
واقعة عماد أديب.. المهنية والضمير وتاريخ الصحافة
جدَّد اللقاء الذي أجراه الإعلامي عماد الدين أديب مع زعيم المعارضة الإسرائيلي يائير لابيد، مطلع الشهر، الحديثَ حول قضية حظر التطبيع مع الكيان الصهيوني.
واقعة كتلك لا يجب إخضاعها للمعايير المهنية فحسب، بل تقاس أولًا بمقياس الضمير الذي كان يكفي لعدم الإقدام على اللقاء أصلًا، فإجراؤه يؤكد أن بيننا من قدّم ولاءه لحسابات غيره، وجوقة التطبيع آن وقتُ أن تعزف.
تاريخٌ من المقاطعة
طوال تاريخ نقابة الصحفيين، لم تحظ قضية بالاهتمام الذي حظي به حظر التطبيع مع الكيان الصهيوني، سواء من مجالس النقابة المتعاقبة، أو من أعضاء الجمعية العمومية.
النقابة التي نشأت في مارس/آذار عام 1941، أي منذ ما يزيد على 84 عامًا، لم تتوقف عن الاشتباك مع هذه القضية منذ 1980 حتى الآن، أي 45 عامًا، ما يزيد على نصف عمر النقابة بست سنوات.
البداية كانت عندما اشتدت المعارضة ضد الرئيس السادات بعد قراره الذهاب إلى إسرائيل وإلقاء خطابه في الكنيست ثم توقيعه اتفاقية كامب ديفيد. فشرعت أقلام الصحفيين المصريين في انتقاد نهج وسياسات السادات.
تحوّلت حديقة النقابة إلى قاعة اجتماعات مفتوحة
شهدت النقابة أنشطة معارضة لتلك السياسة أثارت غضب الرئيس الذي سَخرَ من لقاءات ومناقشات الصحفيين، التي كانت تعُج بها حديقة النقابة في المبنى القديم، ووصفهم بأعضاء "حزب الحديقة". بلغ هذا الغضب ذروته عندما أعلن فجأة قراره بتحويل النقابة إلى مجرد نادٍ، وفي مواجهة هذا القرار قاد كامل زهيري، الذي كان نقيبًا للصحفيين وقتها، حملة معارضة لقرار الرئيس.
وفي مواجهة القرار تدفق الصحفيون دفاعًا عن كيانهم النقابي، وتحولت حديقة النقابة إلى قاعة اجتماعات مفتوحة؛ لتشد أزر مفاوضها ونقيبها الذي استخدم كل الوسائل لدفع السادات للتراجع عن قراره، منها التعبئة وإجراء الاتصالات لإقناع عددٍ من المحيطين بالرئيس، خصوصًا وزير الإعلام منصور حسن، بخطأ القرار.
وظَّف النقيب وقتها كل ثقافته القانونية وخبرته النقابية لإيضاح استحالة تنفيذ قرار الرئيس، وانضم شيخ الصحفيين حافظ محمود لموقف النقيب وجموع الصحفيين.
النقابة صامدة والرئيس يتراجع
تحت ضغط الرفض الواسع وتصاعد مظاهر احتجاجات الصحفيين، تراجَع السادات عن قراره، لكنه لم يتراجع عن موقفه من النقابة وظل يمارس ضغوطه عليها، بطلب فصل الصحفيين الذين يهاجمون سياساته ويكتبون ضد كامب ديفيد، خصوصًا في الصحف خارج مصر. لكنّ كامل زهيري رفع شعار "العضوية كالجنسية"، بل ذهب مجلس النقابة إلى أبعد من ذلك فقرر "حظر التطبيع النقابي" مع الكيان الصهيوني حتى تحرير جميع الأراضي العربية المحتلة واستعادة حقوق الشعب الفلسطيني.
امتد حظر التطبيع النقابي لحظر "مهني" ثم "شخصي"
وفي مارس عام 1980، صدَّقت الجمعية العمومية للصحفيين على هذا القرار، لتكون أول نقابة مهنية تتخذ هذا الموقف، وتبعتها بعد ذلك بقية النقابات المهنية والعمالية.
المفارقة التي يجب التوقف عندها هي أنه كلما اشتدت الضغوط لتفعيل توجهات التطبيع، وكلما ازدادت الحجج المختلفة تحت دعاوى "المهنية"، أو المشاركة في هجوم "ثقافة السلام"، أو مواكبة المتغيرات السياسية والدولية، أو الدفع بتعارض قرار الحظر مع قوانين وسياسات الدولة، وغيرها من هذه الحجج، ازداد تشدد الجمعية العمومية للصحفيين في صياغة قرار حظر التطبيع.
فبعد أن كان الحظر يخص "التطبيع النقابي"، امتد لحظر "التطبيع المهني"، ثم بعد ذلك "التطبيع الشخصي"، وعندما خالف بعض الصحفيين والكتَّاب هذا القرار وذهبوا إلى إسرائيل، أو التقوا إسرائيليين، كان المبرر للإفلات من الحساب هو أن قرارات الحظر لم ترتب أي عقوبة لمَن يخالفها. فكلفت الجمعية العمومية مجلس النقابة بوضع أسس المحاسبة والتأديب لمن يخالف القرار.
إثر ذلك، أصبح النص في صيغته النهائية "حظر كل أشكال التطبيع المهني والشخصي والنقابي، ومنع إقامة أي علاقات مع المؤسسات الإعلامية، والجهات والأشخاص الإسرائيليين حتى يتم تحرير جميع الأراضي المحتلة، واستعادة الحقوق الفلسطينية المشروعة، وتطلب الجمعية العمومية من أعضائها جميعًا الالتزام الدقيق بقرارات عدم التطبيع، وتكليف المجلس بوضع أسس المحاسبة والتأديب لمن يخالف القرار".
وظلت كل الجمعيات العمومية بما فيها اجتماع الجمعية العمومية الأخير في 2 مايو/آيار الماضي، تؤكد جميع قرارات الجمعيات العمومية السابقة بشأن حظر التطبيع بكل أشكاله، واعتبار الدخول إلى أي منطقة تقع تحت سلطة الاحتلال الصهيوني، أو التنسيق مع سلطات العدو بأي شكل، يندرج تحت الحظر، وإحالة كل مَن ينتهك هذه القرارات للمحاسبة التأديبية.
المهنية الانتقائية
واقعة عماد أديب ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة لإثارة هذه القضية، لكنها الأكثر فجاجة وتبجحًا؛ فهي تأتي وسط حرب إبادة غير مسبوقة، أدت إلى اعتذار بعض أنصار التطبيع مثل الدكتور أسامة الغزالي، الذي لم يتحمل ضميره ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من عدوان على هذا النحو الدموي غير المسبوق.
اللافت أن بعض الذين انتقدوا لقاء أديب بزعيم المعارضة الصهيوني نظروا للموضوع من زاوية ضعف وسوء الأداء المهني، وليس من جانب حظر التطبيع، كأن الذي تجاهل استشهاد زملائه بسبب أداء واجبهم المهني كان عليه فقط إثبات كفاءته المهنية؛ لم تكن المهنية بالتأكيد هدف من انخرطوا في تحالف كوبنهاجن، أو الذين ذهبوا إلى إسرائيل بتكليفات سياسية لجهات مسؤولة وأجهزة.
وكذلك لن يقنعنا أحد بأن اللقاءات التي تُحدد أجندتها أجهزة استخباراتية في مناسبات مختلفة، تقترب بأي درجة من المهنية، ثم لماذا لا تحضرنا هذه "المهنية" وصحافتنا غائبة عن متابعة أحداث دولية، وإقليمية، وعربية كبرى، بل إن كثيرًا من صحفنا أهملت تغطية أحداث مهمة لا تبعد عن العاصمة إلا بضعة كيلومترات، بل وحتى داخلها.
بل إن عماد أديب الذي توجه لإجراء لقاء مع أحد قادة الكيان الصهيوني بعد ترتيبات أُعدت له عبر وسائط معروفة تناسى وتجاهل استهداف 143 مؤسسة إعلامية في غزة، وتعرضها للتدمير، وتناسى دماء 228 صحفيًا وإعلاميًا فلسطينيًا استشهدوا حتى الآن وهم يقفون بصدور عارية يؤدون رسالتهم، ويشاركون بأدائهم المهني معاناة شعبهم ومقاومته الباسلة.
رفض دائم
لم يتوقف أعضاء الجمعية العمومية على مدى أربعة عقود ونصف العقد عن الاشتباك مع التطبيع وإثارته في مناسبات عديدة، بلغ ذلك ذروته في واحدة من أهم المعارك الفكرية والسياسية في تاريخ الصحافة المصرية.
ففي أغسطس/آب 1997، أصدر مجلس نقابة الصحفيين قرارًا بإحالة الزميل المرحوم لطفي الخولي والزميل عبد المنعم سعيد للتحقيق لمخالفتهما قرارات الجمعية العمومية بحظر التطبيع، عقب مشاركتهما في تحالف كوبنهاجن.
وفي 23 من الشهر نفسه، نشر الدكتور محمد السيد سعيد مقالًا في الأهرام بعنوان "نقابة الصحفيين ضمير جماعي أم روح قطيع؟". أثار هذا المقال ردود فعل واسعة، وكان بداية حملة صحفية كبيرة، شاركت فيها كل الأقلام المهمة، والرموز النقابية والصحفية من مختلف الأجيال في كل الصحف والمجلات.
وتحمّس الراحل صلاح الدين حافظ لجمع ما نُشر في هذه الحملة، وصدرت في عدد خاص بمجلة "الدراسات الإعلامية"، وكان يرأس تحريرها، وتصدر عن "المركز العربي الإقليمي للدراسات الإعلامية للسكان والتنمية والبيئة"، تحت عنوان "معركة الصحافة والتطبيع"، ليوثق هذه الحملة التي استمرت عدة شهور؛ لتكون في خدمة الذاكرة النقابية والوطنية؛ ولتؤكد أن الضمير الجمعي للصحفيين ضد التطبيع.
واقعة عماد أديب مقدمة ليعلو بعدها صوت النفير للمسارعة بركوب قطار التطبيع، ويسود منطق تعايشوا مع عدوكم، واستسلموا للقاتل.
إسرائيل التي قتلت أكثر من 60 ألف فلسطيني، وفشلت في تحقيق أهداف حربها المجنونة على غزة، تريد فرض شروطها بسلام التطبيع المجاني، وأن ننصاع لمزاعم نتنياهو بقدرته على تغيير خريطة الشرق الأوسط.
لكن يبقى السؤال الجوهري، ماذا تغيَّر حتى نتغير؟ ومن الذي يستطيع أن يغيِّر عقيدة أجيال جديدة أدركت خلال العامين الماضيين، بعد أن شاهدت المجازر بثًا مباشرًا، وعلى الهواء من خلال الشاشات ووسائل التواصل، وشاركت في حملات مقاطعة، وبغير أن يُلقَّنوا في أي حزب سياسي، أو يُجندهم أحد، أن المستقبل أن يكونوا أو تكون إسرائيل؟
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.