كالعادة، صُنفت مصر ضمن الدول الأكثر انتهاكًا لحرية الصحافة في العالم، في التقرير السنوي الذي تعده منظمة مراسلون بلا حدود، لتحتل المركز 166 من إجمالي 180 دولة شملهم التقرير الذي صدر في 3 مايو/أيار الجاري.
ورغم تقدم مصر مركزين عن العام الماضي، إذ كان ترتيبها في التصنيف السابق رقم 168، فإنها تظل من أكثر دول العالم حصارًا للصحافة وسجنًا للصحفيين، "لا تزال مصر تُعد من أكبر السجون في العالم بالنسبة للصحفيين، حيث أضحت البلاد بعيدة كل البعد عن آمال الحرية التي حملتها ثورة 2011".
وأرجع التقرير مركز مصر المتأخر على مؤشر حرية الصحافة إلى جملة من العوامل أبرزها غياب التعددية وانعدام التنوع في المحتوى الذي تقدمه وسائل الإعلام "التعددية شبه منعدمة، حيث تمتلك الدولة الصحف الوطنية الأكثر شعبية في البلاد، وباقي وسائل الإعلام المستقلة تئن تحت وطأة الرقابة من جهة والملاحقات القضائية من جهة أخرى".
تقرير المنظمة السنوي الذي مرت عليه وسائل الإعلام المصرية مرور الكرام، ذهب إلى أن جميع منصات الإعلام المصري تقريبًا تعمل وفقًا للأوامر و"تخضع للسيطرة المباشرة". أما المنصات التي ترفض الخضوع لسياسة الرقابة فيجرى حجبها وحظرها.
واتهم التقرير السلطات المصرية بملاحقة الصحفيين بتهم من عينة "الانتماء إلى منظمة إرهابية" و"نشر أخبار كاذبة"، ولفت النظر إلى أن القانون رقم 180 الذي صدر عام 2018 لتنظيم الصحافة والإعلام وتسهيل عمل الصحفيين تحول إلى أداة لمعاقبتهم ورواد السوشيال ميديا الذين تحظى صفحاتهم بأكثر من 5000 متابع، ليضاف إلى ترسانة أخرى من التشريعات التي تقيد حرية الصحافة وتكبل الصحفيين.
التقرير سلط الضوء على جانب آخر من الأزمة التي تمر بها وسائل الإعلام المصرية، ألا وهي الأوضاع الاقتصادية التي تمر بها البلاد والتي تؤثر بشكل "جزئي" على أحوال الصحف والصحفيين، لافتًا إلى أن عمليات "تأميم منصات الإعلام" التي مارستها السلطة خلال السنوات الماضية، أثرت بشكل سلبي على إتاحة فرص العمل للصحفيين.
التقرير في النهاية أكد أن السلطة المصرية لم تفِ بوعودها المتكررة بإجراء إصلاحات تسمح بهامش حرية يتيح للصحفيين أداء عملهم ويسمح بنشر آراء وأفكار مختلفة.
العوامل التي ذكرها معدُّو التقرير، وضعت مصر في الترتيب 166 على مستوى العالم ما يعني أنها تراجعت 7 مراكز عن عام 2016، الذي يمثل محطة مفصلية في تاريخ الصحافة المصرية، مع اقتحام الأمن لنقابة الصحفيين وبداية التعامل الخشن مع المؤسسات الصحفية بوضع معظمها تحت الرقابة والسيطرة المباشرة للسلطة، ومَن رفض الوصاية تم حجبه، وهو ما أهَّل مصر للانتقال من فئة الدول التي تعاني فيها الصحافة من "أوضاع صعبة" إلى فئة الدول التي تواجه فيها الصحافة أوضاعًا "خطيرة جدًا" على مؤشر حرية الصحافة.
قبل نحو عامين، تعهدت السلطة بتحسين أحوال الصحافة وتوسيع هامش الحرية بما يسمح بالتنوع والتعدد في الرؤى والآراء، وألزمت الحكومة نفسها من خلال "الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان" التي أُطلقت في سبتمبر/أيلول 2021 بـ"تعزيز مناخ حرية الرأي والتعبير ومراجعة القوانين القائمة لضمان كفالة ممارسة الصحفيين لواجبهم، وإصدار قانون لتنظيم حق الحصول على المعلومات".
الحكومات المستبدة تتعامل مع المواطن الذي يعرف ويعي باعتباره مصدر خطر وإزعاج، لذا فعليها تجهيله وتغييبه
ومع مرور ما يقرب من عامين على إطلاق تلك الاستراتيجية، لم تختلف أحوال الصحافة كثيرًا، فالممارسات والتشريعات لم تتغير والضغوط والقيود كما هي، وهو ما أثر على إنتاج المنصات للمحتوى الصحفي الذي صار شبه متطابق.. فلا خبرًا جديدًا ولا رأيًا مختلفًا ولا طرحًا مغايرًا للتصور الذي تضعه السلطة.
الصحافة الحرة لا تهيئ فقط لوضع قواعد دولة ديمقراطية مدنية تتيح التعددية والمشاركة والمنافسة الانتخابية الحرة وتداول السلطة، بل تُعدُّ أداة أساسية لمكافحة الفساد بكل صوره. فهناك علاقة عكسية بين حرية الصحافة والمجتمع المدني وانتشار الفساد؛ كلما تراجع هامش الحرية تزايدت معدلات الفساد، والعكس صحيح.
المعادلة السابقة من المعايير الأساسية التي تقيس بها منظمة الشفافية الدولية مدى انتشار الفساد في أي دولة، فلا يمكن تحقيق استقرار سياسي أو نمو اقتصادي أو تقدم في أي مجال، دون صحافة حرة تتدفق فيها المعلومات والبيانات والأخبار والآراء والأفكار إلى الجمهور بلا وصاية أو رقابة مسبقة.
في التقرير السنوي الأخير لمنظمة الشفافية العالمية حول مؤشر "مدركات الفساد" الصادر في 31 يناير/كانون الثاني الماضي، حلت مصر في المرتبة 130 عالميًا مسجلة 30 درجة، ما يعني أنها تراجعت 3 درجات و13 مركزًا عن التقرير الذي صدر العام قبل الماضي، إذ وضعها التصنيف الصادر في يناير 2021 في الترتيب رقم 117 عالميًا، فيما احتلت في تصنيف 2019 الترتيب 106، وهو مؤشر على أن الفساد ينتشر في بلادنا بشكل مطرد، ودليل على أن كل الأحاديث عن الجهود المبذولة لمكافحة الفساد ليست أكثر من تصريحات للاستهلاك المحلي وتضليل الرأي العام.
ويصنف مؤشر مكافحة الفساد 180 دولة وإقليمًا من خلال المستويات المتصورة لفساد القطاع العام على مقياس من صفر (فاسد للغاية) إلى 100 (نظيف للغاية).
تقارير منظمة الشفافية العالمية تربط عادة بين "ارتفاع معدلات الفساد" و"الانتهاكات التي تمارسها الحكومات ضد حرية التعبير والصحافة"، بما في ذلك اعتقال الصحفيين الذين ينتقدون السلطة العامة ويحققون في قضايا الفساد، أو يسلطون الضوء على نقص الشفافية الحكومية، وهذا يفسر لماذا تأتي مصر عادة في ترتيب متأخر في التصنيف الذي تعده المنظمة سواء على مستوى العالم أو على مستوى الشرق الأوسط.
قبل أيام، انطلقت جلسات الحوار الوطني. نقابة الصحفيين باعتبارها ممثلًا للجماعة الصحفية بادرت بإرسال عدد من المقترحات التي لو تبنتاها السلطة وحولتها إلى واقع ملموس لانصلحت بشكل كبير أحوال الصحافة في مصر، ما سينعكس بالتبعية على أحوال البلاد التي تلاحقها الأزمات من كل جهة.
المقترحات التي أرسلتها النقابة إلى مجلس أمناء الحوار الوطني، شملت "تعديل التشريعات المنظِّمة للصحافة والإعلام بما يرسخ استقلال المؤسسات الصحفية، ويسهّل أداء الصحفيين واجبهم المهني، ورفع القيود التي فرضتها بعض مواد القوانين المعمول بها على حرية الرأي والتعبير، وضرورة إصدار قانون لحرية تداول المعلومات، وتنقيح القوانين السارية من العقوبات السالبة للحرية في قضايا النشر والعلانية، ورفع الحجب عن المواقع التي حُجبت في السنوات الماضية".
لو تحولت تلك المقترحات أو حتى نصفها إلى واقع ملموس لتغيرت بيئة العمل الصحفي وتمكن الصحفيون من أداء واجبهم في إخبار الناس ورفع وعيهم ومكافحة الفساد.
الصحافة الحرة مؤشر حقيقي على وجود سلطة رشيدة ليس لديها ما تخفيه على المواطنين، أما الصحافة المُحاصرة المُقيدة فهي دليل دامغ على أن السلطة تعمل على تغييب المواطن وإخراجه خارج معادلة الحكم، فالحكومات المستبدة تتعامل مع المواطن الذي يعرف ويعي باعتباره مصدر خطر وإزعاج، لذا فعليها تجهيله وتغييبه بحجب كل ما يسمح له بمعرفة حقوقه وواجباته وكل ما يدور في كواليس مؤسسات الدولة حتى يظل مشوشًا لا يحسن الاختيار أو التعرف على البدائل المتاحة، ويقبل دائمًا بما هو قائم باعتباره أفضل من المجهول.