أكثر من عقدين ونصف العقد مرت على إحدى أنبل وأهم معارك الدفاع عن حرية التعبير وحرية الصحافة، الشهيرة بمعركة القانون 93 لسنة 1995، الذي غلظ العقوبات في جرائم النشر وألغى ضمانة عدم حبس الصحفيين احتياطيًا في هذه الجرائم.
كان العاشر من يونيو، الذي اختارته الجمعية العمومية للصحفيين ليكون عيدًا سنويًا لحرية الصحافة و"يوم الصحفي"، هو اليوم الذي دعا فيه مجلس نقابة الصحفيين الجمعية العمومية لاجتماع طارئ، احتجاجًا على صدور هذا القانون، الذي صدر في ليل من مجلس الشعب، وتضمن تعديلات مثلت عدوانًا وقيودًا على حرية الصحافة أطلق عليها "تعديلات حماية الفساد".
من الأهمية، بعد مرور كل هذه الأعوام، أن نتوقف عند هذه الانتفاضة، التي استمرت نحو عام ظلت فيه أعمال هذه الجمعية في حالة انعقاد مستمر، وأن يدرك شباب الصحفيين، الذين لم يشاركوا في هذه المعركة، وهم يمثلون الآن أكثر من نصف الجمعية العمومية؛ ملامح ما جرى ودلالاته، وما معنى "الكيان النقابي"، والأهم، حماية الذاكرة وتواصلها من جيل إلى آخر، باعتبار ذلك من أكثر الأمور أهمية، حتى لا يصيب النسيان ذاكرتنا، فالأمم لا تقضي عليها الأوبئة الفتاكة بل تفقد هويتها بسرقة تاريخها وتموت بمحو ذاكرتها.
في رأيي أن أزمة القانون 93 تكتسب أهميتها، رغم مرور كل هذه السنوات، من أسباب كثيرة.
- أن عنوانها الرئيس كان "حرية الصحافة والدفاع عنها"، باعتبارها حقًا من الحقوق العامة لكل المواطنين. وللمصريين سجل حافل في هذا الصدد، ويكفي أن نشير لمشاركتهم في أول مظاهرة شعبية ضمت أكثر من 30 ألف متظاهر ضد القيود على حرية الصحافة في مارس 1909، بقيادة أحمد حلمي جد صلاح جاهين، وذلك قبل قيام التنظيم النقابي رسميًا بأكثر من ثلاثة عقود، عندما وافق عليه البرلمان، وخرجت النقابة بمرسوم ملكي في 31 مارس/ آذار عام 1941. وكان مهمًا وفارقًا إدراك الجمعية العمومية، بعقلها الجمعي، منذ بداية هذه الأزمة، أنها ليست أمام معركة فئوية بل معركة للدفاع عن الحرية، ما أكسبها تأييد وتعاطف قوىً كثيرةٍ من الأحزاب والرأي العام ومؤسسات محلية ودولية.
ولقد دعا، على سبيل المثال، قادة الأحزاب السياسية في هذا الوقت، إلى عقد مؤتمر حاشد بمقر حزب الوفد حضره الآلاف، اكتظ بهم المقر والشوارع المحيطة به.
كان المناخ العام يشيع بمعرفة الجميع أن الصحافة ليست ملكًا للصحفيين، وأن العدوان عليها مقدمة ومؤشر لما بعده من تضييق، وكان لانحياز شخصيات ذات ثقل ووزن مثل فؤاد سراج الدين وخالد محيي الدين وضياء الدين داود والنائب الشهير بالفلاح الفصيح فكري الجزار، وغيرهم، الكثير من التأثير في مسار الأزمة.
- أن هذه المعركة اتسمت بالنفس الطويل، حيث امتدت على مدى عام فشل خلاله رهان النظام على موتها بالتبريد، وتنوعت فيها الأساليب والوسائل، وتوحدت الجمعية العمومية، وتضافرت، ولم تتضاد خبرات الأجيال المختلفة من كل لون مؤسسي وفكري وعمري، وتعايشت حكمة الكبار مع حماس الشباب وسار الجميع نحو الهدف نفسه.
- أن أداء مجلس النقابة كان استثنائيًا بكل المقاييس، واستطاع أن يأخذ زمام المبادرة في قيادة الأزمة، وجعل دعوته لحضور الجمعية العمومية قوةً مضافة له، لإدراكه المبكر، ومن اللحظة الأولى، أنه لن يستطيع أن يتجاوزها دون ظهير، واستطاع بأداءٍ مؤسسي منظم، يضم كل ألوان الطيف الذي يتشكل منه أعضاء المجلس، ألا يكون في تناقض بين ارتفاع سقف مطالب الجمعية وبين ما يُعرض في كواليس المفاوضات.
تعامل المجلس بصفته مؤسسة لا تتوقف على فرد، فكل يؤدي دوره، وعندما غاب النقيب إبراهيم نافع لسفر مؤقت خارج مصر تقدم الوكيل جلال عيسى ليتحمل المسؤولية بشجاعة، في مواجهة تصميم الرئيس مبارك على تمرير القانون، وتحمل نقل مطلب مجلس النقابة له بعدم التصديق على القانون، ورد مبارك "إحنا ما بنبيعش ترمس يا جلال"!
وعندما تخلف جلال عيسى، لظرف خاص، عن حضور اجتماع المجلس الذي قرر دعوة الجمعية للانعقاد؛ كان الوكيل الثاني محمد عبد القدوس على رأس اجتماع المجلس، الذي اتخذ كل القرارات التي صاغت ملامح المواجهة.
- أن المسافات والمنافسات بين أعضاء الجمعية العمومية ورموزها تلاشت، فحضر المعارض ليشد أزر المفاوض، وظهر نقيب النقباء كامل زهيري ليساند إبراهيم نافع "نقيب الجسور"مع الدولة، وزاد من وعي الجمعية العمومية زيادة سقف المطالب، وظل جلال عارف حارسًا ومعبرًا عن هذا السقف، وصاح صلاح عيسى بشعاره الشهير خلال جلسات الجمعية العمومية "الحابسات الباقيات"، وهو يحذر من بعض المواد الملغومة في عروض الحل.
وأرسل سعيد سنبل رسالة من الخارج، وهو في رحلة علاج، يطالب بإسقاط التعديلات، ولم يتوقف مصطفى أمين في عموده اليومي في جريدة الأخبار عن كشف عوار هذه التعديلات، وسخر من تغليظ عقوبات الحبس والغرامة، وقال "إذا كان البعض يبرر تغليظ الغرامة بسبب عوامل التضخم المالي فهل حدث تضخم في الأعمار حتى نضاعف سنوات الحبس؟!".
- أن تأثير الكاتب الكبير والجورنالجي، كما يحب ويعتز أن يطلق عليه، محمد حسنين هيكل، كان حاضرًا. فقبل الجمعية بيومين تذكرت أنه، وهو القيمة الكبيرة في المهنة، لم يُصدِر أي رد فعل، فخاطبته يوم الخميس، وأنا عضو في مجلس النقابة، برسالة عبر الفاكس على مكتبه نصها "جمعيتنا العمومية بعد غد السبت.. ما زلنا ننتظر كلمتك". فتواصل معي يوم الجمعة، وطلب حضوري إلى مكتبه، وقال "هذه كلمتي التي طلبتها، وأنت مؤتمن عليها"، وفعلًا ألقيتها أمام حشد الجمعية العمومية، ودوى تأثيرها خارج القاعة وإلى آفاق بعيدة خارجها، وأطلق في كلمته "إن هذا القانون استفزني كما استفزكم واستفز الرأي العام [...] وأشهد آسفًا أن وقائع إعداد القانون كانت أقرب إلى أجواء ارتكاب جريمة منها إلى أجواء تشريع عقاب، وأنه يعكس أزمة سلطة شاخت في مواقعها". ووصلت الطلقة إلى جسد السلطة فرجَّته، وكان هذا بعدًا جديدًا في إدارة الأزمة.
- بعدها فقط تأكد للدولة أن هناك أزمة لا بد أن تتعامل معها، وظهر الدكتور أسامة الباز في الكواليس وأجرى اتصالات مع قامات صحفية ونقابية، وبعد أن كان مبارك يعاند ويؤكد أن القانون صدر لينفذ، نشط ماراثون الاتصالات واللقاءات، وقالوا لا تجعلوا الرئيس طرفًا في الأزمة بل اجعلوه حكمًا وطرفًا في الحل، والتقى مجلس النقابة جميع المسؤولين من رئيس حكومة ووزراء ورئيسي مجلسي الشعب والشورى كما التقى رئيس الجمهورية مرتين، الأولى في بدايةً الأزمة والثانية قبيل نهايتها عندما تقدم أعضاء مجلس النقابة باستقالة جماعية ثم انضم إليهم النقيب أمام الجمعية العمومية احتجاجًا على التفاف الدولة على تقديم حلول حقيقية أو مقبولة، فجاء هذا اللقاء الذي أعطيت فيه إشارة الحل.
أستطيع أن أؤكد أن إدارة الدولة للأزمة أكدت أن السلطة التي وصفها هيكل في العاشر من يونيو 1995 أنها "شاخت على مقاعدها" لم تسقط إلا بعد 25 يناير 2011. أي أكثر من 15 عامًا أخرى قضتها سلطة "منتهية الصلاحية" بسبب كيفية إدارة نظام مبارك ومستشاريه التي أزعم (من خلال هذه التجربة التي عايشت كل تفاصيلها) أنه كان لها دور كبير بوعيها لطبيعة التضاريس السياسية، ودور وتأثير القوى الاجتماعية ومؤسسات المجتمع المدني، والأهم إدراكها وفهمها لحدود القوة وقدرة السلطة.
هذه المعركة سجلت نموذجًا مهمًا في كيفية إدارة المشاكل الساخنة، وكان الحوار هو المدخل الحقيقي للحل ونزع فتيل هذه الأزمة، كل الأطراف قامت بأدوارها والنقابة في ظل حضور جمعيتها العمومية أدت واجبها الذي تقوم من أجله النقابات، فحافظت على توازن المصالح وأصبحت قوة تفاوض حقيقية اعتُبرت مرجعًا لمعركة خرج منها الجميع بمكاسب، حتى من تصور وقتها أنه قد تنازل أو حتى خسر.