عندما نتابع أوضاع الصحافة والإعلام الآن ندرك مدى المشكلة التي نمر بها.. وعندما نرى مؤتمرًا للحوار يدار بخاصية كاتم الصوت، ونشهد بين أوراقه المرتبة للتسويق ملف الصحافة والإعلام خجلًا يتوارى بين جنبات ملفات أخرى؛ ندرك عمق هذه الأزمة والرؤية التي تصيغ المستقبل.
فإذا لم تكن الصحافة ووسائل الإعلام هي الرافعة لهذا الحوار بل في مقدمة أدواته، فمن إذًا؟!
وإذا لم يكن مدخلنا الصحيح لهذا الحوار هو اعترافنا بخطأ حصارنا للإعلام والتضييق على هامش الحرية المحدود للصحافة، الذي ساهم في أزمة انسداد الأفق السياسي، فهل نعول أن تذهب بنا نتائج هذا الحوار إلى حال غير الحال؟!
وإذا لم تدفعنا الدعوة للحوار لمراجعة قناعة ثابتة عند أصحاب القرار: أن أي هامش لحرية الصحافة سيكون أصل البلاء ومدخلًا لكل الشرور وليس سبيلًا للإصلاح والتقدم، فمن يحاور من؟ ولماذا وما هي النتائج التي ننتظرها؟!
نعم، لا يمكن لأحد أن يرفض أي حديث عن الإصلاح؛ إذا كان جادًا وحقيقيًا ونابعًا عن رغبة صادقة.. وفي ملف الإعلام الذي لا يتحقق أي إصلاح من دونه، أمامنا عدة حقائق، أولها اختبار احترام الدستور في المسكوت عنه من مواد الحريات، منها المادة التي لا تجيز الحبس في قضايا النشر، والتي أودعت الحكومة المشروع الذي انتهت إليه لجنة من الإعلاميين والصحفيين والقانونيين، ومن بينهم رئيس البرلمان السابق الدكتور علي عبد العال، في أدراج وزارة العدل "للمراجعة"، منذ ما يزيد على ست سنوات، كذلك المادة المتعلقة بحق الحصول على المعلومات التي تنتظر ترجمتها إلى قانون يكون كفيلًا بتنظيم حق نشر الحقائق والمعلومات بدلًا من استغراقنا في نشر نفي الشائعات يوميًا، فنزيد من انتشارها دون أن ندري.
كما أننا ننتظر إعادة الحياة والروح لمواد في الدستور تتحدث عن هيئتين ومجلس أعلى لتحقيق الاستقلال للصحافة والإعلام، وليسوا تابعين أو متلقين للتعليمات، بعدما تحولت من هيئات أراد الدستور في المادة 72 أن تكون ضامنة لاستقلال وسائل الإعلام "بما يكفل حيادها وتعبيرها عن كل الآراء والاتجاهات السياسية والفكرية والمصالح الاجتماعية، ويضمن المساواة وتكافؤ الفرص في مخاطبة الرأي العام"، إلى أداة في يد السلطة التنفيذية والأجهزة، توجهها كيفما شاءت وتعطيها التعليمات!
أمامنا أيضًا اختبار تغيير أوضاع إصدار الصحف، الذي نص الدستور "أن تصدر بمجرد الإخطار، على النحو الذي ينظمه القانون. وينظم القانون إجراءات إنشاء وتملك محطات البث الإذاعي والمرئي والصحف الإلكترونية"، وبدلًا من أن تنظم القوانين الحقوق التي كفلها الدستور جاءت حيل ترزية كل العصور لمنع الإصدار ووضع العقبات والعراقيل أمام المواقع الإلكترونية التي تم مطاردتها فلم يكن أمامها إلا الاختيار بين أمرين كلاهما مر، الإغلاق أو الحجب!
ومن الحقائق أيضًا: كيف تعاملنا مع هذا "اللهو الخفي" الذي يحكم ويتحكم ويصدر التعليمات ويمارس دور الرقيب، بلا رؤية ومن دون فهم وبلا سند من القانون، ما أفقد الإعلام مصداقيته ودوره وتأثيره، كما فقدت الصحافة قارئها وتوزيعها إلى مستويات غير مسبوقة؟!
أتمنى من كل القابعين داخل غرف "الحوار الوطني"، وبعضهم أصدقاء وزملاء، أن يعلموا أن أواسط عقد حرية التعبير تأتي في مقدمتها حرية الصحافة، وهي إحدى الحريات العامة التي ينتصر لها المجتمع كله
نجاح منظومة الإعلام يتطلب اعتماد مبدأ التنوع الذي جُبِل عليه الناس، ورفض الصوت الواحد، وإطلاق حق المنافسة المهنية والانفتاح على الأفكار والآراء كافة، وأن تكون الصحف ملكًا لقارئها ومعبرة عنه وحاملة لهمومه.
ناهيك عن إجراءات مطلوبة تتعلق بإطلاق سراح كل من تبقى من أصحاب الرأي والتعبير (الصحفيين وغيرهم)، وذلك لتوصيل رسالة مهمة وهي أننا على استعداد لقبول الآراء كافة، طالما تستهدف المصلحة العامة.
الإعلام والصحافة جيش القوى الناعمة، الذي كنا نملكه ونؤثر به في محيطنا، ويقوم في الأساس على تنوع الأسلحة وإعطاء المقاتل المبادرة والثقة والحرية التي يجب ألا تتعارض مع انضباطه فقط بالقانون والقواعد الحاكمة لكل مهنة.
لذلك أتمنى من كل القابعين داخل غرف "الحوار الوطني"، وبعضهم أصدقاء وزملاء، أن يعلموا أن أواسط عقد حرية التعبير تأتي في مقدمتها حرية الصحافة، وهي إحدى الحريات العامة التي ينتصر لها المجتمع كله، التي يجب أن ندافع عنها عندما تتعرض للاعتداء أو العدوان، وهذا هو دور القوى والمؤسسات الحية، وليس الصحفيين وحدهم، وطالما قامت الأحزاب السياسية بإعلان موقفها من خلال البيانات أو عقد المؤتمرات في مقارها، دفاعًا عن حرية الصحافة أو تأييدًا لموقف نقابة الصحفيين، التي كانت، بحكم دورها، أول المتصدين لأي هجمات أو عدوان يحاول أن ينال من هذه الحرية.
ولا يمكن أن يغفل التاريخ أن جزءًا مهمًا من تاريخ نضال الصحفيين، في المطالبة بحقهم في إنشاء كيانهم النقابي الذي استمر لنحو 50 عامًا، قبل انتزاع حقهم في مارس/ آذار 1941؛ كان قضية الدفاع عن حرية الصحافة.
ولا يمكن أن ننسى عشرات الأصوات التي انتصرت وقدمت التضحيات من أجل هذه القضية، ومنهم الدكتور رياض شمس صاحب أول مؤلف قانوني عن حرية الصحافة، الذي صدر عام 1935، وكان أول من لفت النظر في هذا المؤلف إلى عدم جواز الحبس الاحتياطي في قضايا النشر.
ولا يمكن أن يتجاهل أحد دور الدكتور محمود عزمي، أبو الحريات الصحفية، وهو من صاغ أول مشروع قانون لإنشاء نقابة الصحفيين، وكذلك الصحفي أحمد حلمي، جد صلاح جاهين، الذي قاد أول مظاهرة شعبية قوامها 35 ألف مواطن في مارس 1909، انطلقت من ميدان الأوبرا حتى ميدان التحرير؛ احتجاجًا على تعديلات بقانون العقوبات شكلت قيودًا على حرية الصحافة.
التاريخ طويل وحافل بالتضحيات والمواقف والرموز التي دافعت عن حرية الصحافة، وربما يبرز من بعد جيل الرواد والبنائين اسم الكاتب الصحفي والنقابي الراحل صلاح الدين حافظ، صاحب العديد من المؤلفات التي تدافع عن الديمقراطية وحرية الصحافة، منها: أحزان حرية الصحافة، والصحافة وتزييف الوعي، والديموقراطية والثورة مأزق العالم الثالث. وكان آخر كتبه "تحريم السياسة وتجريم الصحافة" الذي انتقد فيه ظاهرة غياب الحريات في مصر.
في هذا الكتاب لا يفصل صلاح حافظ لحظة واحدة في كل أبواب كتابه الأحد عشر، وكأنها وصيته لنا أو صرخته الأخيرة، بين الحرية والإصلاح السياسي والديمقراطية من جهة، والصحافة من جهة أخرى، ويرى أن أي تراجع هنا هو تراجع هناك، بل يصل به إلى أن يحذرنا "وهأنذا أشم رائحة الخيانة، خيانة الديمقراطية، بل ألمسها وأراها رأي العين، تبدو واضحة، وهو أمر مزعج بكل المقاييس، لأننا نريد أن نمضي قدمًا للإمام بدون تراجع".
بل هو يحدد بوضوح، وبشكل مباشر لا لبس فيه، أنه لا حرية حقيقية للصحافة والإعلام، إلا في بيئة ديمقراطية حقيقية، وأن هذه الحرية ليست امتيازًا فئويًا لكنها امتياز عام يتمتع به المجتمع كله، وأن ممارساتها تحتاج إلى ضمانات قانونية وسياسية ومهنية؛ حماية لها من السياسات الباطشة والنزعات الفردية والنظم الديكتاتورية.
ويؤكد أيضًا أنه في ظل الأوضاع غير الديمقراطية المقيدة للحريات، والمشددة للتشريعات، والمغلظة للعقوبات، بهدف كبت الرأي العام ومصادرة حرية الإعلام، يبدو المشهد العربي بالغ السوء، وأنه مطلوب تحرير المواطن والوطن بإطلاق الحريات العامة وصيانة حقوق الإنسان المتكاملة، وفق إرادة سياسية مجتمعية مستقلة بتوجه ديمقراطي سليم.
هذه بعض طلقات صلاح الدين حافظ، الذي مرّت يوم 16 من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري الذكرى الرابعة عشر لرحيله. كان حافظ بالنسبة لجيلي عنوانًا للثقة، ونموذجًا للحالمين بمستقبل أفضل لأوطانهم، وقدوة للساعين لتجسيد الأحلام إلى أفكار، والأفكار إلى كائنات حية، وفي سبيل ذلك أعتبر اشتباكه في العمل العام جزءًا من رسالته ككاتب، وتحمل تبعات ذلك ونتائجه بنفس راضية، لأنه لم يكن من أولئك الذين يطلبون الجاه أو الوجاهة، أو الذين يعتلون الكراسي لتصنعهم أو يتولون المناصب فتدير رؤوسهم حيث السلطة والسلطان.
فهل يمكن بعد كل هذا التاريخ وهذه التضحيات وهذه النماذج الملهمة أن نقبل أن يتحول ملف حرية التعبير وحرية الصحافة والإعلام إلى مجرد سقط متاع في هذه الدائرة المغلقة من هذا الحوار الخجول؟!