
صرخة أمينة شفيق المدوية!
"لا أدري لماذا يذكر الناس كلمة يساري بخوف أو هلع.. أنا يسارية لنخاعي، أحب العدل الاجتماعي والوطنية والاستقلال الوطني، وحركات التحرر الوطني، وأناصر القضية الفلسطينية، والفقراء في كل مكان بالعالم، خاصة في مصر بلدي، ما العيب في ذلك؟
هل هي جريمة؟ أنا يسارية وأحترم كل مَن هو غير يساري إذا كان صادقًا، وأمينًا ووطنيًا. فالقضية ليست في الانتماء السياسي بالمقام الأول، ولكن في حب الوطن والمواطنين. أفتخر بأنني يسارية، وسوف أستمر يسارية، ولا أخاف وأنا أقترب من العام التسعين من عمري.. وهذه رسالتي إلى زملائي في المهنة والنقابة، وفي وسط هذه الخناقة الجارية الآن بعد انتخابات النقابة الأخيرة".
هذه صرخةُ النقابيةِ المخضرمةِ أمينة شفيق المدويةُ، تُطلقها وهي على مشارف التسعين عبر فيسبوك. صرخة إذا لم نتوقف عندها، فهذا يعني عطبًا في التفكير، ويعني أن الخطر لا يزول فقط بزوال المؤثر وهي الانتخابات، بل ببحث أصل الداء.
ظلت أمينة شفيق عقودًا في قلب العمل النقابي ولم يعايرها أحد أنها من قادة حزب التجمع اليساري، مثلما لم يعاير أحد زميلها النقابي جلال عيسى بأنه أمين المهنيين في الحزب الوطني! وطنت أمينة شفيق نفسها على أن يظل الكيان النقابي، الذي وهبَت له أجمل سنوات عمرها، قِبلتها، فلم تكتفِ بالحضور للمشاركة والإدلاء بصوتها رغم ظروفها الصحية، وصعوبة حركتها، بل كانت تتابع معي وقائع المنافسة الانتخابية، وتقول بقلق "أخطر ما يمكن أن يحدث أن ينقلب التنافس إلى انقسام لأننا لا نواجه قضايانا ومشاكلنا إلا بوحدتنا".
مواعظ لا تخلو من طرافة
لم يكتفِ الخطاب النقابي عند أحد المتنافسيْن على موقع النقيب باعتماد هذا المنحى الخطير في خطابه، بل وعظّم شأن المؤسسة على الكيان، وزاد من استهلاك تعبيرات الشلة والتيار واليسار! بل عزفت على وترهِ جوقة من الأوركسترا، بعضهم لبس ثوب الأكاديميين، الذين وظّفوا كل النظريات السياسية لحرمان نقابة الرأي من أصلها وطبيعتها السياسية، وطمس تاريخها الذي تكوَّن عبر نضال طويل بدأ قبل تأسيسها عام 1941 بخمسين عامًا.
للأسف لم يكلف أصحاب هذه المواعظ الأكاديمية عناء ما تتطلبه بديهيات البحث العلمي من معرفة المعلومات والمراجع
تمادى أكاديمي منهم، هو الدكتور صبحي عسيلة في أعمدته المتتالية بالأهرام، بالطعن في أحد المرشحين لموقع النقيب باعتباره يساريًا!، وأنه ربما يصلح زعيمًا سياسيًا ولكن لا يصلح أن يكون نقيبًا، متجاهلًا عامين له على هذا المقعد لم يطبق عليهما مقاييسه العلمية، بل وجزم بأن الحريات لا تتحقق عبر بوابة النقيب السياسي، بل عبر بوابة حزمة الخدمات، التي أصبح لا غنى عنها!
واشتطَّ صاحب هذا التحليل، وعقد مقارنة في المشابهة بين الإخوان واليسار، وبين المرشد هنا، والمرشد هناك، وانتهى إلى الاكتشاف العظيم وهو خطر الاثنين على الجمهورية الجديدة!
أما الأكاديمي الآخر، أحمد ناجي قمحة، فلم يكتفِ بالكتابة في جريدته القومية الكبرى؛ الأهرام، بل استضافته قومية أخرى هي الأخبار، التي فَرَدت له صفحة كاملة، ليلقي علينا منها مواعظ أكاديمية تخاصم الحقائق، لكنها لا تخلو من طرافة.
وظل يختال علينا بعلمه، حتى أخطرنا بشكل دامغ أن النقابة تفرغت للسياسة، ونست مهمتها الأولى والأساسية في خدمة أعضائها، بل وخدمة مجتمعها، بل ولم تلعب أدوارًا مهمةً تحسب لها على أي نحو!
للأسف لم يتكلف أصحاب هذه المواعظ الأكاديمية عناء ما تتطلبه بديهيات البحث العلمي من معرفة المعلومات والمراجع، واختبار الفرضيات، ليعلموا مثلًا أن البرلمان المصري عام 1938 بدأ أول مناقشة لمشروع إنشاء النقابة، الذي أعدّه الدكتور محمود عزمي، ضمن محاولات لم تتوقف على مدى عقود سابقة.
كان اللافت أن أول جدل في مجلس الشيوخ عند مناقشة المشروع هو اعتراض النائب يوسف أحمد الجندي على نص كانت لا تخلو منه قوانين النقابات المهنية في ذلك الوقت، بحظر الاشتغال بالسياسة، وقال "كيف يُحظر على نقابة الصحفيين الاشتغال بالسياسة، لأن تنظيم مهنة الصحافة وتكوين نقابة للصحفيين يستلزم الاشتغال بالسياسة، فإذا سنّت الحكومة قانونًا من شأنه الحد من حرية الصحف ما يستدعي أن تناقشه هيئة النقابة تم منعها بحجة اشتغالها بالأعمال السياسية، مع أن طبيعة تنظيم المهنة تقتضي من النقابة الكلام في السياسة، كما أن العمل على رفع شأن الصحافة وإعلاء كلمتها يستدعي حتمًا تعرض النقابة للشؤون السياسية".
وامتد الجدل، وفي النهاية انتصر منطق وحجة يوسف الجندي.
منذ هذه اللحظة لم تسمح الجمعية العمومية أو مجالس النقابة، التي أبدت رأيها في كثير من أمور السياسة العامة للوطن، بخلط المفاهيم بين ممارسة العمل الحزبي من ناحية، وإبداء الرأي في الشأن العام والحريات العامة، وفي القلب منها حرية التعبير والصحافة، من ناحية أخرى.
لم يخطر على بال يوسف الجندي بعد أن انتصر للحقيقة منذ عقود طويلة، وكنا أول نقابة مهنية لا يحظر قانونها العمل بالسياسة، أنه سيأتي مَن ينتسب لمهنة الرأي ليطرح هذا السؤال الذي حُسمت إجابته قبل 87 عامًا!
كان يكفي حُسن النية النقابي، قبل الإخلاص للبحث الأكاديمي، لمعرفة أن إنشاء النقابة، التي استمرت نحو 50 عامًا قبل عام 1941، كانت معركة سياسية في مضمونها لأن القصر الملكي والمندوب السامي البريطاني كانا يسعيان بطرق عديدة لعرقلة خروجها للنور.
تساؤلات واجبة
وكان لهم أن يتساءلوا عن الإنذار الذي وجهه عضو مجلس النقابة حافظ محمود على مسؤوليته في غيبة النقيب فكري أباظة للسفر، إلى ملكة بريطانيا، لإخلاء قطعة الأرض المخصصة لبناء النقابة في موقعها الحالي، وقد استولت عليها القوات البريطانية لتكون مكانًا لاستشفاء الجنود البريطانيين المصابين، وهو للمفارقة ما استجابت له عبر سفارتها بالقاهرة!
وهل كان النقيب أحمد بهاء الدين، الذي أعلن تضامن مجلس النقابة مع مطالب الطلبة عام 1968، بإعادة محاكمة المسؤولين عن هزيمة 1967، يمارس السياسة؟!
وهل كان النقيب حسين فهمي، الذي كان وراء تأسيس المنظمات النقابية الصحفية العربية والإفريقية والآسيوية لتكون سندًا للموقف المصري في المحافل الدولية، يمارس السياسة؟!
وهل كانت الأزمة مع الرئيس السادات ضد قراره تحويل النقابة إلى نادٍ، ثم رفض ضغوطه على النقيب كامل زهيري لفصل الصحفيين المعارضين، وقرار مجلس النقابة الذي اعتمدته الجمعية العمومية عام 1981، بحظر التطبيع مع الكيان الصهيوني، ممارسة للسياسة؟!
وهل كانت مواجهة الجمعية العمومية، التي استمرت منعقدةً طوال مدى عام كامل، للقانون 93 لسنة 95 بعد أن وقّعه رئيس الجمهورية، ثم استقالة النقيب إبراهيم نافع، ومعه مجلس النقابة للضغط من أجل إسقاط هذا القانون المعيب، ممارسة للسياسة؟!
وهل كان احتجاج النقيب مكرم محمد أحمد على سوء معاملة الدكتور محمد السيد سعيد في السجن بعد إلقاء القبض عليه خلال إضراب عمال الحديد والصلب في أبو زعبل عام 1989، ومهاجمته لوزير الداخلية زكي بدر، ممارسة للسياسة؟!
وهل هجوم النقيب جلال عارف على حبيب العادلي، أو إصداره بيانًا ضد السفير الأمريكي؛ لتدخله في شؤون الصحافة المصرية، أو قيادته لمظاهرة تضم العشرات من الصحفيين من النقابة إلى البرلمان للمطالبة بإسقاط المواد السالبة للحرية في قانون العقوبات، وبلائحة عادلة لأجور الصحفيين ممارسة للسياسة؟!
وهل رفض الجمعية العمومية ومجلس النقابة اقتحام قوة أمنية النقابة لإلقاء القبض على الزميلين عمرو بدر ومحمود السقا عام 2016، ممارسة للسياسة؟!
وهل موقف النقابة من القضية الفلسطينية، ودعمها الموقف الرسمي المصري الرافض لتهجير الفلسطينيين من بلادهم، ممارسة للسياسة؟!
لم يكن الأمر يحتاج هذا العناء لإثبات ما هو معلوم بالضرورة، لكننا نعلم أن هدف هذا الخلط، الذي يمارس على طريقة أكاديميا شو، هو ادعاء غياب دور النقابة في خدمة أعضائها؛ لأنها تفرغت لغير مهمتها الأساسية، وهي نتيجة يُكذبها واقع الحال والحقائق وردّ عليها أعضاء الجمعية العمومية في صناديق التصويت دون لغو أو تزيّد.
يا أستاذة أمينة، صرختك بلغت الأسماع، واخترقت الأفئدة، وكما أقول وأكرر: للنقابة رب يحميها بوعي الجمعية العمومية. وهي فعلت واجبها وردت، وسوف تهدأ خواطر الغاضبين، وتطيب النفوس لزملاء نعتز بهم صوروا لهم أنها الحرب.
أما الزملاء الأكاديميون، الذين يبادرون بتقديم أوراق اعتمادهم ليكونوا كتَّابًا للجمهورية الجديدة، فسوف ينزوون قبل أن يطلوا علينا في مناسبات ومواسم أخرى نسمع منهم المواعظ والسخف الأكاديمي، ثم نضحك ولا نسخر؛ لأن هناك ما هو أهم نستهلك فيه وقتنا.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.