عندما تعلو المطالب بأن تحذو دولٌ عربيةٌ حذو إسبانيا والنرويج وأيرلندا وسلوفينيا في اعترافها بالدولة الفلسطينية، فلا يعني ذلك أنَّ المطالبين بذلك يجهلون أو يُغلفون وجود سفارات دولة فلسطين في الدول العربية، فهذا في حكم "العلم العام" إنما يعني تقديرًا لأهمية الخطوة الأوروبية، وفهمًا لعمقها الذي يجعلها تذهب أبعد مما بلغه العرب في نظرتهم لفلسطين سياسيًا ودبلوماسيًا، وأكثر تأثيرًا.
قابلت باحثين فلسطينيين كثرًا في مؤتمرات وندوات في عواصم عربية عدة في السنوات الماضية، وكانوا جميعًا، بمن فيهم الموالون للسلطة الفلسطينية أو حركة فتح، يعتبرون أنَّ الاعتراف العربي بـ"دولة فلسطين" تحول إلى مسألة شكلية، بعد أن كان خطوة مهمة في وقته، لم يتم البناء عليها، لا سيما مع توالي اتفاقيات التطبيع العربية مع إسرائيل، وعجز العرب عن إيقاف الاستيطان، أو الضغط على إسرائيل لتدخل مفاوضات المرحلة النهائية.
قال لي دبلوماسي بالسفارة الفلسطينية في القاهرة قبل سنوات إن الاعتراف العربي بالدولة الفلسطينية تحول إلى "قلادة زينة" تضعها كل دولة في عنقها لتوهم شعبها بأنها تساند الحق الفلسطيني، فيما اعتبره باحث منتمٍ إلى حماس اعترافًا "يبدو في جوهره خصمًا لتصور فلسطيني آخر يؤمن بالتحرير". أما المنادون بحل الدولة الواحدة الذي تتبناه قوى يسارية ووطنية فلسطينية، فيرونه عقبة مستقبلية على هذا الدرب.
اعتراف يتآكل مع الوقت
صحيحٌ أنَّ الاعتراف العربي بدولة فلسطين تتابع على الفور مع إعلانها عام 1988، لكنَّ السياسات على الأرض، بل والخطابات التي تحملها الوثائق والاتفاقات والبروتوكولات والتصريحات، راحت تفرغه من مضمونه تباعًا، حتى بات مجرد أوراق تحوي عبارات معلقة في الفراغ.
فإعلان الجزائر تحدث عن "دولة فلسطينية" تستند إلى "الحق الطبيعي والتاريخي والقانوني"، تقوم فوق "الأرض الفلسطينية" وتكون "القدس" عاصمتها، أي القدس كلها.
وهنا يقول الإعلان نصًا "استنادًا إلى الحق الطبيعي والتاريخي والقانوني للشعب العربي الفلسطيني في وطنه فلسطين، وتضحيات أجياله المتعاقبة دفاعًا عن حرية وطنهم واستقلاله. وانطلاقًا من قرارات القمم العربية، ومن قوة الشرعية الدولية التي تجسدها قرارات الأمم المتحدة منذ عام 47. وممارسةً من الشعب العربي الفلسطيني لحقه في تقرير المصير والاستقلال السياسي والسيادة فوق أرضه.
فإنَّ المجلس الوطني يعلن، باسم الله وباسم الشعب، وباسم الشعب العربي الفلسطيني، قيام، قيام دولة فلسطين، فوق أرضنا الفلسطينية، وعاصمتها القدس الشريف".
لكن جاء اتفاق غزة-أريحا الذي أُبرم في مايو/أيار 1994، وأُلحق باتفاقية أوسلو، ليقيم فقط حكمًا ذاتيًا فلسطينيًا محدودًا في الضفة الغربية وقطاع غزة خلال خمس سنوات، وبمقتضاه نشأت السلطة الفلسطينية.
طبعًا لم تمتثل إسرائيل لما نصت عليه هذه الاتفاقية بالانسحاب من الضفة والقطاع، وتلكأت في تنفيذ البروتوكلات المتعلقة بالاقتصاد، التي رهنت الاقتصاد الفلسطيني لنظيره الإسرائيلي، كما لم تدخل في مفاوضات المرحلة النهائية حول المياه والقدس والسيادة.
في المقابل نصت أوسلو على اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بدولة إسرائيل على 78% من أرض فلسطين التاريخية، التي وإن نالت تباعًا اعتراف 146 دولة من أصل 193 عضوًا بالأمم المتحدة، فإنَّ الجمعية العامة للمنظمة الدولية لم تقر انضمام فلسطين كدولة عضو حتى الشهر الماضي.
وفق أوسلو، هندسَ العرب اعترافهم، وقوضه بعضهم ليتماشى مع رؤية فصيل من الفلسطينيين، من باب أنَّ منظمة التحرير هي من ذهبت في هذا الطريق، ولا مزايدة عليها، أو أنَّ مصالح بعض الدول العربية مع إسرائيل تقتضي هذا، أو أنَّ أي خروج عن هذا المسار من شأنه إغضاب الولايات المتحدة الأمريكية والغرب، الذي يرعى إسرائيل، ويرتبط بعلاقات متينة مع أغلب الأنظمة العربية.
ملحوظات عن جدية الاعتراف
على هذا الأساس، يمكننا الآن طرح السؤال: هل هناك اختلاف بين اعتراف إسبانيا والنرويج وأيرلندا وسلوفينيا، وما سبقها من اعترافات؟ وهل هي خطوة أكثر تقدمًا مما وقف عنده العرب؟ وهنا أطرح الإجابة في ثماني ملحوظات بشأن الخطوة الدبلوماسية الأوروبية الأخيرة.
- فيما تطلب الدول العربية أن تكون القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطينية، حددت إسبانيا والنرويج وأيرلندا "القدس" عاصمة لفلسطين وإسرائيل معًا. وهي وإن أشركت الدولتين في المدينة المقدسة، فقد أبقت عليها موحدة.
- مع أن الدول الأوروبية الأربع رسمت حدود الدولة الفلسطينية المعترف بها على ما كان قبل احتلال أرض فلسطينية عام 1967، فقد أقرت أيضًا بأنَّ تلك الحدود قد تتغير في أي تسوية نهائية، ورهنت اعترافها بالتغييرات التي توافق عليها جميع الأطراف. ويعني هذا في جانب منه أنَّ حدود الدولة الفلسطينية ليست جامدة، بل قابلة للتوسع إذا أفضت محادثات إلى ذلك، وهذه تحكمها بالطبع قواعد القوة على الأرض في ضوء الحرب الأخيرة. دون أن ننسى أن نائبة رئيس الحكومة الإسبانية تحدثت عن تحرير فلسطين "من البحر إلى النهر".
- تشكل هذه الخطوة مساهمة كبرى في إعادة وضع القضية الفلسطينية، ومعها الدولة الفلسطينية، على الطاولة الدولية، تماشيًا مع النتائج السياسية لطوفان الأقصى، في وقت كانت دول عربية تقبل على تطبيع يصاحبه "تعاون أمني"، سُمِّى بـصفقة القرن، وافقت عليها إسرائيل لأنها تصب في مصلحتها؛ إذ إنها تدعو إلى "حل للقضية الفلسطينية" عبر مفاوضات مباشرة، لا توضع فيه مسألة "الدولة الفلسطينية" هدفًا للتفاوض.
- في الوقت الذي تحدثت فيه أطراف عربية عن "دولة فلسطينية منزوعة السلاح"، لم يصادر اعتراف الدول الأوروبية الأربع على حق الدولة الفلسطينية في التسلح، لا سيما وأنه نص على كونها "دولة مستقلة ذات سيادة"، ما يعني ضمنيًا إقرارًا بحقها في احتكار تشكيل القوات المسلحة.
- جاءت هذه الاعترافات في ظل إدراك الدول الأربع لأهميتها في وقف الحرب، لا سيما أنّ لأسبانيا والنرويج مساهمة قوية في عملية السلام التي انطلقت في تسعينيات القرن الماضي، بمؤتمر مدريد للسلام عام 1991، ثم اتفاقية أوسلو التي وإن وقعت في واشنطن لكنها تمت بوساطة نرويجية. وهذا يعني أن هاتين الدولتين جادتان في إنجاح "مشروع سلام" وساهمتا في إطلاقه. هذا في وقت أصبحت فيه المبادرة العربية للسلام، التي تربط تطبيع الدول العربية مع إسرائيل بإعلان الدولة الفلسطينية ضمن تسوية نهائية، حبرًا على ورق، فيما كانت الدول العربية تهرول للتطبيع مع إسرائيل.
- في ضوء الحرب الجارية، يعدُّ اعتراف الدول الأربع ورقة ضغط قوية على إسرائيل، تتجاوز الضغوط العربية عليها، الأمر الذي يعكسه حجم الغضب الإسرائيلي الذي يقدّر وزن هذه الخطوة جيدًا. فإسرائيل استدعت سفيرها في مدريد، ومنعت القنصلية الإسبانية في القدس من الاستمرار في خدمة الفلسطينيين، بل اعتبرت هذه الخطوة مساسًا بـ"سيادة إسرائيل وأمنها"، وبأنها "مكافأة لحماس".
- في الوقت الذي لم تأتِ فيه القمتان العربيتان اللتان عقدتا في الرياض والمنامة في خضم الحرب على ذكر "الإبادة الجماعية في غزة"، استخدمت وزيرة الدفاع الإسبانية هذا التعبير، وردده وزراء من اليسار الإسباني.
- تحول اعتراف الدول العربية بالدولة الفلسطينية إلى مجرد اعتراف بـ"سلطة فلسطينية" عاجزة حتى عن القيام بمهام "إدارة حكم ذاتي". لم تأخذ الدول العربية في اعتبارها الأطروحات الفلسطينية الأخرى، سواء التي تنادي بتحرير فلسطين كاملة، أو الأصوات التي تريد "حل الدولة الواحدة"، مكتفية بالاعتراف بأنَّ "منظمة التحرير الفلسطينية" هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، لإقرار تفضيلهم التعامل مع سلطة أوسلو، وهي اتفاقية ليست محل إجماع بين الفلسطينيين أنفسهم.
من أجل كل هذا أعاد الكثيرون تذكير الدول العربية باعترافها القديم بالدولة الفلسطينية، لتعيد إليه رونقه وفاعليته، وتردم الهوة بين لحظة إعلانه، حيث أَفرح الفلسطينيين، واللحظة الراهنة التي خاب فيها رجاؤهم من أنظمة الحكم العربية.
إنه الوقت الذي يعود فيه العرب إلى التأكيد على الأرض، بعد أن قال لهم نتنياهو "السلام مقابل السلام".