لا يجوز للسلطة أو لأي من مؤسساتها وأجهزتها التدخل بأي شكل من الأشكال في أعمال ونشاطات التنظيمات والكيانات النقابية، ولا يحق لحكومة تحت أي دعوى أن تفرض على العمل النقابي أي نوع من أنواع الوصاية، وإلا فقد التنظيم النقابي أهداف وأسباب وجوده الأساسية.
كفلت المادة 77 من الدستور المصري استقلال النقابات المهنية، وحظرت تدخل الجهات الإدارية في شؤونها أو حلَّ مجالسها إلا بحكم قضائي، فيما شددت مواد دستور منظمة العمل الدولية، التي تعدُّ جزءًا لا يتجزأ من منظومة التشريع المصري، على أنَّ الحرية النقابية لازمة لضمان الاستقرار والسلام الاجتماعي.
أكدت المحكمة الدستورية العليا بدورها في عدد من أحكامها أنَّ الفوز بالمناصب القيادية داخل النقابات مرتبط بالإرادة الحرة لأعضائها، في ترسيخٍ لمبدأ استقلال التنظيمات النقابية بعيدًا عن سيطرة السلطة واعتبار "الحرية هي المدخل للعمل النقابي، والديمقراطية النقابية هي التي تطرح نطاقًا للحماية يكفل للأعضاء مصالحهم الرئيسية، ويبلور إرادتها وينفض عن تجمعاتها عوامل الجمود".
وفيما يخص نقابة الصحفيين، فقد حدد قانونها رقم 76 لسنة 1970، على سبيل الحصر، الأهداف والغايات التي من أجلها تأسست النقابة. وعلى رأسها ضمان حرية الصحفيين في أداء رسالتهم وكفالة حقوقهم والعمل على صون هذه الحقوق في حالات الفصل والمرض والتعطل والعجز، والسعي لإيجاد عمل لأعضاء النقابة المتعطلين، والعمل على الالتزام بتقاليد المهنة وآدابها ومبادئها، وتسوية المنازعات ذات الصلة بالمهنة. وأسند القانون إلى مجلس النقابة المنتخب تحقيق تلك الأهداف.
إذًا، كل نصوص الدساتير والقوانين والمواثيق الدولية كفلت الحرية للتنظيمات النقابية، وحظرت تدخل الحكومات في أي شأن من شؤونها، وأقرت تلك النصوص الديمقراطية كمبدأ وقاعدة لاختيار المسؤولين التنفيذيين عن إدارة شؤون النقابات بما يعبر عن إرادة أعضائها.
كغيرها من أنظمة الحكم المتسلطة، حاولت الحكومات المصرية المتعاقبة السيطرة على نقابة الصحفيين والتدخل في انتخابات مجالسها لفرض الوصاية عليها وتحويلها إلى كيان يدعم سياساتها وتوجهاتها.
في المقابل، وعلى مدار تاريخ النقابة الممتد منذ عام 1941، قاوم الصحفيون تلك المحاولات. نجحوا مرات عديدة وانحازوا إلى إراداتهم الحرة وعرقلوا الهيمنة واختاروا مجالس تعبر عن مصالحهم وانحيازاتهم. وفي مرات أخرى تمكنت السلطة، باستخدام سياسة العصا والجزرة، من فرض مجالس تعبر عنها أكثر مما تعبر عن الجماعة الصحفية. استُخدِمت تلك المجالس في تكبيل النقابة وتدجينها وتعطيلها عن ممارسة واجبها في الدفاع عن استقلال الصحافة وحرية الصحفيين.
ماضٍ نقابي مضيء
من النماذج التاريخية المضيئة التي تتناقلها الأجيال داخل النقابة ما تعرَّض له شيخ الصحفيين والنقيب التاريخي حافظ محمود، الذي كان معروفًا باستقلاله ومواقفه المتحفظة إزاء نظام ثورة يوليو.
فبعد فوزه بموقع نقيب الصحفيين في انتخابات عام 1964، سمح بهامش من الحرية والمعارضة في الصحيفة التي كانت تصدر عن النقابة، رغم الرقابة الشديدة التي كانت تمارسها السلطة آنذاك.
وفي تلك الدورة، أصدر قرارًا بفصل أحمد قاسم جودة وأمينة السعيد من عضوية المجلس بسبب تغيبهما عن حضور الجلسات. ولما اعترضا وضغطت الحكومة لإلغاء القرار، استقال محمود وترشح لمنصب النقيب مجددًا فانتُخب فيما سقط جودة والسعيد، فكانت رسالة لهما وللحكومة بتأييد الجماعة الصحفية لقرار النقيب.
هناك من يصر على طمس أي تاريخ نضالي للكيان النقابي، وإلحاق نقابة الصحفيين بالسلطة
وعندما ضجرت السلطة باستقلالية محمود قررت النزول بثقلها في انتخابات 1966 لدعم مرشحها فتحي غانم. وفي كتابه "أسرار صحفية" يقول حافظ عن تلك الانتخابات "بدأت مراكز القوى معركتها ضدي عندما أشاعوا أنني نجحت في الدورة الماضية بالصدفة والتزوير بعد أن فشلوا في إبعادي وإسقاطي".
ويضيف أن جمال عبد الناصر كان يتابع بنفسه سير العملية الانتخابية "اتصل بي الرئيس من أسوان، ليسألني عن الانتخابات فأخبرته أن التصويت لا يزال مستمرًا، ففوجئت به يقول لي: لا تجعلهم يغلبونك.. فقلت له: ربنا موجود، فقال عبد الناصر: طيب شد حيلك".
وفشلت ضغوط أجهزة الدولة على الصحفيين لإسقاط حافظ الذي فاز بمنصب النقيب مجددًا، فقط لأن الصحفيين رفضوا التفاف السلطة على إرادتهم.
حسم الكاتب الصحفي أحمد بهاء الدين معركة النقيب في الانتخابات التالية. ورغم تأييده لثورة يوليو وتبشيره بأهدافها، فإنه لم يتردد كنقيب للصحفيين من الدخول في مواجهة مع عبد الناصر نفسه.
ففي 28 فبراير/شباط 1968 عقد مجلس النقابة اجتماعًا طارئًا لمناقشة مظاهرات طلاب مصر احتجاجًا على أحكام قادة سلاح الطيران، وحمَّل نظام عبد الناصر بأكمله مسؤولية النكسة. ووفقًا لما نقله الكاتب الصحفي محمد توفيق في كتابه "الملك والكتابة.. قصة الصحافة والسلطة في مصر"؛ اتفق مجلس النقابة على إصدار بيان ورفعه إلى المسؤولين، يساند مظاهرات طلبة الجامعات والعمال باعتبارها "تعبيرًا عن إرادة شعبية عامة"، ويتبنى مطالبها بـ"الإسراع في حساب كل المسؤولين".
انهالت الاتصالات على مكتب النقيب، وأحدها كان من علي صبري قال فيه "بصفتي أمين الاتحاد الاشتراكي أرجو عدم إصدار البيان"، فجاء رد النقيب حاسمًا "الاتحاد الاشتراكي قد يكون مالكًا للمؤسسات الصحفية لكنه لا يملك نقابة الصحفيين".
في صباح اليوم التالي، كانت هناك نسخة من البيان على مكتب عبد الناصر الذي اعتبر أنه تلقى طعنة من النقابة، فاقترح البعض عليه اعتقال بهاء الدين، لكنه رفض وقال "لأ.. ده أحمد بهاء الدين وأنا عارفه مخه كدة".
وبعد نحو عقد من واقعة بهاء الدين، اشتبكت الجماعة الصحفية مع أنور السادات بعد إعلانه عن زيارته لإسرائيل. فردَّ الرئيس على نشاط ما سمَّاه "حزب حديقة الصحفيين" بطرح قانون من شأنه تحويل النقابة إلى نادٍ. خاض مجلس النقابة حينها معركة شرسة دفاعًا عن الكيان النقابي، قادها النقيب كامل زهيري، حتى أُجبر السادات على التراجع.
تجربة السنوات القليلة الماضية أثبتت للصحفيين أن حصار السلطة للصحافة أضرَّ ليس فقط بكرامتهم واستقلالهم بل بلقمة عيشهم
وفي عام 1995 اشتعلت معركة جديدة في مواجهة نظام حسني مبارك، إثر تمرير مجلس الشعب القانون رقم 93 الخاص بتنظيم الصحافة، الذي اشتهر بقانون اغتيال حرية الصحافة.
انعقدت الجمعية العمومية غير العادية للصحفيين فى العاشر من يونيو 1995 وظلت في حالة انعقاد مستمر لمواجهة القانون الذى وضع قيودًا غير مسبوقة على الحريات الصحفية. وشهدت النقابة أكبر حركة احتجاجات على مدى تاريخها، حتى التقى مبارك وفدًا من كبار الصحفيين بقيادة النقيب وقتها إبراهيم نافع وأعضاء المجلس وكل النقباء السابقين، وفي مقدمتهم كامل زهيري وحافظ محمود، وانتهى الأمر بإسقاط القانون.
وفي عام 2006 نجح مجلس النقابة في عقد جمعية عمومية لتنفيذ وعد حسني مبارك بإلغاء الحبس في قضايا النشر. وتقدم المجلس بمشروع لتعديل قانون العقوبات يقضي باستبدال الغرامة بالحبس، إلا أن نواب الحزب الوطني أقحموا على التعديلات مادة تقضي بحبس الصحفيين عند الخوض في الذمة المالية للمسؤولين.
رفضت النقابة التعديل، وانطلقت من مقرها مسيرة قادها النقيب جلال عارف، الذي بعث برسالة إلى مبارك يذكره بوعده بإلغاء الحبس في قضايا النشر ويطالبه بالتدخل، وانتهى الأمر بتراجع الحكومة عن التعديل.
وفي عام 2016، وإثر اقتحام قوات الأمن مقر النقابة للقبض على الزميلين عمرو بدر ومحمود السقا، بدأت حلقة جديدة من حلقات المقاومة، انتفض فيها الصحفيون والتفوا حول مجلس نقابتهم بقيادة النقيب يحيى قلاش، وأعلنوا رفضهم محاولات السلطة تأميم الكيان النقابي. وظلت جيوب المقاومة حاضرة، معلنة رفضها إلحاق الكيان النقابي العريق بباقي المؤسسات التي جرى تأميمها.
معركة الخبز والكرامة
على الرغم من هذا التاريخ الحافل من المقاومة والدفاع عن الصحافة واستقلالها وضمان حقوق وكرامة الصحفيين، فإن هناك من يصر على طمس أي تاريخ نضالي للكيان النقابي. يسعى هؤلاء إلى إلحاق النقابة بالسلطة، لتأتمر بأمرها وتنفذ تعليماتها وتؤمن على قرارتها.
يقدِّم بعض المتنافسين في الانتخابات المرتقبة أنفسهم كمرشحين قادرين على تسهيل الخدمات والحصول على امتيازات لأعضاء الجماعة الصحفية استنادًا إلى قربهم من الحكومة. لا يخجل هؤلاء من التبعية، ويتباهون بدعم النظام لهم.
ما لا يدركه هؤلاء ولا من يحركهم أن الجماعة الصحفية ضجرت من سيطرة السلطة على المؤسسات الصحفية وحصارها للصحفيين ومنعهم من أداء واجبهم، وهو ما أثر على أحوالهم الاقتصادية.
بعد تجربة السنوات القليلة الماضية التي أثبتت للصحفيين أن حصار السلطة للصحافة أضرَّ ليس فقط بكرامتهم واستقلالهم بل بلقمة عيشهم، لا أظن أن أبناء صاحبة الجلالة سيراهنون على من يتفاخر بقربه من النظام. ستراهن الجماعة الصحفية على من ينحاز للمهنة وحريتها واستقلال أبنائها، في مواجهة من ساهم في تدجين المهنة وتكفين النقابة.