وسط الجدل الدائر حول مشروع قانون الإجراءات الجنائية، أستحضر بعضًا من فيض مناقشاتٍ كانت تدور بيني وبين النقيب كامل زهيري، الذي أعتز بأنني أطلقت عليه لقب "نقيب النقباء" في إحدى جلسات الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين، عندما كانت في حالة انعقاد لسنةٍ كاملة أثناء معركة القانون 93 لسنة 1995، وكان هو أحد فرسانها.
تطرقت هذه النقاشات كثيرًا للقانون 76 لسنة 70 الخاص بإنشاء نقابة الصحفيين، وشرح فلسفته والضمانات التي جاء بها القانون الذي أُنجز في عهد نقابته، وهو الذي كان يتمتع بثقافة قانونية رفيعة ومارس مهنة المحاماة بعد تخرجه في حقوق القاهرة.
كان الدكتور لبيب شقير، وهو النابغة القانوني، رئيسًا لمجلس الأمة عندما تقدم النقيب بمشروع القانون في توقيت رآه مناسبًا. فالدكتور شقير دفعته وصديقه المقرب، والدولة بعد نكسة يونيو حاولت أن تهدئ الأوضاع وتعمل على تماسك الجبهة الداخلية، ومنها استرضاء بعض النقابات المهنية.
ورغم ذلك، كما كان يذكر النقيب، واجه المشروع هجومًا من بعض النواب الذين اعترضوا على بعض مواده، ومنها تلك التي تضع المؤهل العالي من شروط العضوية. ولكن كانت الاعتراضات الأهم تلك المتعلقة بالضمانات التي شملها هذا القانون مثل عدم جواز الحجز على النقابة وفروعها، وعدم جواز القبض على عضو نقابة الصحفيين أو حبسه احتياطيًا في قضايا النشر، وعدم جواز التحقيق مع عضو النقابة فيما يتصل بعمله الصحفي إلا بمعرفة أحد أعضاء النيابة العامة.
وكذلك إلزام النيابة العامة بإخطار مجلس النقابة بأي شكوى ضد أي صحفي تتصل بعمله قبل الشروع في التحقيق معه بوقت مناسب، وللنقيب أن يحضر التحقيق بنفسه أو من ينيبه عنه، وكذلك عدم جواز تفتيش مقار النقابة إلا بمعرفة أحد أعضاء النيابة العامة وبحضور النقيب. وحق حصول النقابة على صور الأحكام الصادرة في حق الصحفي والتحقيقات التي تجرى معه بغير رسوم وغيرها من الضمانات الأخرى التي تخص المهنة والكيان النقابي وحقوق الصحفيين.
كان زهيري يعتز بالفلسفة القانونية التي حكمت صياغة مواد القانون، ففي إجراءات التأديب على سبيل المثال أحيطت مواد هذا الباب بضمانات كبيرة، رغم أنها تتعلق بالصحفي الذي يخالف الواجبات المنصوص عليها في قانون النقابة أو اللائحة الداخلية أو لائحة آداب المهنة، أو يخرج عن مقتضى الواجب في مزاولة المهنة أو يظهر بمظهر من شأنه الإضرار بكرامتها أو يأتي بما يتنافى مع قواعد آداب المهنة.
من هذه الضمانات أن تبدأ الإجراءات أولًا بلجنة للتحقيق كان يرى دورها يماثل النيابة العامة، فإذا تحققت وتأكدت من وجود مخالفة أحيل الأمر إلى لجنة التأديب الابتدائية التي تماثل المحكمة، فإذا صدر قرارها بمعاقبة الصحفي، بإمكانه التظلم أمام لجنة التأديب الاستئنافية.
وعندما كنت أقول له، وأنا حديث العهد بعضوية مجلس النقابة، إن إجراءات التأديب طبقًا لهذا القانون أحيانًا لا تسعف مجلس نقابة كي يكون حاسمًا، وجزء من هذا الحسم هو السرعة في اتخاذ القرار، وأن كثيرًا من الحالات الفجة كانت تُغل فيها يد المجلس عن اتخاذ أي موقف رادع سريع أمام بعض الحالات التي تتسم بالفجاجة.
ضربت في ذلك النقاش مثلًا بما نشره أحد رؤساء التحرير من صور جنسية ادَّعى أنها لراهب مشلوح، ما أثار الرأي العام والكنيسة، فكان رده أن "ضمانات العدالة هي جزء من تحقيقها والسلطة عندنا باطشة بطبيعتها، ونحن لا يجب أن نأخذ أحدًا بالغضب أو الانفعال، وإذا أفلت مدان أفضل من ظلم بريء، والعدالة تسبق العدل لأنها تستهدف الإنصاف وليس مجرد تطبيق القانون المجرد".
كان كامل زهيري حارسًا للضمانات التي جاءت في هذا القانون وكان محذرًا من التلاعب بها وعندما جرت محاولة لتغيير القانون عام 1993 بعيدًا عن الجمعية العمومية، وجاء المشروع كارثيًا وانتفضت ضده الجمعية العمومية، كان كامل زهيري أول من سبقنا إلى النقابة؛ معارضًا للمشروع ووصفه بالمشروع اللقيط "ما هذا الذي جئنا فوجدناه ملقىً على باب النقابة لقيطًا بلا أب أو أم"، وكان تصدره للمشهد كفيلًا بسحب المشروع وتنصل الجميع من علاقتهم به.
رأى كامل زهيري الاندفاع في تغيير القانون خطرًا إذا لم يكن المناخ صحيًا ويوجد ترزية قوانين وعقوبيون يتربصون بك، خاصة أن حجة المواد التي تقادمت مردود عليها بأنها أصبحت منسوخةً وميتةً، وهي بالطبع ليست المستهدفة من دعاوى تغيير القانون بل هي الحجة المُقنَّعة!
كان، وهو المحب للحرية، يرى فرقًا كبيرًا في الفكر القانوني بين الحقوقيين والعقوبيين، وفي هذا الصنف الثاني وضع ترزية القوانين الذين غالبًا ما اعتقدوا أن تقديم الحقوق والضمانات عند صياغة التشريعات لا يحقق مبتغى السلطة، مدركًا أنها تسعى لإخراج قانون يعمل في خدمتها ويحقق مزيدًا من سيطرتها. وكان يردد على مسامعنا ساخرًا من ترزية السلطة تعبير "من حفر قانونًا لأخيه وقع فيه".
وكان الدكتور رياض شمس هو النموذج للفكر القانوني الحقوقي الذي كان يتوقف عنده كامل زهيري، ويردد على مسامعنا كثيرًا أهمية مؤلفه الرائد عن حرية الصحافة الذي نشره عام 1935 كفكر مؤسس لحرية التعبير وأول من دفع بانعدام مبررات الحبس الاحتياطي في قضايا النشر، لأن الوقائع معلنة ومنشورة ولا مجال للمتهم أن يغيَّر معالمها، كما لا يُخشى من هرب الصحفي أو الناشر، لأن مكانه معلوم، ويؤكد أن الحبس الاحتياطي في قضايا النشر هدفه الحقيقي ترويع صاحب الرأي.
ظل كامل زهيري يقاوم أفكار العقوبيين حتى نجح في وضع ضمانة عدم الحبس الاحتياطي في قضايا النشر في قانون النقابة، وعندما جاء القانون 93 لسنة 1995 الذي أطلقنا عليه "قانون حماية الفساد"، ونال من ضمانة عدم الحبس الاحتياطي في قضايا النشر، انتفض كامل زهيري وكأنه يحمي وليده، وظل حتى نهاية الأزمة يقدم مرافعاته خلال اجتماعات الجمعية العمومية أو أمام من يلتقيهم من مسؤولين في مناسبات مختلفة، وفي مقدمتهم رئيس الجمهورية.
وفي ثاني اجتماع لمجلس النقابة برئاسة إبراهيم نافع مع مبارك، بحضور النقباء وأعضاء المجالس السابقة، قاطع مبارك حديث كامل زهيري قبيل انتهاء مرافعته ضد خطورة تعديلات هذا القانون، خاصة عودة الحبس الاحتياطي؛ وقال "خلاص يا كامل أنت حاصرتني!". وشهد هذا الاجتماع الاتفاق على إزالة ألغام هذا القانون والتراجع عنها في انتصار واضح لإرادة الصحفيين وكل القوى التي ناصرتهم.
كان نقيب النقباء مؤمنًا عتيدًا بالحرية ومدافعًا شرسًا عن حرية الصحافة، ويراها حقًا عامًا لكل مواطن في المعرفة والمشاركة والتعبير، وكان يعتبر مثلث نادي القضاة ونقابة الصحفيين ونقابة المحامين ليس مجرد جوار مبنى بل كان يصفه بمثلث الحرية، وكانت تعتبره السلطة في كثير من الأحيان مثلث الرعب، فهو المثلث الذي انتفض معًا في كثير من المواقف الفارقة وبدون تنسيق دفاعًا عن حرية الوطن وحرية المواطن.