بينما كان مجلس النواب يناقش، أول أمس الاثنين، مشروع قانون يمنح القطاعين الخاص والأهلي حق إدارة وتشغيل وتطوير المنشآت الصحية الحكومية، كان نائب مقرّب للسلطة يوقف مسؤولًا حكوميًا في إحدى طرقات المجلس ليطلب منه التوسط لتسهيل دخول أحد أبناء دائرته أحد المستشفيات الحكومية.
تلخص هذه المفارقة وضع منظومة الصحة في مصر، فالنواب يحتاجون "واسطة" الحكومة لتسهيل تقديم الرعاية الصحية لأبناء دوائرهم، بما فيها البحث عن أسرَّة رعاية مركزة وحضَّانات لحديثي الولادة، ووزارة الصحة فشلت في إدارة المنظومة بما يتيح حصول المرضى على حقوقهم الدستورية في الصحة وتلقي العلاج.
ومع تراكم أزمات الفشل الإداري، وثقل ميزانية الصحة على موازنة الدولة، وهجرة الأطباء وتدني الأجور؛ سعت الحكومة لإيجاد وسيلة للتخفف من أعبائها عن طريق التخلص منها وتحقيق استفادة مادية في الوقت نفسه عن طريق منح فرص للمستثمرين لاستئجار المستشفيات الحكومية لمدد تتراوح بين 3 إلى 15 سنة، وإدارتها وتشغيلها وتطويرها.
الوزير لا يرى مئات الآلاف من المرضى غير المدرجين في التأمين الصحي
ولرسم صورة وردية، أكد وزير الصحة والسكان خالد عبد الغفار أن "المريض المصري" لن يتحمل أي تكلفة إضافية في المستشفيات التي تدخل في تعاقدات من هذا النوع مع المستثمرين، وأن الخدمات الصحية ستتاح بسهولة للحاصلين على قرارات العلاج على نفقة الدولة، وأولئك الخاضعين لمنظومة التأمين الصحي الشامل.
لكن عبد الغفار ربما أغفل أن المستثمر الذي يضخ أموالًا في منشأة صحية هدفه الأول الربح وليس إدارة جمعية خيرية لعلاج المصريين. كما كشفت كلماته أنه لا يرى من المرضى المصريين سوى أولئك الخاضعين للتأمين الصحي، أو الحاصلين على قرارات علاج على نفقة الدولة، وكأنه وزير عنهم فقط، متغاضيًا عن الملايين الذين يلجأون للمستشفيات الحكومية في محاولة لتلقي رعاية لا تحتمل انتظار قرارات نفقة الدولة، ومعهم أولئك الذين لم يدخلوا بعد في منظومة التأمين الصحي الشامل، المتعثرة.
الأغلبية تمرر
مرَّ مشروع القانون كالعادة بدعم الأغلبية البرلمانية، المتمثلة في حزب مستقبل وطن، ومعهم نواب أحزاب الوفد، والشعب الجمهوري، ومصر الحديثة، والإصلاح والتنمية. بينما اعترض نواب لم ينضموا من قبل لفريق المعارضين التقليديين في المجلس، كان منهم النائب محمد عطية الفيومي، رئيس الهيئة البرلمانية لحزب الحرية المصري، والنائب المستقل أسامة المصري. كما صوت بالرفض نواب حزب التجمع، والمصري الديمقراطي، وعدد من المستقلين.
رئيس المجلس يحذف كلمات ثلاثة نواب من المضبطة
قدم الموافقون أسبابًا اعتبرت المشروع مساهمة في علاج مشكلة إدارة الصحة والمستشفيات، وتشجيعًا للقطاع الخاص ومنحه فرصًا للاستثمار، كما أنه يقدم خدمة علاج مجاني للمواطنين.
وقال رئيس الهيئة البرلمانية لحزب الأغلبية، مستقبل وطن، إن "الحكومة أحسنت صنعًا عندما تعاملت مع الواقع وواجهت مشكلة مزمنة بإشراك القطاع الخاص وجذب الاستثمارات. معلوم لدينا جميعًا تزايد السكان سنويًا 2.5 مليون مواطن، الوزير كل سنة يطلب اعتمادًا ليتمكن من تقديم الخدمات".
أما المعارضون فاعتبروا المشروع إهدارًا لحق المريض المصري في الحصول على الخدمات، فرفض النائب أسامة المصري المشروع خوفًا من المستثمر الذي يسعى للربح على حساب الحق في الصحة، وأكد النائب محمد عطية الفيومي أن القانون لا يقدم ضمانات لحقوق المواطن.
الحذف في مواجهة المعارضة
واجه المعترضون حذف كلماتهم من مضبطة/محضر الجلسة خلال مناقشة مشروع القانون، فلجأ رئيس مجلس النواب للحذف ثلاث مرات في جلسة واحدة لكلمات النواب ضياء الدين داود وأحمد الشرقاوي ومها عبد الناصر.
فيما نجت كلمة محمد عبد العزيز، النائب عن تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين، من سيف الحذف رغم قوة كلماته، حيث اعتبر القانون "يهدد سلامة الجبهة الداخلية"، ولا يضع ضمانات لعلاج الفئات الأكثر احتياجًا.
أما النائب أحمد الشرقاوي فواجه النواب بحقيقة وضع منظومة الصحة "حضراتكم كلكم، وأنا معاكم، شغّالين 24 ساعة بالخواطر والتوصيات علشان ندخّل الناس المستشفيات. النواب كده على طول، هنتحول للشحاتة من المستثمر (بدلًا من الحكومة) علشان ندخل مريض بعد كده!".
وكان الرد أنْ تصدّى رئيس مجلس النواب لعبارة الشرقاوي رافضًا مصطلح "الشحاتة من المستثمر"، فقرر حذفها، بينما استكمل النائب "عدِّل قانون إنشاء المستشفيات الخاصة، واعمل اتفاقيات للعلاج على نفقة الدولة، وكَمّل منظومة التأمين الصحي. ما ينفعش ولا يجوز نوافق على قانون زي ده والتأمين الصحي لسه لم يكتمل، أتمنى إرجاء إقرار هذا القانون".
لم تفلت كلمة النائبة مها عبد الناصر من قرارات الحذف من المضبطة بعدما اعتبرت يوم مناقشة مشروع القانون "يومًا أسود في تاريخ الصحة في مصر"، فقاطعها رئيس المجلس معترضًا على ما اعتبره "تشاؤمًا".
ولكن مها عبد الناصر سخرت من فكرة قانون يتيح "تأجير" مستشفيات الحكومة للمستثمرين لتقديم خدمة مجانية للمواطنين "أنهي مواطنين يقدروا على دفع تمن الخدمة؟ ومتأكدين إنه هيدّي الخدمة ببلاش؟ كنّا عرفنا احنا نعملها قبل كده. الواقع بيقول معرفناش، ومش هتتعمل!".
تشير عبد الناصر إلى قرار إلزام المنشآت الطبية بتقديم خدمات الطوارئ مجانًا للمرضى، وهو ما لم يجرِ تطبيقه في المستشفيات الاستثمارية والخاصة في مصر.
استنفار الأغلبية
لم يسلم النائب ضياء الدين داود من قرارات الحذف من المضبطة بعد كلمته التي اعتبر فيها مشروع القانون تخليًا من الحكومة عن مسؤولياتها الدستورية في تقديم الرعاية الصحية للمواطنين، وخاطب الأغلبية "أنصح زملائي في الأغلبية أن يعملوا للمصلحة الوطنية في رفض هذا المشروع".
احتج نواب الأغلبية رافضين عبارة داود وثارت جلبة وردود عشوائية عليه في القاعة، ثم أعطى رئيس المجلس الكلمة لممثل الأغلبية عبد الهادي القصبي، الذي رد مدافعًا "نواب الأغلبية هم نواب الشعب. ونحن ندرس دراسة علمية وطنية قبل أن نتحدث، وليس هذا القانون إطلاقًا ما يسمى عجزًا للدولة المصرية، ولا تنازلًا عن مؤسسات الدولة"، معتبرًا أن الموافقة على المشروع بإدخال القطاع الخاص في إدارة هذه المنشآت الصحية يأتي من منطلق "مسؤولية وطنية"، والحرص على تقديم الخدمات للمواطن، قائلًا إن "هذا القانون توجه وطني للدولة المصرية وتوجه وطني لنواب الأغلبية".
المجلس يعلن اعتذار داود للأغلبية والنائب ينفي
بعد انتهاء كلمة القصبي، قرر جبالي حذف كلمة داود التي وجهها للأغلبية من المضبطة، ثم خلال المناقشات التفصيلية للمواد، وأثناء تقدم داود بتعديل على المادة الأولى، وجه عتابًا مرة أخرى للأغلبية "أهدَروا العشم لسنوات"، منتقدًا رد فعلهم على كلمته بعدما قضى معهم نحو تسع سنوات تحت قبة المجلس، مؤكدًا احترامه لهم "أوجه لهم (الأغلبية) الحديث احترامًا وتقديرًا وليس من باب التهكم، ولم أعتد على ذلك".
الغريب أن إدارة الإعلام في المجلس أرسلت خبرًا للصحفيين، ورَد فيه أن داود قدم اعتذارًا للأغلبية، وهو ما لم يعتده محررو البرلمان من إدارة الإعلام، التي يقتصر دورها على إرسال الصور والبيانات الرسمية والكلمات الرسمية لرئيس المجلس.
حين وردني الخبر تواصلتُ مع داود مرة أخرى، في محاولة لاستيضاح أسباب اعتذاره، فقال لي "لم أقدم اعتذارًا للأغلبية، لم أعتد الاعتذار إلا عن خطأ، وأنا لم أخطئ"، مبديًا اندهاشه من الخبر، ومشددًا على أن كلمته كانت عتابًا على رد فعل نواب الأغلبية على كلمته.
لا يملك دواد تفسيرًا لاستنفار الأغلبية المتكرر ضده، وضد المعارضة بشكل عام، خلال الفترة الأخيرة، وإن رجح أن يكون هذا الأداء الجديد مرتبطًا بسيناريوهات وترتيبات انتخابية مقبلة، عن طريق إظهار بطولات نواب الأغلبية في التصدي للمعارضة.
محاولات فاشلة
كان واضحًا أن القانون سيمر، فبذل المعارضون محاولات عدة لتحسين شروطه بما يوفر ضمانات أكبر لحقوق المرضى، ولكن المحاولات باءت جميعها بالفشل. رفضت الأغلبية التعديلات التي تقدم بها عدد من النواب بأن ينص القانون بشكل واضح على نِسب المعالَجين في المنشآت الصحية التي تدخل في عقد الالتزام، سواء من الخاضعين للتأمين الصحي أو الحاصلين على قرارات للعلاج على نفقة الدولة.
وانتهى النص دون تحديد نسبة، أو حتى آلية تضمن تقديم نسبة، من إجمالي الخدمات الصحية التي تقدمها المنشأة للمنتفعين بخدمات العلاج على نفقة الدولة أو التأمين الصحي أو منظومة التأمين الصحي الشامل.
كما رفضت الأغلبية التعديل الذي قدمه النائب ضياء الدين داود في محاولة لاستثناء مستشفيات الأورام والحميات والصدر ومستشفيات التأمين الصحي الشامل من الخضوع لمشروع القانون، وخرج المشروع مستثنيًا فقط وحدات الرعاية الصحية الأساسية وصحة الأسرة، وعمليات الدم وتجميع البلازما.
في المقابل، مرر المجلس تعديلًا بموافقة الأغلبية يخفض نسبة العاملين الأجانب المنصوص عليها في القانون، وهو التعديل الذي شابه غموض أثناء المناقشات وبعدها.
كان مشروع القانون ينص على ألا تزيد نسبة الأجانب العاملين في المنشأة الصحية عن 25%، وحاول عدد من النواب من انتماءات مختلفة تعديل البند وتخفيض النسبة، ورحب ممثل الأغلبية بالمناقشات واعتبرها تعكس روح البرلمان المصري ووجود الرأي والرأي الآخر، معربًا عن استجابته واستعداده للتعديل.
واستجاب ممثل الأغلبية للاقتراح المقدم من النائبة إيرين سعيد بتخفيض نسبة العاملين الأجانب بحيث لا تزيد عن 10% في المؤسسات القائمة بالفعل، على أن تظل 25% في المؤسسات التي يُنشئها المستثمر.
وخلال المناقشات، وافق وزير الصحة على نسبة 15% للعاملين الأجانب في المنشأة القائمة بالفعل، وهو ما وافق عليه القصبي، واعتُبر الأمر توازنًا بين اتجاه الحكومة والنواب، وانتهى المجلس إلى التصويت على هذه النسبة.
عندها أرسلت إدارة الإعلام، استمرارًا لما يبدو أنه توجه جديد، خبرًا "بانتصار" المجلس لصالح الفرق الطبية في مصر، يشير إلى الموافقة على نسبة 10% في المستشفيات القائمة بالفعل، وهو ما لم يحدث في الجلسة، حيث توافقوا على 15%، ولا أدري بأي نسبة ستخرج النسخة الرسمية للقانون بعد التصديق عليه.
أجبرتني ظروف شخصية على قضاء يوم الموافقة النهائية على مشروع القانون في طوارئ مستشفيين حكوميين، واحد في قلب الجيزة والآخر وسط القاهرة. وفي المرتين تدافعت في ذهني عشرات الأسئلة حول مصير عشرات المرضى الذين رأيتهم من المضطرين للجوء لمستشفيات الحكومة.
قد لا يكون التخلص من المستشفيات الكبرى هدفًا حاليًا للحكومة، لكن ربما تلمع الفكرة في عين مسؤول ما، بعدما يؤتي القانون ثماره وينجح في توفير بعض الدولارات للدولة.