورة الصحافة لدى الناس، ودورها التاريخي في التثقيف والتنوير ومحاربة الفساد وطرح مقترحات تشد عربة الوطن إلى الأمام.

سبق لي أن كتبت قبل انتخابات 2023 مقالًا بعنوان غابت الحرية فجاع الصحفيون برهنتُ فيه على أن احتكار العمل الصحفي والإعلامي، والإصرار على تكميم الأفواه، وإلحاق الأقلام بفضاء الدعاية الفجة، أدى إلى تضاؤل الفرص أمام الصحفيين، فجاعوا، بعد أن ضاعت من أيديهم بدائل كانت مددًا لهم في السابق، للحصول على فرص عمل إضافية، وفرص توهج حقيقية.

واليوم؛ يعود من يتعاملون مع حرية الصحافة باستهانة، رغم أنها روح الصحافة ودمها، لينثروا أمام أعين الصحفيين منافع من مساكن أو أرض، دون تحديدٍ أو تقييدٍ يجعلنا مطمئنين إلى أن هذا أمر مفروغ منه وليس مجرد وعد عابر بلا ضمان، لا سيما أننا أمام سلطة تأخذ ولا تدفع، وكم صادرت من أراضٍ ومساكن تحت باب المنفعة العامة أو أرض الدولة، ولذا أعجب كيف لها أن تعطي هكذا بسهولة؟ وإن أعطت، فكيف نضمن ألَّا تسترد كل شيء فيما بعد، مثلما فعلت وتفعل الآن؟

في العموم، ليس هذا السجال بجديد على نقابة الصحفيين، فطوال الوقت لا تكف أصوات أصحاب هذا الاتجاه عن ترديد مزاعم التناقض الصارخ بين الحرية والخدمة، وبين المعرفة والمنفعة، وتجد مُنصِتين بين من لا يدركون، في الغالب الأعم، أن انسياقهم وراء هذا التصورات، إن أعطاهم النذر القليل الآن، فسيلحق بهم الأذى الكثير مستقبلًا.

المعرفة لا توضع بالضرورة في وجه المنفعة بل إن من يعرف ويستطيع أن يقنع أكثر نفعًا للصحفيين

ذات يوم كتب الأستاذ صلاح عيسى، رحمة الله عليه، مقالًا صار أشبه ببيان تم توزيعه على الجمعية العمومية قبيل انتخابات جرت فيها منافسة حامية بين الأستاذين جلال عارف وإبراهيم نافع، كان عنوانه "جلال عارف لكن إبراهيم نافع"، ويقال إنه اقتبس العنوان من كاريكاتير للفنان محمد حاكم.

وضع مقال عيسى المعرفة مقابل المنفعة، وفاز وقتها نافع بفارق ضئيل قليل رغم إنفاق عشرات الملايين من جيب الأهرام، حتى إنَّ أتباعه حين تكالبوا عليه يهنئونه في قلب مبنى النقابة القديم، زجرهم، وقال في مرارة: هذه نتيجة تستحق المواساة لا التهنئة.

ما زاد من غضب نافع يومها أن عارف حصد ثلاثمائة صوت من الأهرام وحدها، وقت أن كانت صناديق الانتخابات موزعة على المؤسسات وليست بالحروف الأبجدية كحالها اليوم، وكان التشديد على التصويت لمرشحي الأهرام على منصب النقيب أو في المجلس صارمًا ومراقَبًا.

دارت الأيام وثبت أن نظرية حاكم وعيسى فاسدة، فالمعرفة لا توضع بالضرورة في وجه المنفعة، بل إن مَن يعرف ويستطيع أن يقنع، يكون أكثر نفعًا للصحفيين ومصالحهم. فعارف جلب للنقابة من الحكومة الكثير، ليس فقط المال، كما سبقت الإشارة في مستهل هذا المقال، إنما أيضًا حماية الحرية، ما تمت ترجمته في اتصال هاتفي لمبارك بعارف قبيل انطلاق المؤتمر العام الرابع للصحفيين في فبراير/شباط 2004 يخبره فيه بأنه قرَّر إلغاء قانون الحبس في قضايا النشر، ويطلب منه أن يعلن القرار بنفسه على الصحفيين. وحين راحت "الدولة العميقة" تعطل تنفيذ هذا، قاد عارف مظاهرة من النقابة إلى مجلس الشعب، وعقد اجتماعًا برئيسه أحمد فتحي سرور، وخرج منه ببعض المكاسب.

صحفيون بلا ذاكرة

خالد البلشي ومحمود كامل يدعوان محمد شبانة لالتقاط صورة مع واجهة النقابة

اليوم، يتصرف بعض المرشحين وأتباعهم مع الصحفيين وكأنهم لا يتذكرون ما حدث من وقائع وأحداث مرت بها نقابتهم، فيسوقون لنا أشياء لا أصل لها ولا جذور، ولا ورع فيها ولا تقوى، ولا منطق بها ولا برهان عليها.

أشياء عن أن النقيب الحالي الأستاذ خالد البلشي رجل مسيَّس في نقابة تحتاج إلى حياد، رجل مثقف في نقابة تحتاج إلى موظف، رجل مستقل في نقابة بحاجة إلى تابع، رغم أن الرجل، ومع كل هذا الصفات، فاجأ الجميع بأداء تفوق فيه على نفسه، ولم يخذل من عولوا عليه، وجعل فرصة منافسيه صعبة.

رأيناه يُفرِّق بين التسييس باعتباره اهتمامًا بالشأن العام وهي مسألة لا يمكن للصحافة أن تبتعد عنها وإلا فقدت قيمتها ودورها وتحولت إلى نشرات بائسة، والتسييس باعتباره نشاطًا والتزامًا حزبيًا، وهو أمر يبتعد عنه البلشي تمامًا، كما رأيناه، وأدركنا إخلاصه للقاعدة الذهبية التي صكها النقيب الكبير الأستاذ كامل زهيري: علينا أن نخلع رداء الحزبية على باب النقابة.

لقد أثبت البلشي على مدار عامين أنه من صنف النقابيين الذين مثلوا تيار الاستقلال باقتدار، وظهر لنا رجلًا نابهًا حصيفًا قادرًا على التعامل بحكمة وتعقل ورحابة أفق مع مؤسسات الدولة، دون أن يُحوّل هذا إلى منفعة لنفسه إنما هو لصالح من انتخبوه، ودون أن يعطي الدنية وهو يطلب للصحفيين حقوقهم، ويدافع عن حرياتهم، وينتصر لكرامتهم.

 ويعرف شيوخ المهنة أن كثيرًا مما يُرمى في طريق البلشي لإعاقته هي أشياء يتم تدويرها مع كل انتخابات، وتنطلي على البعض، ويرددها آخرون لأنهم مطالبون بهذا، وإن بغير قناعة. لكنها لا يمكن أن تطمس الحقيقة التي صارت جلية عيانًا بيانًا، كشمسٍ في ظهيرة صيف قائظ، وهي أن عامين من أداء البلشي نقيبًا للصحفيين، تجعل كل منصف رأيه من رأسه وقوته من قلمه، يقول "البلشي عارف.. ونافع أيضًا".

البلشي ومعه مجلس غير تابع، لا يتلقى أمرًا إلا من الجمعية العمومية، هو وحده الذي يتصدر لنيّات غير حسنة ظهرت بوادرها، وبانت أماراتها، مع ذلك الاقتراح الغريب عن تعيين أربعة أعضاء في مجلس نقابة الصحفيين المصريين. هذا المقترح ليس إلا محاولة لاختطاف النقابة مع رغبة السلطة في السيطرة التامة على المجتمع المدني، وكل المجال العام، والسلطات والمؤسسات غير التنفيذية، وهو مسلك متوحش، لم تجنِ منه البلاد سوى تدهور الأحوال، وشقاء عيش الناس.

إنه عبث لا يجب أن يمر، وأول التصدي لدعاة هذا المسار سيكون في انتخابات الجمعة المقبل. فيا أيها الصحفيون؛ إن لم تكن لكم اليوم كلمة، فلا تلوموا إلا أنفسكم، وقد تبكون دمًا إن حدث هذا، ووجد كثيرون منكم أنفسهم مشطوبين من النقابة، أو خارج مؤسسات قد تتم تصفيتها، لذرائع أنتم تعرفونها جيدًا.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.