الشعب آخر من يعلم، إنها اللافتة المرفوعة في هذا العهد، إذ تُمرر الاتفاقيات والمعاهدات سريعًا عبر البرلمان، بما لا يوفر وقتًا ليعرف الناس ما جرى. وتبرم الصفقات أسرع من ذلك، وبعضها يكون بعيدًا حتى عن المجلس، وهو مَنْ ترتفع شكوى الناس بعدم حرصه على تمثيلهم، أو الدفاع عن مصالحهم، ويعرفون جيدًا كيف جرى تشكيله.
قبل إبرام صفقة رأس الحكمة الممتدة أيضًا إلى مناطق أخرى، عبَّر مصريون كثيرون على السوشيال ميديا عن غضبهم من تصرف السلطة في ممتلكات "الشعب" دون أن تكلف نفسها مجرد إبلاغه، وهي مسألة لازمة وواجبة وفق النصوص التي تحكم العلاقة بين الشعب والسلطة التنفيذية، وعلى رأسها الدستور.
وفق القواعد المؤسِّسة للدول الحديثة، أيا كان اسمها أو موقعها، تكون الأرض ملك الشعب. وحتى وإن آلت بعض الأرض إلى مؤسسات أو هيئات ما، فإن هذه المؤسسات نابعة من الشعب وتؤول إليه في النهاية، بما فيها المؤسسة العسكرية بكل عددها وعتادها ومالها، وفق المادة 200 من الدستور، التي تنص على أنَّ "القوات المسلحة ملكٌ للشعب، مهمتها حماية البلاد، والحفاظ على أمنها وسلامة أراضيها، والدولة وحدها هي التي تنشئ هذه القوات".
وبالطبع، تدرك السلطة التنفيذية هذا الالتزام تمامًا، لكنها تتجاهله طوال الوقت، فيبدو الشعب مستبعدًا من المشاركة في القرارات كليًا، أو جزئيًا حين تشارك "السلطة التشريعية" في القرار. لكنها، وكما يعلم القاصي والداني مشاركة شكلية، تبدو أشبه باستيفاء الإجراءات. ولولا أنَّ مَن يشتري أصولًا أو ينتفع بها أو يعقد استثمارات، يطلبها ليضمن شكلًا قانونيًا سليمًا، ربما ما عاد أحد إلى البرلمان لينظر في أي من هذا.
لقد تراكم الاعتراض، وإن تفاوتت درجاته، لكنه شكَّل في النهاية ضغطًا نسبيًا على السلطة، فدفعت رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي ليطل علينا في مؤتمر صحفي مبتور، أو مجهز من طرف واحد، ليقول للناس شيئًا عن "صفقة رأس الحكمة"، مستخدمًا كل مهاراته في محاولة طمأنة الشعب، واللعب على وتر المنفعة أو المصلحة أو البدء في معالجة الأزمة الاقتصادية الراهنة، التي تضغط على المصريين بشدة، وتجعل بعضهم مستعدًا لقبول أي شيء في سبيل الخروج من العسرة.
مشكلتنا مع مدبولي
في المؤتمر الصحفي لرئيس الوزراء الذي أعلن فيه إبرام "صفقة" رأس الحكمة، راح يجزم بأن العملة الصعبة التي ستتدفق لقاء هذا المشروع الضخم ستلجّم تقدم الدولار في السوق المصرية، فشعرت أنه واحد من الإعلاميين الذين يُحدِّثون أهل مصر في المساء عن اللبن والعسل المنتظر في قادم السنين، وعن الدولار الذي سيُقبض عليه لإيداعه في المتحف بجوار الفأس البرونزية.
الدولة ليست سمسار عقارات وحشر مصر في هذه الزاوية لا يليق بها أبدًا
مشكلتنا مع مدبولي تتلخص في خمسة أمور: أولها أنه لم يقل كلَّ شيء عن الصفقة، فالخفي منها أكبر مما أعلَنَه، وثانيها أنه بالَغ في إمكانية أن تؤدي إلى علاج المرض العضال الذي أصاب اقتصادنا لأسباب يعرفها القاصي والداني، وثالثها أن الثقة صارت مفقودةً في السلطة الحالية، ولذا فإنَّ أثر أقوال مدبولي على السوق سيكون مؤقتًا، ولا أعتقد أنه سيؤدي إلى تراجع الأسعار، وهذا ما يهم الشعب.
فالمال القادم لن يأتي دفعةً واحدةً، وبعضه موجود بالفعل من خلال وديعة إماراتية لدى البنك المركزي كديون، سيتم تسييلها بالجنيه المصري، وبعض المال سيذهب لتسديد أقساط الديون، كما تبدو نية السلطة حتى اللحظة الراهنة.
والأمر الرابع يتعلق بالإجابة عن السؤال الذي يطرحه الناس بقلق وخوف في الشوارع والأسواق والحقول والمكاتب، ويعيد البعض طرحه على السوشيال ميديا؛ هل الطرف المشتري سيكون مالكًا لأرض المشروع، وقدرها 170 مليون متر مربع، أم سيكون منتفعًا فقط؟ وهل هي صفقة اقتصادية بحتة، أم أنَّ لها ثمنًا سياسيًا؟
فحتى الآن لم يُنشر الاتفاق كاملًا في أي وسيلة إعلامية أو رسمية، وكل ما حدث هو تسريب بعض بنوده من هنا وهناك. لكنَّ ما تسرب ليس كافيًا لفهم ما جرى ومن ثَمَّ الحكم عليه، وتقييم ما إذا كان ممكنًا تحسينه لصالح الشعب. وهذا لا يمكن الوصول إليه إلا عبر عرض بنود الاتفاق أمام الخبراء لمناقشتها وطرح آرائهم فيها، فيعرف الناس ماذا تعني هذه الصفقة؟ وهذا حق للمصريين، لا يُغضِب من يشتري، أيًا كانت جنسيته.
أما الأمر الخامس فهو أنَّ مدبولي لا يعدنا بأي حل سوى المضي أعمق وأوسع في هذه الطريق، التي إن حققت نموًا ظاهريًا بعض الوقت، فلن تجلب لنا تنمية، لأن الدولة ليست سمسار عقارات، وحشر مصر في هذه الزاوية لا يليق بها أبدًا. فالتنمية الحقيقية تعني إطلاق مشروعات إنتاجية ناجحة، في الزراعة والصناعة، بما يعزز التصدير والتشغيل، مع ترك دورة النقود تتسارع لينتهي الجفاف الذي أصاب أوصال الاقتصاد المصري.
ولهذا استقبل الفاهمون في الاقتصاد الإعلان عن صفقات مماثلة في "رأس جميلة" وغيرها بغضب وسخرية في آن. ومبعث الغضب أنَّ السلطة استمرأت هذه الطريقة، معلنةً بذلك إفلاسها عن تقديم حلول حقيقية للمشكلة الاقتصادية، ووصلت السخرية إلى حد أن يتحدث الناس عن صفقة تخص "رأس البر".
أنَّ كل ما يقال عن صفقات مربحة، الخفيُّ فيها أكثر من المعلن، لن يقنع أحدًا ما لم ينعكس على حياة الناس، بعدما تتبدد هواجسهم حيال التهديدات المحتملة للدولة المصرية في المستقبل.
فمثل هذا القول المشبع بإغراء ودغدغة من جرى إفقارهم سيذهب سدى، إذا أُهدر ما سيأتي بالسير في الدرب الذي نمضي فيه منذ 10 سنوات فأوصلنا إلى حافة الهلاك، ونكاد ننزلق فيه الآن. أما فجيعة بيع الجغرافيا لتمويل العبث من وراء ظهر الشعب، فلن ينهيها شيء أبدًا.