مع عودة مجلسي النواب والشيوخ للانعقاد مرة أخرى مطلع هذا الشهر، بعد إجازة برلمانية استمرت ثلاثة أشهر، تكررت مشاهد دور الانعقاد السابق بانتخابات اللجان النوعية المحسومة بالتزكية وفق ترتيبات وتعليمات الساعات الأخيرة، التي بمجرد تشكيلها بدأت في مناقشة اتفاقيات قروض جديدة.
ينظم القانون والدستور ولائحة المجلسين إجراءات بدء أدوار الانعقاد الجديدة كل عام، التي تبدأ بانضمام الأعضاء للجان النوعية وانتخاب مكاتبها من الرؤساء والوكيلين وأمناء سر كل واحدة على حدة. وللعام الثاني تحسم التزكية كل المقاعد باستثناء لجنتين، لنشهد انتخابات بلا مرشحين لمئة مقعد موزعة على 25 لجنة نوعية في مجلس النواب، و56 أخرى في 14 لجنة نوعية بمجلس الشيوخ.
لجنة حقوق الإنسان والتضامن الاجتماعي في مجلس النواب، ولجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ، خرجتا عن إطار التزكية، حيث نافس محمد فريد وكيل لجنة حقوق الإنسان وعضو المجلس عن تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين، جميل حليم العضو المعين في المجلس. أما لجنة الشؤون الخارجية فشهدت منافسة بين الوكيل عفت السادات ومنافسه الخاسر محمد عبد العليم الشيخ.*
وبشكلٍ عام، تحاط انتخابات اللجان النوعية على مدار أدوار الانعقاد الثلاثة الماضية بسياجٍ من السرية، إذ يُمنَع الصحفيون من تغطيتها، على عكس الفترات السابقة عندما كانت أبواب لجان مجلس النواب مفتوحة للتغطية والمتابعة والتصوير.
ولم يعد متاحًا أمام للصحفيين الدخول اثناء الانتخابات، أو الحصول على قوائم للمرشحين، وتكتفي الأمانة العامة ببيان يعلنه رئيس المجلس بأسماء رؤساء ووكلاء وأمناء سر اللجان، دون توضيح كيفية وصولهم إلى هذه المناصب.
توافق أم اختناق سياسي؟
ومع منع الصحفيين من دخول وتغطية ومتابعة انتخابات المجلسين، لم نتمكن من الحصول على صورة واحدة للصناديق الشفافة الخالية من أوراق الانتخابات، فالجميع استسلم لاتفاقيات الغرف المغلقة، التي انتهت بمشهد يتعارض مع طبيعة العمل السياسي القائم على التطلع والمنافسة والرغبة في الظهور وتولي المناصب.
في مجلس النواب، حافظ رؤساء اللجان السابقين على مقاعدهم، عدا لجنة الشؤون الاقتصادية التي اضطرت لاختيار النائب محمد سليمان رئيسًا جديدًا بعد تولي رئيسها السابق أحمد سمير حقيبة وزارة الصناعة والتجارة، بالإضافة إلى 9 تغييرات أخرى في مناصب الوكلاء وأمناء السر.
وفي الشيوخ، تكرر الأمر نفسه مع استثنائين للجنة الشؤون الخارجية والأمن القومي، التي كانت مجبرة على اختيار رئيس جديد بعد وفاة رئيسها السابق عبد الحي عبيد، ولجنة الشؤون الصحية بعد استبعاد رئيسها محمد جزر لصالح رئيسها الجديد علي مهران.
واعتبرت مواقع إخبارية موالية للنظام التزكيةَ والصناديق الخالية من بطاقات الانتخاب، مؤشرًا على التوافق السياسي، لكنها لم تكن إلا انعكاسًا لحالة الاختناق السياسي، والمحاصصة التي تجريها الأحزاب مع جهات أخرى مسؤولة عن إدارة المشهد السياسي، تلك الإدارة التي لا ترغب في وجود معركة انتخابية داخل غرفة مغلقة في البرلمان. معركة يمكن أن يتنافس فيها أطراف دخلت جميعها البرلمان بموافقة ورضا الجهات جميعها، ولم يخيب أي منهم الظن أو يخرج عن السياق والطريق المرسوم.
مشهد التزكية لم يكن معتادًا في البرلمان عبر سنوات طويلة، حتى في سنوات استحواذ الحزب الوطني على مقاعده، حيث كانت انتخابات اللجان في مجلس الشعب تجري بشكل طبيعي وتنافسي بين أغلبية الحزب الوطني وأقلية المعارضة، وفي بعض الأحيان بين نواب الحزب الوطني أنفسهم عندما كانت تغري المنافسة والمقاعد بعض الأعضاء وتدفعهم للخروج عن الالتزام الحزبي، حتى وإن كان مصيرهم الخسارة.
ظهور التزكية كظاهرة في البرلمان تزامن مع مزيد من التضييق السياسي وتغيير تركيبة مجلسي النواب والشيوخ وطريقة إدارة الانتخابات البرلمانية.
في الفصل التشريعي الأول للبرلمان السابق عام 2016 كانت المنافسة لا تزال قوية بين النواب وبعضهم على انتخابات اللجان، منافسة شارك فيها المحسوبون على القائمة الرئيسية حينها "في حب مصر" ضد بعضهم البعض.
كما كانت تركيبة مجلس النواب مختلفة، أعداد كبيرة من المستقلين "خارج السيطرة النظامية"، حتى وإن جمعتهم قائمة واحدة وبعدها ائتلاف واحد؛ الحيوية لا تزال تدب في المجلس، قبل استحواذ حزب مستقبل وطن وحصوله على الأغلبية البرلمانية، وفرض قوة الالتزام الحزبي، واتباع التعليمات، هنا أصبحت المحاصصة والتزكية والترتيبات المسبقة وسيلة الوصول لهيئات مكاتب اللجان.
ما أهمية رؤساء اللجان؟
رؤساء اللجان الذين يصلون لمقاعدهم بالتزكية هم أعضاء بموجب لائحة مجلس النواب، ولائحة مجلس الشيوخ في اللجنة العامة لكل مجلس التي تقر خطة عمله فى بداية كل دور انعقاد عادي، وتناقش الموضوعات العامة والأمور المهمة التى يرى رئيس الجمهورية، أو رئيس المجلس، أو رئيس مجلس الوزراء، تبادل الرؤى فى شأنها مع اللجنة أو إحاطة أعضائها علمًا بها، فيما يتولى رئيس كل لجنة نوعية وضع جدول أعمالها.
تتسق طريقة وصول رؤساء اللجان، مع المطلوب منهم، ومع أجندة المجلسين وأولويات العمل في الفترة السابقة والمقبلة، فنجد في الأسبوع الأول لعمل مجلس النواب سرعة وتجاوب من رؤساء اللجان النوعية لمناقشة اتفاقيات القروض الجديدة التي أحالها رئيس المجلس لها في أول يوم في دور الانعقاد الثالث.
هذه القروض التي تأتي وسط تجاوز الدين الخارجي 158 مليار دولار حتى مارس الماضي، وفي وقت تلتهم فيه فوائد الديون نحو 690.2 مليار جنيه، بما يقدر ينحو 33% من الموازنة العامة للدولة.
قروض من أجل التطوير والقمح
فبعد يومين من تشكل اللجنة، اجتمعت النقل والمواصلات، ووافقت على اتفاقين في يوم واحد، هما قرض لمشروع تأهيل الخط الثاني لمترو القاهرة، الموقع بين مصر والبنك الأوربي لإعادة الإعمار بمبلغ يصل إلى 250 مليون يورو، والثاني اتفاق بين مصر والوكالة الفرنسية للتنمية لمشروع تطوير خط سكة حديد طنطا المنصورة دمياط ومن خلاله توفر الوكالة قرضًا يصل نحو 95 مليون يورو.
ووافقت لجنة الزراعة والري على قرض ثالث يقدر بـ 500 مليون دولار مخصص لشراء القمح وإنشاء صوامع جديدة، وهو القرض الذي اعتبره أحد أعضاء اللجنة من حزب الأغلبية "مستقبل وطن" ضرورة لشراء السلعة الأهم وتحسين طرق تخزينها، واعتبره يشبه المنحة بسبب تسهيلات القرض التي تمنح مهلة خمس سنوات سماح والسداد على 18 سنة.
اللافت أن تلك الموافقات تأتي بعد أشهر قليلة من إبداء النواب انزعاجهم من استمرار الاعتماد على سياسات الاقتراض، الأمر الذي جعل وزير المالية محمد معيط يعلن في أبريل/ نيسان الماضي، خلال الجلسة العامة المخصصة لمناقشة تقرير لجنة الخطة والموازنة عن حساب ختام الموازنة العامة للدولة، عن تشكيل لجنة حكومة برئاسة رئيس مجلس الوزراء وعضوية وزيري المالية والتخطيط لبحث القروض، موضحًا أنها ستكون مسؤولة عن إدارة القروض وأن يكون الاقتراض قاصرًا على المشروعات البنية التحية أو القومية والاستراتيجية.
من المستبعد أن يرفض مجلس النواب القروض التي وافقت عليها اللجان خلال عرضها على الأعضاء في الجلسة العامة، فالتحكم في سياسات القروض سيأتي من السلطة التنفيذية، ولن يشارك البرلمان في المستقبل القريب في رسم سياسات التعامل مع القروض أو تخطي أزمة الديون، التي تبقى في يد الحكومة وحدها.
* عدلت المنصة هذا الموضوع بتاريخ 12 أكتوبر 2022 لتوضيح أن لجنتي حقوق الإنسان والتضامن الاجتماعي في مجلس النواب، والشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ، شهدتا انتخاباتٍ تنافسيةً على مقعدي وكيليهما.