
حرية الصحافة.. معركة المصير المؤجلة
في ربيع عام 1985، وبينما كان مجلس الشعب يناقش مقترحات تشريعية تتضمن مواد تضع رقاب الصحفيين تحت سيف الحبس في قضايا النشر والعلانية، بدعوى مخالفتهم "قيم المجتمع"، بعث نقيب الصحفيين الأسبق الأستاذ كامل زهيري رسالة إلى رئيس المجلس الدكتور رفعت المحجوب يحذره فيها من تمرير قوانين جديدة تضاف إلى ترسانة التشريعات التي تنتقص من حرية الصحافة.
في الرسالة التي تسلمها المحجوب ونُشرت في جريدة الأحرار حينها قال زهيري "الصحافة حرة بالضرورة، وبدون الحرية تصبح الصحف قصاصات من الورق منقوشة بحبر أخرس، وهي لذلك في رأي المشرعين حرية خطرة، ومن هنا كان تزاحم القوانين عليها، وقد يختلف مشرّع عن آخر، ومن هنا كان الدفاع عن حرية الصحافة والصحفيين دفاعًا شرعيًا، وليس هذا من مسؤولية الصحفيين فقط بل هو مسؤولية الرأى العام".
زهيري الذي خاض في نهاية السبعينيات معركةً مع الرئيس الراحل أنور السادات عندما شرع الأخير في تحويل نقابة الصحفيين إلى نادٍ إثر رفض جمعيتها العمومية زيارته للقدس ومناهضتهم مع باقي النقابات المهنية للتطبيع، شرح في رسالته كيف تخالف تلك التعديلات التشريعية روح الدستور.
"أعلن صراحة رأيي في طريقة إعداد قانون الصحافة الجديد.. إننى أعترض من ناحية الشكل والمضمون.. ولن أناقش المواد مادة مادة، فلا النصوص تكفي، ولا الخطب ولا الأوصاف ولا الألقاب المخلوعة.. إنما العبرة كما يدرك كل دارس لقوانين الصحافة أن تتسق النصوص مع روح الدستور حتى لا تزهق روح الدستور بحبال مفتولة من الكلمات".
وأضاف زهيري الذي أُطلق عليه لاحقًا نقيب النقباء "الحرية ليست امتيازًا ولا حصانة الصحفيين، بل هي دفاع عن حق المواطن في أن يحصل على صحيفة على قدر كاف من الرأي والخبر.. وهو ما نسميه حق المواطن في الإعلام".
وتابع "لأن الحرية ليست مطلقة بل توازن بين حرية التعبير وحقوق الآخرين فهناك قانون العقوبات، الذي يعاقب الصحفيين في بابه السابع على جرائم السب والقذف، وفي المادة 80 يعاقب كل من يحاول إذاعة أخبار أو بيانات كاذبة، والغريب أنه ابتدعت الابتكارات الجديدة في محاسبة الصحفيين إلى جانب هذه الترسانة من القوانين النقابية الصحفية طريقة ثالثة هي عقاب الصحفيين بالتدابير عن طريق محكمة القيم وقانون العيب.. وهذا ما أعترض عليه يا رئيس المجلس".
واختتم زهيري رسالته بالقول "وبدلًا من أن تُراجع جميع القوانين الموروثة للعقوبات منذ الاحتلال 1882 وكل التجديدات التي استحدثت ليلغى أو يخفف، إذا به يضيف إلى ما كان، وبدلًا من تأكيد حرية الصحافة واستقلالها يبتدع قوانين جديدة لتكبيلها".
معظم المرشحين على موقع النقيب أو مقاعد العضوية رفعوا لواء حرية الصحافة
مرَّ على تلك الواقعة نحو 40 عامًا، ورغم نضال الصحفيين ومن خلفهم المؤمنين بحرية الصحافة وحق المواطن في المعرفة، فإننا لا نزال نقف عند النقطة ذاتها، فلا الصحافة نالت حريتها، ولا المواطن حصل على حقه في منصات صحفية تتيح له الخبر دون رقابة ولا التحليل دون وصاية، ولا رفع سيف الحبس عن رقاب الصحفيين في قضايا النشر والعلانية.
خلال معركة انتخابات نقابة الصحفيين التي حطت أوزارها قبل أيام، ورغم اختلاف البرامج الانتخابية بين ما هو خدمي وما هو مهني، فإن معظم المرشحين على موقع النقيب أو مقاعد العضوية رفعوا لواء حرية الصحافة، سواء كان من يؤمنون بها ويعتقدون أنها ضمانة أساسية لبناء دولة مستقرة متقدمة، أو هؤلاء الذين لم يُضبطوا يومًا في صفوف المدافعين عنها، بل إن بعضهم شارك مع سبق الإصرار والترصد في شرعنة حصارها، لكنها ميكافيلية الانتخابات التي زينت لهم رفع قميص عثمان ووضع حرية الصحافة على أسنة الرماح.
برزت قضية قوانين تنظيم الصحافة في عام 2018، من خلال قانون تنظيم الصحافة والإعلام والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 180 لسنة 2018، وقانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018، اللذين شرعنا الحجب والمنع ووقف الطبع ومنع الصحفيين من ممارسة حقهم في أداء عملهم بالشارع إلا بعد الحصول على تصريح مسبق، كقضية جوهرية في تلك المعركة الانتخابية، وتوالت الوعود بالعمل على تعديلها من كل الأطراف المشاركة في السباق الانتخابي.
تضمنت مخرجات المؤتمر العام السادس للصحفيين الذي عُقد نهاية 2024، 3 مشروعات قوانين لن يتغير المناخ الذي يسمح بصناعة صحافة حرة إلا بإقرارها، الأول مشروع قانون حرية تداول المعلومات، والثاني مشروع قانون يمنع الحبس في قضايا النشر، والقانونان كان من المفترض أن يصدرا قبل 10 سنوات إنفاذًا لنصوص دستور 2014، خاصة المادة رقم 68 التي اعتبرت أن إتاحة المعلومات والبيانات والوثائق حق يجب على الدولة أن تكفله لمواطنيها، إضافة إلى المادتين 67 و71 اللتين حظرتا الحبس في قضايا النشر والعلانية.
أما المشروع الثالث، فهو تعديل مواد القانون 180 لعام 2018 الخاص بتنظيم الصحافة والإعلام، الذي شرعن كما أسلفنا القيود المفروضة على الصحف، واشترط حصول الصحفيين على تصريح من الجهات المختصة قبل قيامهم بدورهم في التغطية الصحفية أو التصوير في الشارع، وهو ما جعل من كارنيه نقابة الصحفيين مجرد تصريح مرور لدخول مقر النقابة بشارع عبد الخالق ثروت.
مشروعات القوانين الثلاث أُرسلت قبل أشهر إلى كل الأطراف المعنية بالفعل، ويبقى على النقيب خالد البلشي ومجلسه المنتخب ومن خلفهم باقي المرشحين وأعضاء الجمعية العمومية التفاوض والضغط حتى ترى تلك القوانين النور.
يوشك دور الانعقاد الأخير لمجلس النواب على الانتهاء، وقد يصعب مناقشة وإصدار التشريعات المشار إليها، لكن ما لا يدرك كله لا يترك كله، فعلينا أن ندعو البرلمان لأن يجري تعديلًا على المادة 12 من القانون 180 لتنظيم الصحافة والإعلام، التي تنص على أن "للصحفي أو الإعلامي في سبيل تأدية عمله الحق في حضور المؤتمرات والجلسات والاجتماعات العامة، وإجراء اللقاءات مع المواطنين والتصوير في الأماكن غير المحظور تصويرها، وذلك كله بعد الحصول على التصاريح اللازمة في الأحوال التي تتطلب ذلك".
التعديل المطلوب يقتصر هنا على حذف الجملة الأخيرة من المادة، التي أفقدت النص مضمونه، ورهنت وجود الصحفي وسط الناس في الشارع، الذي هو مجال عمله الحيوي، على تصريح يصدر عادة من جهة أمنية، وللأسف يعاقب من لا يحصل على هذا التصريح حتى لو كان حائزًا على كارنية نقابة الصحفيين الذي كان حتى وقت قريب تصريحًا مفتوحًا.
ومع انعقاد مجلس النواب الجديد بعد شهور ستكون الجماعة الصحفية أمام تحدٍ ومشوار طويل لإصدار وتعديل باقي القوانين، حتى يتم تهيئة البيئة التشريعية بما يسمح لقيام الصحفيين بواجبهم دون قيود أو ملاحقة.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.