شهدت الأسابيع الأخيرة في مصر حراكًا صحفيًا مع اقتراب المؤتمر السادس للصحافة المصرية، يقوده صحفيو المواقع الإلكترونية، ممن يعملون بشكل حر أو في مؤسسات صحفية مستقلة لا تصدر دوريات ورقية، للسماح لهم بالانضمام إلى نقابة الصحفيين، التي يحول قانون إنشائها ولائحتها الداخلية حتى الآن دون ذلك، في إحدى أغرب حالات تضارب المصالح المقننة، وأقلها عدلًا.
تَمثَّل هذا الحراك في مجموعة من البيانات التي تطالب النقابة بالتحرك لتعديل آليات الالتحاق بها، حيث يقتصر هذا الحق على الصحفيين العاملين بعقود دائمة في مؤسسات صحفية تُصدر دوريات مطبوعة، تقوم هي بترشيحهم.
تَحرم هذه الآلية مئات الصحفيين من الانضمام إلى النقابة، ممن لا يرتبطون بعقود عمل دائمة في المؤسسات التي يعملون بها، أو يتعاونون بشكل حر مع عدة مؤسسات، بالإضافة إلى جميع العاملين في المواقع الإلكترونية التي لا تُصدِر دوريات مطبوعة. وفي الوقت نفسه، فإن هذه الآلية تفتح المجال أمام مُلاك المؤسسات الصحفية ليُلحِقوا بعضوية النقابة موظفين إداريين لا يمارسون أعمالًا تحريريةً.
في هذه البيانات التي خطَّها الزملاء إدراك بأن الجمعية العمومية للنقابة ليس بمقدورها أن تفتح أبوابها أمامهم بقرار منفرد، لأن الأمر يتطلب تعديلًا تشريعيًا على قانون إنشاء النقابة، يفترض أن يُصدره برلمان لم يتساءل ولو مرة واحدة عن أسباب حجب المواقع الصحفية المستقلة، الذي تنكر مؤسسات الدولة الرسمية تورطها فيه. ولكن في تلك البيانات أيضًا تذكير لنقيبنا خالد البلشي بوعود قطعها بالتحرك في هذا الملف.
نعيش في وقتٍ تتآكل فيه الصحافة الورقية بتكاليفها الهائلة وإمكاناتها المحدودة التي تقتصر على النص والصورة، لحساب صحافة عصرية لم تعد جديدة، تُقدم للقارئ بتكلفةٍ أقل خدماتٍ أكثر تطورًا وتنوعًا وجاذبية، عبر وسائط تستوعب مزيدًا من القوالب الصحفية.
ومع ذلك، يحرم قانون النقابة ولائحتها مئات الصحفيين الذين يقدمون للقارئ هذه الخدمات، ليس فقط من التمتع بامتيازات عضويتها وحمايتها، وإن تقلَّصت خلال السنوات الأخيرة، بل أيضًا من أن يصبحوا كتلة معتبرة في جمعيتها العمومية.
ثمة مخاوف معقولة من أن يؤدي تقنين انضمام الصحفيين الإلكترونيين للنقابة إلى حالة فوضوية في ظل وجود مئات يعملون في عشرات المواقع التي تقدم ما يُشبه الصحافة وهي ليست كذلك، مثل تلك التي تعيد تدوير المواد المنشورة مُسبقًا، أو التي تخلط المادة الإعلانية بموضوعاتها.
لكن التحجج بالخوف من انضمام هؤلاء من أجل إغلاق الباب في وجه الجميع يبدو عُذرًا بدائيًا، في ظل قدرة الإنسان الحديث على وضع القواعد المُحكَمة التي تنظم أعمال المؤسسات، وفي ظل قدرة لجنة القيد، التي تتشكل من ثلاثة من أعضاء مجلس النقابة المنتخبين، على تقييم وتقدير جدية كل طلب مقدم إليها، من خلال الحكم المهني على الأرشيف.
وبدلًا من أن يضمن القانون ولائحة النقابة للصحفي حقه الأصيل في التقدم للعضوية، وحق لجنة القيد منفردة في تقييم طلبه مهنيًا والبت فيه، فإنهما يمنحان مُلَّاك المؤسسات الصحفية الورقية حصرًا، وهم في مصر إما مؤسسات ملك الدولة أو رجال أعمال أثرياء، ترشيح المتقدمين لنيل العضوية.
تضارب مصالح بقوة القانون
يُفترض أن تكون نقابة الصحفيين، كأي نقابة أخرى، مؤسسة مستقلة يشكلها العاملون في المهنة. وينظمون وحدهم كيفية عملها، من أجل حماية مصالحهم والعمل على تحسين ظروف عملهم، وتمثيلهم في مواجهة المؤسسات التي يعملون لحسابها لو أخلّت بالتزاماتها تجاههم، وفي مواجهة السلطة عندما تقيد عملهم وتلاحقهم.
يجعل هذا القانون وهذه اللائحة أصحاب العمل حرَّاسًا على أبواب النقابة
ولكن قانون النقابة الذي وقعه جمال عبد الناصر قبل وفاته بأحد عشر يومًا، وكذلك لائحتها الداخلية، يقيدان هذه الحقوق. فالصحفي الذي يسمح له القانون بالانضمام إلى النقابة، هو فقط من "باشر بصفة أساسية ومنتظمة مهنة الصحافة في صحيفة يومية أو دورية تُطبع في مصر، أو وكالة أنباء مصرية أو أجنبية يعمل فيها، وكان يتقاضى عن ذلك أجرًا ثابتًا بشرط ألّا يباشر مهنة أخرى".
أما لتقديم طلب العضوية، فتشترط اللائحة أن يقدم الصحفي ضمن أوراقه الرسمية عقد عمله مع المؤسسة التي يعمل بها، وخطاب ترشيح منها لعضوية النقابة.
يجعل هذا القانون وهذه اللائحة أصحاب العمل حرَّاسًا على أبواب النقابة، يحددون من له أحقية الانضمام إليها، فلا يحق للصحفي الذي يمارس المهنة التوجه إلى نقابته حاملًا أرشيفه، ليقدم طلب انضمام وينال عضوية استوفى شروطها.
توفر عضوية النقابة ميزات خدمية وبدلًا شهريًا يساوي الراتب أحيانًا، وبعض الحماية القانونية. لكن الأهم أنها تجنب صاحبها الارتكاب اليومي لجنحة "انتحال صفة صحفي" التي تُرتّب الحبس بحق مُرتكبها. يمكن تقنيًا وفق قانون النقابة توجيه هذه التهمة إلى كل من يمارس الصحافة من غير أعضائها.
ما تقدمه النقابة لأعضائها من خدمات مهمة هي بالتأكيد ضمن أدوارها التي يتعين عليها القيام بها، لكنها ليست الأدوار الأهم. يتمثل دور النقابة أولًا في منح الصحفيين أكبر مساحة من الحرية في التشريعات التي تخص تنظيم أداء عملهم، وثانيًا في الضغط المستمر على المؤسسات التي تُشغّلهم لمنحهم أفضل ظروف عمل ممكنة من حيث الأجور والإجازات والأمان الوظيفي، وترسيخ هذه الامتيازات في القوانين، ومواجهة أي انتهاكات ترتكبها بحقهم، وهي في السياق المصري انتهاكات مؤسسية ممنهجة.
لذلك، فعندما يجعل القانون من عضوية النقابة جائزة ثمينة للصحفي، ثم يضع مفتاح هذه الجائزة في يد صاحب العمل ليختار هو مَن سيحظى بها مِن العاملين لديه، فإنه يقدم لنا حالة فريدة من تضارب المصالح التي ينبغي على القوانين بدلًا من فرضها بالقوة أن تحظرها وتتصدى لها، وتُجرمها في بعض الأحيان.
تتعارض بالضرورة مصالح النقابة كمؤسسة تمثل الصحفيين وتتفاوض باسمهم، مع مصالح إدارات/أصحاب المؤسسات الصحفية، فكل امتياز وظيفي إضافي يحصل عليه الصحفي في راتبه أو إجازته أو غير ذلك، يأتي خصمًا من ثروة صاحب عمله. لذلك، يضع الوضع الراهن للأسف جميع أصحاب المؤسسات الصحفية المصرية في حالة من حالات تضارب المصالح، وإن لم يرغبوا في ذلك.
خلق خصوم داجنة
تخلق هذه المنظومة القانونية العجيبة للأسف كيانًا نقابيًا داجنًا، وإن توهج في بعض اللحظات التاريخية التي شهدت معارك فاصلة خاضتها النقابة لتحمي نفسها من السحق النهائي.
لكن فيما عدا هذه اللحظات، فشلت نقابة الصحفيين تاريخيًا في استيعاب العاملين في المهنة وحماية استقلالهم، وخلق ظروف عمل لائقة لأغلبهم. والنتيجة؛ أحوال أغلب الصحفيين المعيشية بعد 82 عامًا على تأسيس النقابة لا تزال بالغة الصعوبة، والانتهاكات المؤسسية ضدهم ممنهجة.
أزمة نقابة الصحفيين جذرية وجوهرية، لا تتعلق بمن يشكل مجلس النقابة اليوم، بل بكيفية النظر إلى الصحافة في المجتمع، وحدود علاقتها بالسلطة، وكذلك كيفية تنظيم علاقات العمل. وهذه تغييرات جذرية لا تحدث في يوم وليلة.
ولكن في الوقت نفسه فإن إحكام تيار الاستقلال أغلبيته على مجلس النقابة، في لحظة تاريخية نادرة، يتطلب فتح هذه الجراح التي تقيحت بسبب التغطية عليها لعقود طويلة، والمضي في إجراءات جذرية لحلها. هذه الإجراءات ستضعنا في لحظة حتمية قادمة أمام واحدة من المعارك التي يتذكرها شيوخ مهنتنا اليوم بفخر، لكن هذه المعركة بالذات، قد تفتح الباب أمام أن يسترد الصحفيون نقابتهم جذريًا، وإلى الأبد.