لم يكن مشروع رأس الحكمة هو الوحيد الذي أحاطته السلطة في مصر بسياج محكم، ووضعت على مدخله لافتة "ممنوع الاقتراب أو التصوير"، حتى لا يتمكن أحد من الوصول إليه، إذ سبقته معظم المشروعات التي أُعلن عنها في السنوات الأخيرة، ولم يُسمح للصحافة بأن تقوم بدورها الأساسي في تغطية وبحث ومتابعة تفاصيلها وتقييم مردودها سلبًا أو إيجابًا.
قبل نحو أسبوعين، أوقفت أجهزة الأمن الزميلة رنا ممدوح الصحفية في "مدى مصر"، وهي في طريقها إلى منطقة رأس الحكمة بالساحل الشمالي، لعمل تحقيق صحفي عن هذا المشروع الذي حظي بزخم كبير دون أن يقف الرأي العام على تفاصيله الدقيقة، واحتُجزت بدعوى أنها لم تحصل على تصريح للقيام بعملها الصحفي في تلك المنطقة، وعندما أُحيلت للنيابة وُجِّهت لها تهمة "تحريض أهالي المنطقة على الإرهاب"، وفي النهاية أُخلي سبيلها بكفالة مالية.
إلقاء القبض على الزميلة وإحالتها إلى النيابة العامة، حملا في طياتهما رسالة مشددة بأنَّ تلك المنطقة "محظورة لا يجوز الاقتراب منها" إلا ضمن الوفود الصحفية التي تُشكَّل بمعرفة "أحدهم" لمرافقة المسؤولين في زيارات مُعدَّة سلفًا، وللقاء شخصيات بعينها يُسمح لها بالحديث، ومعروف مسبقًا ماذا ستقول.
باختصار، فإنَّ التغطية الصحفية لهذا المشروع، كما غيره من مشروعات سابقة، يجب أن تكون "مُهندسَة" ومخطَّطًا لها كما جرت العادة على "هندسة" الكثير من الأحداث والاستحقاقات خلال العقد الماضي.
الأصل في الدول التي تحترم حق مواطنيها في المعرفة، ألا تُفرض أي قيود على الصحافة لتتمكن من القيام بدورها في التقصي والبحث ووضع الحقائق والمعلومات التي غابت عن بيانات الجهات الرسمية أمام المواطنين.
هذه المعلومات والحقائق والآراء المختلفة التي تتيحها الصحافة هي التي تُشكِّل للمواطن وعيه، بما يُمكِّنه من تكوين وجهة نظر واتخاذ القرار الأنسب، أي أنَّ الصحافة هي السبيل الرئيسي في أن يصبح المواطن جزءًا من معادلة الحكم.
في بلادنا، هناك من يصر دائمًا على تجهيل هذا المواطن وإخراجه من المعادلة، باعتباره غير مؤهل للاختيار أو المشاركة في اتخاذ القرارات، وعليه تُوضع القيود على الصحافة وتُحاصر بممارسات ونصوص تشريعية تحدُّ من حركة الصحفيين الراغبين في كشف الحقائق وعرضها أمام الناس.
خلال السنوات الأخيرة، تزايدت هذه القيود حتى حوَّلت وسائل الإعلام بمختلف تنويعاتها، إلا ما ندر، إلى "منصات رسمية" تنشر ما يَصدُر عن مؤسسات السلطة من بيانات وتصريحات، فصارت نسخًا مختلفة في الشكل متفقة في المضمون.
الأخطر في الأمر أنَّ تلك القيود التي كانت تتم خارج سياق القانون، جرى تقنينها بنصوص تشريعية، وضعت الصحف والصحفيين الذين اختاروا العمل لصالح الجمهور في دائرة الملاحقة القانونية.
تغييب الحقائق لم يُصِب الرأي العام وحده بالعمى فصانع القرار بدوره لم يعُد يسمع سوى صدى صوته
فإذا كنت صحفيًا، وقررت أن تمارس مهمتك الحقيقية في تغطية حدثٍ ما أو تقصي وتتبع قضية ما، أو الوصول إلى تفاصيل أحد المشروعات التي يجري الترويج لها، فعليك أولًا الحصول على تصريح من الجهات المختصة وإلا ستجد نفسك قيد الحجز والملاحقة والمساءلة أمام النيابة العامة، وفق ما قضت به المادة 12 من القانون 180 لسنة 2018 الخاص بتنظيم الصحافة والإعلام، التي نصت على أن "للصحفي أو الإعلامي في سبيل تأدية عمله الحق في حضور المؤتمرات والجلسات والاجتماعات العامة، وإجراء اللقاءات مع المواطنين، والتصوير في الأماكن العامة غير المحظور تصويرها، وذلك بعد الحصول على التصاريح اللازمة في الأحوال التي تتطلب ذلك".
نظريًا، منحت تلك المادة للصحفي أو الإعلامي الحق في حضور الفعاليات وإجراء اللقاءات وتصوير الأحداث، لكنها رهنت كل ذلك بالحصول على "التصاريح اللازمة"، ما يعني أن مهمة الصحفي في "مراقبة مؤسسات الحكم لصالح المحكومين" التي هي المهمة الأسمى للصحافة، صارت مرهونة بموافقة مؤسسات الحكم.
بعبارة أخرى، بات على الصحفي التوجه إلى الهيئة أو الجهة التي من المفترض أن يكشف للرأي العام كواليس ما يدور بداخلها، أو يفضح أيَّ قصور أو مخالفة أو تناقض بين قراراتها، ليطلب منها إذنًا أو تصريحًا، وينتظر أن تمنحه ذلك التصريح وتسهيل مهام عمله!
بعد فترة ليست قصيرةً من بداية عهد الحصار المقنن للصحافة، استسلمت معظم المؤسسات وأغلبية الصحفيين لتلك الحالة، وقبلوا بالبقاء داخل السور المفروض عليهم، والتزم الجميع بالسقف المحدد، حتى صارت الرقابة الذاتية التي يمارسها الصحفيون على أنفسهم أخطر مما هو مفروض من قوانين وممارسات قيدت حق الناس في المعرفة.
تحول مسؤولو التحرير في غرف الأخبار إلى ما يعرف بـ"حماة البوابة/gatekeeper"، يمنعون تدفُّق الأخبار والمعلومات والآراء إلى الجمهور، بدعوى حماية الدولة تارة، وحماية مؤسساتهم من الحجب والإغلاق تارة أخرى، وحماية زملائهم الصحفيين من شطحاتهم التي قد تضعهم أمام جهات التحقيق تارة ثالثة.
لم يعد همُّ أبناء هذه المهنة الاجتهادَ للوصول إلى انفراد أو سبق أو تفاصيل مثيرة لعرضها على المتلقي، بل كيفية تفادي المشاكل التي قد تنشأ من نشر ما لا ترضى عنه الجهات التي تُسيِّر أمور الدولة.
في أحيان قليلة، تجازف بعض المنصات الصحفية، وتحاول القيام بمهمتها الأساسية في إتاحة المعرفة للجمهور، لكنها لا تسلم من الحجب أو الملاحقة القانونية، لأنها تبث بدون ترخيص، أو لأنَّ صحفييها لم يحصلوا على "تصريح" القيام بعملهم، لذا غابت الحقائق عن كثير من القضايا والمشروعات، بدءًا من مشروعات الاستزراع السمكي مرورًا بمشروع المليون ونصف المليون فدان والإنتاج الحيواني، انتهاءً بـ"رأس الحكمة".
تغييب الحقائق لم يُصِب الرأي العام بالعمى ولم يُخرِج المواطن من معادلة الحكم فحسب، بل غيَّب أيضًا صانع القرار الذي لم يعُد يسمع سوى صدى صوته، فأصبح منفصلًا عن الواقع وتخيل أنَّ هذا البلد، الذي كان خرابة، وفي رواية أخرى أي حاجة، لن يصلح لحكمه سواه، ولن يرفع شأنه سوى قراراته التاريخية وإنجازاته غير المسبوقة.