تصوير نورا يونس
مصطفى الأعصر، كورنيش بيروت، فبراير 2023

عن خسائر الصحافة المتبادلة.. في مصر والمنفى

منشور الأربعاء 3 مايو 2023 - آخر تحديث الأربعاء 10 مايو 2023

عند عودتها لمنزلها الذي تسكنه مع طفلتيها في حي المعادي جنوب القاهرة في ليلة خريفية من عام 2020، بعد أيام من خروجها من سجن القناطر، قالت صاحبة العقار للصحفية بسمة مصطفى إن قوة أمنية تحرّت عمّا إذا كانت تؤجر لها بيتها "وهنا عرفت إني متراقبة رقابة شخصية".

كانت بسمة خرجت لتوها من السجن بكفالة ألفي جنيه، إثر توقيفها في الأقصر التي سافرت إليها للعمل على تغطية ميدانية لتداعيات مقتل مواطن على يد الشرطة في قرية العوامية، وذلك بعد يومين من صدور قرار بحبسها 15 يومًا متهمة بـ"الانضمام لجماعة إرهابية ونشر أخبار كاذبة واستخدام موقع بهدف النشر".

في المرة الثالثة التي يُقبض فيها على بسمة بسبب ممارسة عملها الصحفي، وقبيل الإفراج عنها، سألها ضابط أمن وطني عن مقر سكنها، "عشان نجيبك وقت ما نحب ولو ما جتيش هنجيبك غصب عنك"، وفق ما تقول للمنصة.

هنا شَعَرت بـ"عدم الأمان بعد القبض عليّ تلات مرات في الفترة من 2016 وحتى 2020، بسبب التحقيقات اللي بعملها". وتتابع "المرة الأخيرة ضابط أمن وطني قالي يبقى لطيف لو سافرتي تغيير جو، ما حددش أسافر جوة ولا برة مصر، بس فهمت بعد كده إنه كان تلميح بالخروج من البلد". تلقت بسمة الرسائل وأدركت "إن دا هو التايم للخروج". 

في نوفمبر/تشرين الثاني 2020 خرجت بسمة من مصر مع ابنتيها وزوجها هربًا إلى لبنان، حيث لا تحتاج فيزا مسبقة للدخول. واحتمت هناك إلى أن تتمكن من إيجاد ملاذ دائم آمن. ولكن تأشيرة السياحة التي يحصل عليها المصريون في مطار رفيق الحريري في بيروت حدها الأقصى ثلاثة شهور، يتعين على النازحين بعدها الخروج ثم العودة مرة أخرى.

في خروجها الأول، حاولت بسمة وعائلتها السفر إلى تركيا، ولكن السلطات اللبنانية لم تسمح لها بالمغادرة بدعوى أن "فيزتك فيها مشكلة". سمحوا لأسرتها بالسفر، غير أن السلطات التركية رفضت إدخالهم وقامت بترحيلهم إلى كينيا، حيث سافرت إليهم بسمة لاحقًا. قضت الأسرة في كينيا نحو شهرين ونصف، ثم عادت إلى لبنان مرة أخرى. وعند انتهاء الشهور الثلاثة الثانية، كان عليهم الخروج مرة أخرى. ولكن هذه المرة كانت أفضل من سابقتها لأن قصتها راجت ولاقت الكثير من التعاطف، وساعدها في ذلك ملفها الصحفي الحافل بالتحقيقات المؤثرة.

من مصر إلى لبنان، ثم كينيا، فلبنان مرة أخرى. بعد ثمانية أشهر من الترحال وصلت إلى ألمانيا. تسببت هذه القفزات المتعجلة من نوفمبر 2020 وحتى يوليو/تموز 2021 في سيطرة "إحساس النزوح أو التشرد" عليها.

بسمة مصطفى تغادر مصر بغير رجعة مع أسرتها، مطار القاهرة، 3 نوفمبر 2020

بمجرد خروجها من مصر انتمت بسمة وعائلتها لمجتمع يعرف بالـ"دياسبورا المصرية" أي الشتات المصري، الذي تقول عنه الصحفية سولافة مجدي بعد قضائها 18 شهرًا في السجن، سافرت بعدهم إلى فرنسا "كنا متعودين على الشتات الفلسطيني، العراقي، دلوقتي مجتمع الشتات انضم له شق مصري".

ويشار بهذا الشتات إلى مئات النشطاء والحقوقيين الذين مروا بتجربة السجن أو يحملوا آراء معارضة تضطرهم لتفضيل المنفى على الإقامة في مصر مسجونًا.

لحق الصحفيون بالشتات، والأسباب كثيرة. تقول بسمة "لو كنت في مصر لحد النهاردة كان زماني محبوسة يا خارجة من سجن يا إما خايفة اتحبس. ودا مش جو شغل".

مناخ يطرد الجميع

يتفق الصحفي مصطفى الأعصر الذي غادر مصر قبل سبعة أشهر إلى لبنان، بعد تجربة حبس احتياطي امتدت نحو ثلاث سنوات ونصف، مع ما ذهبت إليه بسمة. فمنذ إطلاق سراحه في يوليو/تموز 2021 "مش عارف أرتاح في مصر. مش عارفة أمارس عملي الصحفي بما يمليه عليّ ضميري المهني والإنساني. ومش قادر أتعافى من التروما؛ الخطف والاختفاء والتدوير والحبس المطول".

قضى الأعصر ثلاث سنوات وخمسة أشهر على ذمة قضية اتهم فيها بالانتماء لجماعة أُسست على خلاف أحكام القانون، وبث ونشر أخبار كاذبة. وعندما خرج وجد أن "المناخ مش مساعد أتعافى ولا أشتغل ولا أبني حياة". يقول إن خروجه من مصر "ماكنش قرار. كنت مدفوع. كنت تحت النظر، وفي أي لحظة ممكن ألاقي نفسي في السجن".

ظل مصطفى في مصر سنة وثلاثة أشهر بعد خروجه من السجن، حاول خلالهم استعادة حياته، لكن "الفرص المتاحة كانت مهينة". أهم شيء لدى الصحفي هو أرشيفه واسمه، الأثر الذي يتركه والقضايا التي يثيرها، خاصة أن الفرص المتاحة في مصر غير مجدية ماديًا "كتير كنت بشتغل موضوعات باسم مستعار أو بدون اسم خالص لأسباب أمنية". ويتابع "وضع الصحافة في مصر مش بس المهني متدني، كمان المادي متدني، الرواتب والفرص قليلة".

مصطفى الأعصر يقوم بإعداد أوراقه للتقدم لإحدى المنح، بهو الفندق الذي يقيم فيه ببيروت، فبراير 2023.

حديث الأعصر وبسمة يلخص ما مرّت به الصحافة المصرية من تضييق منذ عام 2013. بدأ مع توثيق منظمة مراسلون بلا حدود في سبتمبر/أيلول 2013 مقتل 5 صحفيين بيد رجال السلطة العامة، والقبض على نحو 80 آخرين، خلال الشهرين التاليين لإعلان إسقاط نظام الرئيس الراحل محمد مرسي في 3 يوليو/تموز 2013. 

وخلال السنوات التالية تزايد التضييق على الصحفيين مع احتكار ملكية المؤسسات الصحفية وإصدار قوانين من شأنها توسيع نطاق ملاحقة الصحفيين بتهمة "نشر أخبار كاذبة"، وعزوف المسؤولين عن تقديم أية تصريحات أو وثائق مفتوحة أو معلومات للصحفيين الذين قُيدّت حركتهم داخل مؤسسات الدولة التي يعملون على تغطيتها.

وتواصلًا لهذه المضايقات، نشرت جريدة الوقائع المصرية الشهر الماضي، قرارًا بإدراج 81 شخصية على قوائم الإرهاب، مثّل الإعلاميين 33 منهم، بحسب المرصد العربي لحرية الإعلام. ويقدر المرصد إجمالي الصحفيين المحبوسين حتى ديسمبر/كانون الأول 2022 بـ47 صحفيًا، فيما لا توجد أرقام رسمية بأعدادهم.

نجاة لا تمنع الخسارة

لا يمثل الخروج من مصر لمن يطلقون على أنفسهم اسم "صحفيي المنفى" أكثر من نجاة من فرصة حبس محتملة، أما ما تلاه فكان بالنسبة لبعضهم "خسارة"، وفقًا لتجارب بسمة وعبد الرحمن يوسف المقيم في الولايات المتحدة منذ 2014 وحسن البنّا طاهر المستقر في تركيا منذ يونيو/حزيران 2022.

يشترك عبد الرحمن وبسمة في أنهما حققا إنجازات مهنية قبل الخروج، وعلى قدر التحقق تكون الخسارة. يصف عبد الرحمن نفسه بأنه كان قبل خروجه "صحفي ميداني، مش بغطي وزارة ولا قاعد في مكتب. كنت بتعاون مع رويترز، ولما كنت أمريكا في 2015 مديري طلب مني أرجع" إلى مصر.

استقر عبد الرحمن في أمريكا "بالصدفة، كنت هنا ولما الأوضاع بدأت تسوء أمي قالت لي ما ترجعش". احتفظ عبد الرحمن برغبته في العودة إلى أن قُبض على صديقه إسماعيل الإسكندراني في نوفمبر/تشرين الثاني 2015 "كان معايا قبلها بشهر". بدد ذلك إمكانية عودته تمامًا خصوصًا مع "نشر انفراد بتنازل مصر للسعودية عن تيران وصنافير".

يغطي عبد الرحمن الآن أخبار البيت الأبيض لقنوات ومواقع عربية. ولكنه على الرغم من ذلك يصف تجربته في واشنطن بـ"الصيت ولا الغنى"، معتبرًا أن بقاءه في مصر كان سيمنحه فرصة أفضل "التنافسية في أمريكا عالية ومع فارق اللغة والبيئة تكون الأفضلية للصحفي الأمريكي"، لهذا تنحصر خيارات يوسف للعمل في وسائل الإعلام الشرق أوسطية.

هنا تظهر المشكلة؛ "الحياة في أمريكا غالية والمواقع العربية بتحاسبني زي اللي قاعد في مصر أو تركيا، علشان كده بفكر مرتين قبل ما أعمل الشغل".

لتعويض ذلك اتجه يوسف للظهور على القنوات الإخبارية* للتحليل "كل حاجة في أمريكا بالساعة، ولما بظهر نص ساعة أو ساعة بيكون المقابل مُجدي أكتر". ويضيف "ستر ربنا إني خارج من مصر بعرف أحلل لولا كده ماكنتش عرفت أعمل حاجة".

لكن هذا لا يعني أنه يعتبر وضعه المهني مستقرًا، فخسارته تتعمق كلما ظل بعيدًا عن المشهد "كل ما السنين تعدي وأنت بعيد بتخسر مصادرك، ومعاها بتخسر قوتك". ورغم قربه "من مراكز صنع القرار الأمريكي وفي إحدى أهم عواصم العالم"، لا يرضى يوسف عن تنمية مهاراته خلال سنوات إقامته في أمريكا "مفيش منح، كله بفلوس. أي منح تخرج لصحفيي الدول النامية تُعطى لمن يقيم في الدول دي، وليس للمتواجدين في أمريكا".

عبد الرحمن يوسف يغطي إحدى المظاهرات في واشنطن.

يتزامن ذلك كله مع "التزاماته الاجتماعية" التي لم تكن بنفس الدرجة حين كان في عشرينيات عمره في مصر، لديه رفاهية التركيز في الصحافة وحدها. وللتعامل مع هذه المسؤوليات مثل مصاريف تعلم اللغة وإيجار السكن، يعمل يوسف إلى جانب الصحافة والتحليل "في التدريس بالجامعة والتدريب على السباحة والشطرنج"، ويخشى أن تتوارى الصحافة أمام ضخامة المسؤوليات "بكافح عشان أفضل صحفي".

أمان بلا روابط

في برلين، كانت الخسارة أول شعور لبسمة فور وصولها بعد الأمان، "خسارة لنفسي كصحفية مصرية وخسارة اسم عملته ومطلوب أبدأ من الأول في مجتمع مفيش بيني وبينه روابط ثقافية ولا اجتماعية. محتاجة مجهود مضاعف عشان أقرب للمجتمع، فوق دا في وصمة للعربيات بإنهم منسحقات. محتاجة طول الوقت أقول أنا كنت كويسة، أنا كنت بعمل كذا في بلدي".

وعلى عكس يوسف المطلوب منه اختراق سوق الصحافة الأمريكي وحده، تقول بسمة "كانت في ظهري مؤسستين كبار، زي مراسلون بلا حدود ومعهد العلاقات الخارجية التابع للخارجية الألمانية، ودا بيدي زمالة للصحفيين في الخطوط الأمامية والمدافعين عن حقوق الإنسان، زي استشفاء، ييجوا يريحوا ويشوفوا هيرجعوا بلادهم ولا لأ".

وتؤكد "مراسلون بلا حدود سهلت التواصل مع مؤسسات صحفية تانية شريكة". نجحت بسمة كذلك في الحصول على منحة جديدة مطلع 2023 للصحفيين المهاجرين هدفها إدماجهم وتوصيلهم بالصحف الألمانية.

وإن كانت بسمة "محظوظة" كما تقول بهذه المنح والشراكات، إلا أنها مضطرة لتغيير نمط عملها فتقدم نفسها كصحفية عربية قبل مصرية، وتغطي الشأن العربي لا المصري فقط. هكذا تضطر بسمة وغيرها من صحفيّ المنفى لإعادة اكتشاف أنفسهم ورسم هوية جديدة تفرضها عليهم طبيعة التجربة والمكان.

مرونة بسمة في دخول ملف التغطية الإقليمية للمنطقة العربية حدت نسبيًا من شعورها بالخسارة . ورغم انحسار هذا الشعور  إلا أنه يتجدد كلما وقع حدث في وطنها. تقول "لو كنت في مصر دلوقتي أكيد كنت هبقى عند المعابر السودانية بغطي عودة المصريين، لكن أكتر وقت حسيت إنه يا ريتني كنت في مصر كان وقت وفاة أيمن هدهود". 

وهدهود هو باحث اقتصاد اختفى في 5 فبراير/شباط 2022، وبعد 63 يومًا تلقت أسرته اتصالًا من أحد ضباط قسم شرطة مدينة نصر ثان يخبرهم أن أيمن توفي في مستشفى العباسية للأمراض النفسية.

ضيق الأفق في الداخل والخارج

أما خسارة حسن البنّا طاهر الذي قضى في الحبس الاحتياطي قرابة العامين ونصف وأفرج عنه في مايو/أيار 2020، كانت مبكرة، حتى أنه يقول "ما اشتغلتش برة في الصحافة".

حاول البنّا بعد مغادرته السجن، العودة إلى عمله القديم في صحيفة خاصة، "حاولت أرجع،  كلمت شخص كان دخلني جريدة الشروق قبل ما يتقبض عليَّ عشان أرجع الشغل، قال لي مش هينفع، إنت أحرجتني لما اتحبست".

أغلقت الصحافة أبوابها في وجه حسن لأكثر من عام، إلى أن قرر في أبريل/نيسان 2021 مغادرة مصر إلى الأردن، الذي لا يحتاج المصريون إلى فيزا لدخوله "خرجت من مطار القاهرة، ماكنش عليا حظر سفر. لكن وقفوني في مطار الأردن لسبب لا أعلمه، وبعد تحقيق قرروا ترحيلي لمصر". شعر حسن بالخوف "حاولت معاهم إن الترحيل يبقى لأي بلد غير مصر، لكنهم ما وافقوش ورحلوني بمذكرة فيها التحقيق اللي حصل معايا، مع إضافات من عندهم إني خرجت بشكل غير قانوني من مصر".

عاد حسن إلى مصر واستقر بها سنةً أخرى إلى أن كرر تجربة الخروج واختار هذه المرة كينيا "باسبوري المصري بيديني اختيارات محدودة في الدول اللي بتستقبل المصريين". ولكن ليس كل ما يلمع ذهبًا، والدخول وحده لا يكفي "كان عندي استعداد استقر في كينيا، بلد لذيذ ومستقر، بس تكاليف الإقامة الغالية خلتني أنقل لتركيا".

لا يبدو حسن متمسكًا بالعمل في الصحافة، فبالإضافة إلى أن "أفق الصحافة في تركيا ما يشجعش"، كانت علاقته بالمهنة في بدايتها "مضطربة؛ يعني أول يوم شغل ليا اتضربت. دا كله يخليني أقول لو فيه إمكانية أستغنى عن الصحافة تمامًا مش هتردد".

ولأن إقامته كطالب تفرض عليه حضور المحاضرات "فبضطر أحضر محاضرات بتاخد سبع ساعات يوميًا بخلاف المواصلات فمفيش وقت للصحافة".

حسن البنا في جامعته في تركيا

هكذا تمر حياة البنّا منذ وصوله تركيا في مارس/آذار 2022 بين "عمل بالمفوضية المصرية للحقوق والحريات كمحرر أحيانًا وكمراجع أحيانًا أخرى"، ومحاضرات لغة تركية يُمنّي نفسه بإجادتها "للعمل في الترجمة الخبرية أو الأدبية بدل الصحافة".

العمل عن بُعد يفيد أحيانًا

مهنيًا، ورغم الصعوبات، يبدو الخروج من سوق صحافة بسقف ورواتب منخفضة مفيدًا. يقر بذلك عبد الرحمن يوسف رغم وصفه لانتقاله لأمريكا بـ"المدمر".

"تغطية البيت الأبيض راكمت عندي خبرات، عشرات الصحفيين يتمنوها. عرفت كيف تعمل المؤسسات الأمريكية، وغطيت أحداث الكونجرس، وشفت موضوعات في الواشنطن بوست والنيويورك تايمز 400 و600 كلمة مكتوب عليها أسماء تلات وأربع صحفيين". ويوضح "كل صحفي منهم ليه 200 كلمة بس مطلوب يعصر نفسه فيهم، مستوى من الصحافة لا نعرفه".

نفس الفائدة وجدتها بسمة عندما انضمت، فور وصولها، كمتدربة لموقع "أمل برلين" الذي يصدر "بأربع لغات من بينها العربية وبيديره صحفيين مهاجرين من سوريا وأفغانستان وأوكرانيا".

كُلفت بسمة بإعداد نشرة الصباح، فكانت تطلع على المواقع الألمانية، ولفت نظرها أن "الخبر كله مكتوب في 100 كلمة، بتفاصيله وخلفياته"، مبينة "كان دا محل خلاف بيني وبين الموقع في الأول".

في تجربتها الثانية بألمانيا في mnemonic، التي بدأتها في ديسمبر/كانون الأول 2021 وحتى الآن، عرفت صحافة البيانات وصحافة المصادر المفتوحة، "عمري ما كنت اشتغلت صحافة بيانات، وعمري ما اشتغلت مصادر مفتوحة يتبني فيها التحقيق من أوله لآخره من بيانات متاحة على الإنترنت".

وتضيف أن تقنية geolocation على وجه الخصوص كانت لافتة بالنسبة إليها؛ "بالشكل دا ممكن أكتب تحقيقات عن مصر أو أي مكان في العالم عن بُعد من خلال المصادر المفتوحة. فكرة اني أكون في الميدان ما بقتش مشكلة كبيرة طالما مخك حاضر والفرضية موجودة".

وتتابع "اتشال عبء إني صحفية سِبْت مجتمعي، الصحفيين المهاجرين هنا كلهم بيعملوا شغل مهم وبيبتكروا آليات للشغل عن بعد".

وmnemonic هو "مشروع الاستجابة السريعة للذاكرة لتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان في أربع دول هي سوريا، اليمن، أوكرانيا، والسودان". انضمت بسمة في المشروع إلى الأرشيف السوداني ويقوم دورها على استخدام التقنيات الحديثة مثل الأقمار الصناعية في توثيق الخرائط.

أصبحت بسمة تقدم نفسها في مقابلات الوظائف كـ"صحفية قادرة على تغطية قضايا الشرق الأوسط". الأمر نفسه ذكره مصطفى الأعصر الذي يرى أن تغطية "الملف المصري بتشابكاته الإقليمية" بات الأنسب له بحكم وجوده في الخارج.

رغم ذلك يرى الأعصر أن ما اختلف بين عمله في مصر وعمله في لبنان هو أمان ما بعد النشر، وليس زاوية تناول الموضوعات "قادر أتناول الموضوعات اللي بنتمي ليها بدون الشعور بالخوف طول الوقت".

استغرقت سولافة بعد وصولها فرنسا في سبتمبر/أيلول 2021 ثلاثة أشهر، وقبلهم ستة أشهر في مصر حتى تصل إلى لحظة التعافي أو "الثأر"، على حد تعبيرها، وتقصد بها القدرة على "مواصلة شغلي كصحفية، ومواصلة دوري في الدفاع عن الصحفيين".

في نهاية 2022 تجاوز عمل سولافة الصحفيين ليشمل البحث في حقوق السجينات، وذلك بعد انضمامها كزميلة لمعهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط بواشنطن. تتطلب وظيفتها الجديدة "التركيز على الوضع الحقوقي للسجينات. هنا أنا قادرة أقابل أعضاء كونجرس وممثلين للبيت الأبيض وأواجههم بدعمهم للسلطات المصرية، وتأثير دا على الوضع الحقوقي".

صحافة المنفى

سنة وثمانية أشهر إجمالي ما عاشتهم بسمة حتى الآن في ألمانيا، كانوا كافيين لتحول مشاعرها السلبية تجاه وجودها هناك، إلى الحلم بـ"صحافة منفى مصرية".

 وتوضح "بحاول اعمل جورنال لصحفيي المنفى المصريين. خدت فكرته من صحفيين منفيين من بلدان تانية طبقوا التجربة على بلدهم، سألتهم عن التفاصيل وإزاي نفذوه".

سولافة مجدي في الولايات المتحدة بعد انضمامها لمعهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط

ساهمت سولافة في صحافة المنفى بتقديمها الموسم الثالث في 2022 من "بودكاست 11"، التابع لمؤسسة نساء من أجل العدالة، وهي مؤسسة حقوقية مرخصة في كندا، واستضافت فيه حقوقيين وصحفيين وسياسيين، بالإضافة لبودكاست "تذكرة عودة" التابع للمنبر المصري لحقوق الإنسان.

كان أول من قدم بودكاست 11 هو الصحفي اللامع محمد أبو الغيط، الذي خرج من مصر أيضًا بسبب التهديدات الأمنية، وحين سُمح له بالعودة كان في المرحلة الأخيرة من صراعه مع مرض السرطان، إذ توفي في لندن نهاية العام الماضي، عن عمر يناهز 34 عامًا، وبكته الصحافة المصرية والعربية كثيرًا.

في مقابل حلم "صحافة المنفى"، يحلم عبد الرحمن يوسف بالعبور إلى الصحافة الأمريكية بـ"انفراد قوي". ويقول إنه اعتاد تقديم انفرادات طوال فترة عمله في مصر وحتى بعد إقامته في أمريكا، موضحًا "أنا صاحب خبر تنازل مصر للسعودية عن تيران وصنافير، سربه ليا مصدر بالديوان الملكي السعودي".

العودة على ظهر باسبور أجنبي

تفاوتت تقديرات العودة بين بسمة وعبد الرحمن وسولافة ومصطفى. انحازت بسمة إلى العودة "لو فيه انفراجة حقيقية"، واتفقت معها سولافة. أما عبد الرحمن فيعتقد أن "الحالة الوحيدة لرجوعي هو إن يكون معايا باسبور أجنبي يحميني".

تمتلك بسمة وسولافة مشاريع مهنية حال عودتهما. تقول سولافة "البودكاست المنصة الأخيرة اللي ممكن ما تتحجبش على عكس المواقع الإخبارية والصحف. فيه منصات بديلة قادرين نوصل بيها للناس ونكمل شغلنا كصحفيين".

أما بسمة التي قضت السنوات العشر التي سبقت سفرها تعمل في تحقيقات ميدانية، فيبدو أن تجربة المنفى بدلتها "لو رجعت هعمل موقع متخصص في صحافة التحقيقات مفتوحة المصدر".

يلامس حديث بسمة أزمة صحافة مصر وحيرة صحفييها؛ الذين عليهم الاختيار بين البقاء في مصر، حيث يظلون مرتبطين بمجتمعهم ومنغمسين في القضايا المحلية وعلى علاقة بالمصادر غير الرسمية، ولكن بلا حماية ولا رواتب لائقة، يعملون في سوق تحد من مهاراتهم وتأكل منها، أو يختارون المغادرة لتعلم وممارسة الصحافة المهنية الحديثة حيث يصبحون صغارًا في مؤسسات كبرى، وفي منافسة غير عادلة مع صحفيين آخرين، أكثر دراية ولغة وثقافة ببلدهم وقضاياها.

وتقيس بسمة هذه الثنائية "في مصر كنت بحفر في الصخر عشان أعمل شغل، كنت دايمًا بجري والفرص أنا اللي بخلقها، أما في ألمانيا أنا عارفة إني مهما فاتتني فرص ومهما كنت بطيئة ففي عشرات الفرص مستنياني".

أما مصطفى فيرى بوضوح استحالة عودته إلى مصر في ظل ثنائية الرواتب المتدنية للصحفيين والقمع، مبررًا "الصحفي من حقه يعيش حياة كريمة ويقبض أجر عادل يكفي أولوياته ومتطلباته المعيشية". ولكن لعل عامل الوقت هو أكثر ما يهدده الآن. فوجوده في لبنان بتأشيرة مؤقتة يحتم عليه الخروج وإعادة الدخول، ولن يستمر ذلك الوضع كثيرًا.


* أجرت المنصة تعديلًا على هذه القصة بتاريخ 10 مايو 2023 لتصويب تصريح نُقل بالخطأ على لسان المصدر.