
في اليوم العالمي لحرية الصحافة.. النقابة تهدي تيار الاستقلال فرصة
قبل الضوء الأول من فجر السبت، الثالث من مايو/أيار، اليوم العالمي لحرية الصحافة، غادرتْ مبنى نقابة الصحفيين آخرُ دفعة من الصحفيات والصحفيين الـ6051، بعدما أدلوا بأصواتهم في الانتخابات، وأهدوا جموع الصحفيين، خصوصًا الذين لم يتمكنوا من الحصول على عضوية النقابة، أملًا يستمر لعامين، باختيارهم مجلسًا منحازًا للحرية في يوم حرية الصحافة.
أمام المبنى الكائن في شارع عبد الخالق ثروت، وسط القاهرة، وداخله عبر طرقاته وساحاته، تكدست أكوامُ ورق ولافتات الدعاية من بقايا اليوم السابق الذي كان التكدس فيه من نصيب الصحفيين أنفسهم، بدءًا بانعقاد الجمعية العمومية بعد اكتمال النصاب في الساعة الثانية ظهرًا، انتهاءً بغلق باب التصويت في الثامنة، وإعلان النتيجة النهائية للنقيب وأعضاء المجلس، بعد انتهاء الفرز فجر السبت.
منح الناخبون تيار الاستقلال فرصةً لاستكمال ما بدأه قبل سنتين؛ جددوا الثقة في خالد البلشي نقيبًا، واختاروا لعضوية المجلس محمد سعد عبد الحفيظ المنحاز للحريات، ومعه أيضًا إيمان عوف اليسارية النسوية. يضم المجلس أيضًا من الأعضاء المستمرين لعامين مقبلين جمال عبد الرحيم وهشام يونس ومحمود كامل ومحمد الجارحي، المحسوبين على تيار الاستقلال، ليصبحوا سبعة معهم النقيب، في مقابل محمد شبانة وحسين الزناتي وأيمن عبد المجيد ومحمد السيد الشاذلي، الذين فازوا أمس، بالإضافة لمحمد يحيى وعبد الرؤوف خليفة.
لماذا البلشي مرة أخرى؟
كانت الساعة تقترب من التاسعة والنصف مساءً عندما صعد البلشي إلى قاعة هيكل في الدور الرابع، حيث تجري عملية الفرز. جلس منتشيًا على كرسي بجوار المنصة استعدادًا لإعلان النتيجة، كانت المؤشرات أراحت قلبه بعد توتر دام لساعات.
غاب بقية المنافسين على مقعد النقيب، أبرزهم عبد المحسن سلامة المحسوب على الدولة، عن إعلان النتيجة، لتكون هذه المرة الثانية تواليًا التي يُكسر فيها التقليد الراسخ بحضور المنافسين لحظة الإعلان، وقبول النتيجة بصدر يبدو رحبًا حتى وإن لم يكن. هل هي مصادفة أن يُكسر التقليد في المرتين المتتاليتين اللتين شهدتا فوز البلشي؟ لا أعتقد.
يتجاوز أعضاء النقابة العشرة آلاف بقليل، شارك منهم حوالي 6 آلاف، وهي نسبة غير مسبوقة، وأيضًا رقم يسهل تمييز نصفه. لذلك ما إن سمع أنصار البلشي حصوله على 3346 صوتًا، حتى امتلأت القاعة بالهتافات والزغاريد. في المقابل؛ خيَّم صمت وذهول على أنصار سلامة.
انتزع البلشي مقعده بنحو 55% من أصوات الناخبين، بفارق 784 صوتًا عن سلامة، بعد معركة تكاد تكون الأطول في تاريخ النقابة، امتدت فيها فترة الدعاية الانتخابية لقرابة الشهرين ونصف الشهر، بشهر إضافي عن متوسط الدورات السابقة، مع تزامن موعدها مع شهر رمضان، ثم تعاقب عيدي الفطر والقيامة بعده.
منحت هذه التأجيلات فرصةً لتوحش الاستقطاب بين حملات المرشحين وأنصارهم، كما أتاحت وقتًا لسلامة ليحشد على الأرض، خصوصًا في المؤسسات القومية وهو المنتمي للأهرام، ويجري جولات ميدانية مكوكية مخاطبًا الناخبين بالكثير من الجَزَر؛ من حزمة اقتصادية كبيرة شملت أراضٍ في غرب المنيا وشققًا، وزيادة "غير مسبوقة" في البدل، بينما يلوح أعضاء حملته بالعصي، مهددين بعدم رضا الدولة عن البلشي وبالتالي عدم زيادة البدل المادي الذي يعتمد عليه أغلبية من الصحفيين كل شهر، في ظل تدني الأجور غالبًا وانعدامها أحيانًا.
وبعدما كانت فرصة البلشي شبه محسومة في بداية الانتخابات، استطاع سلامة في الأسابيع الأخيرة أن يكسب بعض الأصوات ويُشعر حملة البلشي بالتهديد؛ خصوصًا مع دخول المنافسة منطقة داكنة، غير مسبوقة، من التشويه ومحاولات الاغتيال المعنوي وإطلاق الشائعات والمعلومات الكاذبة، خاصة بين أنصار سلامة.
في قاعات مبنى الأهرام العريق، وفي صالة التحرير المركزية، احتشد رؤساء تحرير إصدارات المؤسسة في مؤتمرات عبد المحسن، موجهين رسالة تردد صداها في الغرف المغلقة، وسُمع خارجها، بضرورة عودة مقعد النقيب للأهرام مرة أخرى. حظي سلامة كذلك بدعم رؤساء تحرير الصحف القومية الأخرى، حد أن بعضهم وجَّهوا الصحفيين داخل مؤسساتهم بانتخاب سلامة، وفق مصادر في الأخبار ووكالة أنباء الشرق الأوسط، بالإضافة إلى الأهرام.
لعل تلك التوجيهات المباشرة كانت وراء تشديد اللجنة المشرفة على الانتخابات بمنع تصوير الناخبين لأوراق اقتراعهم، دعمًا لحرية ضمير الناخبين وحماية لهم من استغلال رؤسائهم في العمل.
أما البلشي فركز في حملته على تحسين أوضاع الصحفيين بتحسين الأجور، وأكد على حقهم في زيادة البدل، وشدد على ضرورة تحرير العمل الصحفي من القيود، وصولًا إلى الخدمات التي تقدمها النقابة مثل مشروع العلاج.
انتقصت وعود سلامة من رصيد البلشي، لكن الأخير صمد بمقدار ما أنجزه خلال عامين في النقابة، فضلًا عن مئات الأصوات الرافضة لسلامة من قلب الأهرام نفسها؛ أثناء حديثي مع الناخبين المصطفين في الطوابير الطويلة وساعات الانتظار في التصويت والفرز، تحدث معي بعض الأهراميين الرافضين لسلامة بعد سنوات من العمل معه. الصحف القومية لم تصطف إذًا.
قبل إغلاق التصويت، الذي امتد ساعة إضافية حتى الثامنة مساء، بدأت مؤشرات تراجع سلامة، الذي حصد أصوات من يبحثون عن طوق نجاة في مهنة يعاني أصحابها ماديًا فحلموا بأراضي المنيا والوحدات السكنية، أو انساقوا وراء خطاب غذته الحرب المستعرة التي روّجت لأن اختيار البلشي يعني استحواذ التيار اليساري على النقابة، بل وخطفها.
ليس بطةً عرجاء
أُعلنت نتيجة النقيب واحتفل أنصاره، ثم مرت ساعات طويلة على الصحفيين وهم يترقبون انتهاء الفرز على مقاعد عضوية المجلس عبر شاشات تبث الفرز في عدة أماكن من المبنى، بالإضافة لبث مباشر عبر السوشيال ميديا. حبس أنصار تيار الاستقلال أنفاسهم آملين ألَّا يصبح بطة عرجاء دون غالبية في المجلس، وأمل آخرون من الأعضاء في مجلس أكثر توزانًا.
هتف عبد الحفيظ لحرية الصحافة محمولًا على الأعناق قبل أن يواصل الهتاف مازحًا "نزلوني نزلوني"
بعد ساعات ثقيلة، تصدَّر محمد شبانة وحسين الزناتي أصوات مقاعد فوق السن، ومثلهما أيمن عبد المجيد ومحمد السيد الشاذلي لمقاعد تحت السن. أما المقعد الثالث هنا وهناك، فتأرجح فترة طويلة بين محمد سعد عبد الحفيظ وإيمان عوف مقابل محمد خراجة وحماد الرمحي، على الترتيب.
بعد ساعات من التوتر، حسمت اللجنة 15 المعركة، بفوارق ضئيلة. حافظ محمد سعد عبد الحفيظ على مقعده بفارق 151 صوتًا عن خراجة، وانتزعت إيمان عوف مقعدها بفارق 31 صوتًا عن الرمحي، وأصبحا ضمانة غَلبة تيار الاستقلال في المجلس. ورغم المنافسة القوية، خسر عمرو بدر وفيولا فهمي وأحمد عاطف هذه المرة.
"عملناها.. عملناها" كان هتاف أنصار تيار الاستقلال الذي دوى في النقابة مع تأكيد فوز إيمان، بينما كان سعد يهتف لحرية الصحافة محمولًا على الأعناق، قبل أن يواصل الهتاف مازحًا "نزلوني نزلوني".
العَو حضر
"العَو أهه.. العَو أهه". هكذا هتف أنصار شبانة، بعد حسم فوزه في وقت مبكر من الفرز، وهم يحملونه على الأعناق.
بهذا يعود شبانة إلى مجلس النقابة بعد أن أبعده التصويت العقابي في الانتخابات الماضية ثمنًا لإغلاق مبنى النقابة أمام الأعضاء حين كان السكرتير العام سابقًا، ومسؤولًا عن تجديد واجهة النقابة التي ظلت لسنوات مغطاة بالسقالات والخيش، بمدخل ضيق وباب صغير، فكان الصحفيون يخفضون رؤوسهم لعبور باب نقابتهم، إن أرادوا الدخول.
بعد خسارته الانتخابات السابقة، ظل شبانة رئيسًا لرابطة النقاد الرياضيين خلال السنتين الماضيتين، وعضوًا -بالتعيين- في مجلس الشيوخ، وانضم لحزب حماة الوطن، وحافظ على أدواره المهنية في تقديم البرامج الرياضية، وعُيِّن في منصب مُستحدث لم يتوله أحد قبله؛ هو نائب رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام.
ساهم افتتاح شبانة للنادي النهري قبل الانتخابات، بمشاركة وزير الشباب والرياضة، في إعادة ترميم شعبيته وسط الصحفيين، وخاصة الرياضيين منهم. وبدا مطمئنًا للفوز، فحضر متأخرًا نسبيًا مقارنة بمعظم المرشحين، وتوسط السرادق الذي أقامته النقابة في الشارع محاطًا بأنصاره.
وأثناء مشاركته في اجتماع الجمعية العمومية، حاول تعطيل تمرير الميزانية أثناء التصويت عليها، ووقف أمام المنصة وسط مؤيديه محدقًا في السكرتير العام جمال عبد الرحيم، مترقبًا بدء التصويت على الميزانية. وبمجرد بدء التصويت على الميزانية أشار شبانة لمجموعات ملتفة حوله لرفضها، لكن الجمعية العمومية مررتها عقب بعض المناوشات. لم يتحدث شبانة مطلقًا، ولم يكن بإمكانه التزامًا بقاعدة منع المرشحين من الحديث أثناء انعقاد الجمعية العمومية تجنبًا للدعاية.
في النهاية فاز شبانة بأعلى الأصوات في هذه الانتخابات، جامعًا أصواتًا ممن انتخبوا مرشحي تيار الاستقلال وأيضًا ممن انتخبوا مناهضيه، وقال لي بعض الناخبين إنهم اختاروا البلشي نقيبًا وشبانة عضوًا، لضمان توازن المجلس.
على البلشي تحقيق إنجازات للصحفيين ليكمل تجربته وينجحها بما يمهد الطريق لتجارب مختلفة أخرى
لكن هل شبانة "عَو"؟ ربما يحاول أنصاره المبالغة في قوّته، خاصة مع التركيبة الحالية للمجلس. في ظني لن يتمكن من الاستئساد في المجلس أو انتزاع مقعد السكرتير العام من جمال عبد الرحيم؛ سيبقى مصدر إزعاج لكنه لن يكون مُعطِّلًا، خاصةً إن لم يحصل على منصب في هيئة المكتب.
بخلاف شبانة، فاز من الفريق المقرب من الدولة أيمن عبد المجيد الذي يرأس تحرير جريدة روزاليوسف، ويثير بعض المناوشات من حين لآخر، مثل رفضه قبل أسابيع إقرار مدونات سلوك تحمي الصحفيات من التحرش معتبرًا أنها تسيء إلى سمعة الصحفيين، وهو ما أثار استهجان الصحفيات.
وكذلك فاز حسين الزناتي، رئيس تحرير مجلة علاء الدين، الذي لا يشتبك عادة في القضايا الخلافية، ويحتفظ بابتسامة هادئة يقابل بها الجميع، مكنته من حصد أصوات متأرجحة وأصوات من الفريقين.
تحديات في الطريق
يواجه مجلس البلشي تحديًا في العامين المقبلين. فإعادة فتح النقابة بيتًا للجميع، ونسج علاقات جيدة مع السلطة التنفيذية وأجهزة الدولة أصبحت من مكتسبات الماضي، وعليه الآن تحقيق إنجازات أكبر وربما أكثر مباشرة للصحفيين، بما يمهد الطريق لمن سيترشح بعده من تيار الاستقلال.
لعل حجب المواقع الصحفية المستقلة سيكون ضمن أكبر التحديات التي تنتظر البلشي، الصحفي القادم من جريدة البديل اليسارية وموقع درب الذي كان محجوبًا، إلى جانب عدد الصحفيين المحبوسين على خلفية قضايا نشر ورأي، بالإضافة إلى القيود القانونية المفروضة على التغطية الميدانية.
أما الملف الاقتصادي فلا يقل سخونة؛ وسط تدني الأجور وتردي أوضاع الصحفيين الاقتصادية، التي كشفها استبيان أجرته النقابة في عهد البلشي، فصار من غير الممكن تجاهل نتائجه بعد إعادة انتخابه. لقد شخّص المرض بدقة، وصار لا مفر أمامه من علاجه. وهي مهمة جد شاقة، تكاد تكون مستحيلة.