رغم تجاهل دعوات الحوار المجتمعي، حاول مجلس النواب إضفاء صورة ديمقراطية على المناقشات بالاستماع لأكبر عدد من الأعضاء على مدار 12 جلسة عامة، انتهت بتحريك قطار مشروع قانون الإجراءات الجنائية الذي ظن البعض أنه توقف بعد اعتراضات حقوقية وتحفظات دولية.
وافق المجلس على مشروع القانون من حيث المبدأ، وأعلن رئيسه حنفي جبالي بدء المرحلة الثانية من المناقشات التفصيلية للمواد خلال الجلسات المقبلة، ليمضي "الدستور الثاني" الذي ينظم صلاحيات سلطات القبض والتحقيق وضوابط المحاكمات في مساره.
حوار مع النفس
جاءت مناقشة المشروع بعد اعتراضات الصحفيين والحقوقيين والمحامين على النصوص التي خرجت من اللجنة الفرعية التي أعدت مشروع القانون، ووافقت عليه لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية خلال الاجتماعات التي عقدتها في سبتمبر/أيلول الماضي، ومنعت الصحفيين من حضورها، مكتفيةً بحضورهم خلال كلمات الافتتاح والترحيب، وإطلاعهم على بيان رسمي يصدر بعد كل اجتماع.
رفض رئيس مجلس النواب عقد جلسات حوار مجتمعي
رغم الاعتراضات والمذكرات القانونية المتبادلة بين نقابة الصحفيين ومجلس النواب، ودعوات بعض أعضاء المجلس لعقد حوار مجتعي موسع، متمسكين بضرورة التوافق على المشروع الأهم خلال الفصل التشريعي الحالي، أصر القائمون على المجلس على المضي في مسار المناقشات.
رفض رئيس المجلس دعوة الحوار التي تبناها حزب التجمع من خلال النائب عاطف مغاوري، رئيس الهيئة البرلمانية للحزب، الذي قال "حرصًا من التجمع على أن يكون مشروع القانون الذي يحكم الحريات وكافة الأطراف المتعلقة بمنظومة العدالة في مصر في أكمل صورة، نؤكد ضرورة إجراء حوار مجتمعي لتلافي بعض الاعتراضات".
دافع جبالي عن مجلسه معتبرًا أن دعوته لحقوقيين ورؤساء الأحزاب السياسية في أغسطس/آب الماضي لاستعراض ملامح مسودة المشروع بمثابة "حوار مجتمعي رفيع المستوى".
لكن الجلسة التي يتحدث عنها رئيس المجلس ويصورها على أنها حوار لم تكن سوى جلسة شكلية، لم يطلع المدعوون لها على مشروع القانون قبلها، ولم تكن هناك مساحة لقراءة متأنية ومناقشات تفصيلية للنصوص المرتبطة بحقوق المواطنين.
جرت المناقشات على مدار 12 جلسة واستمع المجلس إلى 250 نائبًا
"الحوار المجتمعي الأمثل وصورته المثلى في حضراتكم نواب الشعب" قال جبالي حازمًا، معتبرًا النواب ممثلين الشعب ومناقشاتهم هي الحوار المجتمعي الدستوري، مضيفًا "المشروع حظي بحوار مجتمعي لم يحظ به أي مشروع قانون من قبل عبر تاريخ مجلس النواب والحياة النيابية في مصر ومع ذلك نحن مستمرون في الحوار".
خطة المناقشات
أدار رئيس مجلس النواب المناقشات ببراعة، أضفى منذ اليوم الأول طابعًا مختلفًا على مناقشات القانون الذي وصفه بأنه "الدستور الثاني" باعتباره "الظهير التشريعى الذي تتجسد فيه كل مظاهر الحماية الدستورية لحقوق الأفراد وحرياتهم"، ورسم صورة تبدو ديمقراطية للمناقشات، واستمر في مساره الذي رسمه، بوضع مناقشة مشروع القانون من حيث المبدأ دون الخوض في تفاصيل المواد، على جدول أعمال المجلس على مدار 12 جلسة عامة، والاستماع لأكثر من 250 نائبًا في سابقة لم تحدث مع أي مشروع قانون آخر.
لا تدع الأرقام تخدعك، فالمناقشات الفعلية بشأن مواد القانون في آخر تسع جلسات لا تتجاوز نصف ساعة في الجلسة الواحدة على مدار الجلسات التسع الأخيرة، وإن كانت أقل في بعض الأحيان، فمن واقع رصد "الحوار الدستوري" على حد وصف جبالي يمكن حصر المناقشات في ثلاث جلسات رئيسية، أما التسع الأخريات فكانت ضمن مخطط استكمال الشكل حتى يبدو أن المجلس استغرق وقتًا طويلًا في المناقشات.
الجلسة الأولى للمناقشات طغى عليها الطابع الاحتفالي. كانت الكلمات قاصرة على الوزراء وممثلي الأطراف المشاركة في مناقشات مشروع القانون من المجلس القومي لحقوق الإنسان والجهات القضائية الأخرى، ونقيب المحامين، وأعضاء اللجنة الفرعية من النواب وممثلي الجهات التي شاركت في إعداد مشروع القانون.
احتفى الجميع في الجلسة، التي بثتها على الهواء مباشرة قناة إكسترا نيوز التابعة للشركة المتحدة، بتقرير اللجنة المشتركة للجنة الشؤون الدستورية والتشريعية، ولجنة حقوق الإنسان. وليس من العادة بث جلسات مجلس النواب على الهواء، إذ توقف البث خلال الفصل التشريعي السابق برئاسة علي عبد العال، لكن شهدنا حالات بث استثنائية مع المجلس الحالي برئاسة جبالي في بعض الجلسات من أجل إيصال رسائل في ملفات محددة، كان من بينها جلسة الاحتفاء بمشروع قانون الإجراءات الجنائية.
رفض وامتناع.. لماذا؟
يمكنك إحصاء كلمات الرافضين لمشروع القانون على أصابع اليد الواحدة، فبينما رفضت الهيئة البرلمانية للحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي المكونة من سبعة أعضاء المشروع، لم يتحدث منهم سوى أربعة.
تركزت اعتراضات نواب المصري الديمقراطي على التوسع في صلاحيات مأموري الضبط القضائي والسماح لهم بإجراء أعمال تحقيق تختص بها النيابة، ومنح هذه الصلاحيات لرتب وظيفية متواضعة بداية من شيخ الخفر، وإعطاء النيابة سلطة إحالة متهمين للمحاكمة دون تحقيق، والتغاضي عن استحداث بدائل جديدة للحبس الاحتياطي.
فيما انضم للرافضين النائب الوفدي محمد عبد العليم داود على عكس اتجاه غالبية نواب الحزب الذين وافقوا على المشروع من حيث المبدأ، مشيدين بما يحمله من مكتسبات يعتبرونها تعزز حقوق المواطن. دعا داود خلال كلمته إلى إعادة النظر في الملحوظات التي قدمتها نقابة الصحفيين، وقال "مشروع القانون به العديد من الملحوظات"، وطالب بإتاحة الفرصة أمام نقابة الصحفيين والأزهر الشريف، للتعبير عن رأييهما والاستماع لملحوظاتهما.
أما حزب التجمع، فامتنع نوابه عن التصويت بالموافقة أو الرفض متمسكين بالحوار، ووافق نواب حزب الإصلاح والتنمية الذي يرأسه محمد أنور السادات، الذي يبدو موقفه مغايرًا ومعارضًا للمشروع، وكان يعتقد أن تأجيل المجلس لأخذ الرأي على مشروع القانون طوال هذه الفترة "انفراجة" باتجاه منع إقراره بهذا الشكل.
موافقات محبطة
أحبَطت موافقة النائبين المستقلين ضياء الدين داود وأحمد الشرقاوي على مشروع القانون بعض المتابعين لأدائيهما على مدار الفصلين التشريعيين السابق والحالي، إذ سبق لهما تبني مواقف معارضة حادة من التعديلات الدستورية، واتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية (تيران وصنافير)، والتمادي في سياسة الاقتراض وتشوه الموازنة العامة.
ورغم أن الشرقاوي أكد أنه ما زال متحفظًا على بعض النصوص في النسخة النهائية من المشروع، وأنه سيعرض مقترحات تعديلاته خلال المناقشات التفصيلية، لكن من واقع خبرتي في المتابعة اليومية لمجلس النواب فإن أي تعديلات تتبناها المعارضة نادرًا ما تحظى برضا الأغلبية، وبالتأكيد لن تغير من الفلسفة الأساسية للمشروع.
هل أدت المعارضة واجبها؟
مع التسليم بانحسار قدرة المعارضة على إجراء تعديلات جوهرية على نصوص مشروع القانون خلال مناقشات المواد في الجلسة العامة، يبدو أن نواب المعارضة المعدودين على أصابع اليدين لم يؤدوا واجبهم في مقاومة المشروع على مدار عامين.
لم يهبط مشروع القانون على المجلس فجأة، سبقته عملية إعداد في اللجنة الفرعية امتدت عشرين شهرًا ثم المناقشات التي عقدتها لجنة الشؤون الدستورية، ولم يشارك من نواب المعارضة في تلك الاجتماعات سوى دواد والشرقاوي، وتغيب نواب الحزب المصري الديمقراطي عن الاجتماعات التي انعقدت خلال الإجازة البرلمانية.
لكن التقصير النيابي لم يبدأ من لحظة المناقشات في لجنة الشؤون الدستورية، بل ظل ملازمًا للمعارضة خلال المناقشات في اللجنة الفرعية وإعداد المسودة، فالجميع في المجلس كانوا يعلمون بوجود اللجنة واجتماعاتها لوضع مسودة مشروع القانون.
أن تأتي متأخرًا خيرٌ من ألا تأتي. بدأ الحزب المصري الديمقراطي مؤخرًا الاهتمام بالعمل على المشروع والمشاركة في ورش عمل وعقد اجتماعات لمناقشة التعديلات التي سيتقدم بها، لكن حتى الآن تفتقد جهوده للتشبيك مع نواب الأحزاب الأخرى أو المستقلين الذين يمكن إقناعهم ببعض التغييرات.
سيناريوهات المستقبل
تصوَّر البعض أن تباطؤ المجلس في الموافقة من حيث المبدأ بادرة أمل لوقف المشروع، لكنها تبدو سياسة مقصودة ليستوفي المشروع الأهم صورة شكلية من المناقشات المطولة والتلاعب بالأرقام بأعداد المتحدثين والجلسات والساعات.
رغم ذلك لا يملك النواب إجابات على سيناريوهات مسار "الدستور الثاني"، فيواجه المشروع عدة احتمالات. قد تستمر المناقشات حتى يصل لمحطته الأخيرة بالموافقة النهائية بعد الانتهاء من المواد التفصيلية، وتبدأ المداولات تحت القبة بإيقاع عادي بلا تباطؤ أو تأجيل.
أما السيناريو الثاني فيرتبط بردود الفعل الدولية، التي قد تعطل مسار المشروع، خاصة مع استعداد مصر لمناقشة ملفها أمام مجلس حقوق الإنسان في جنيف التابع للأمم المتحدة نهاية يناير/كانون الثاني المقبل، فقد لا تبدأ المناقشات قبل مراجعة الملف المصري.
بينما يلوح سيناريو آخر في الأفق يتعلق بالاستجابة للضغوط الدولية، وفرملة مسار مشروع القانون خاصة أن هذا المشروع لا يخاطب المواطنين فقط، بل المجتمع الدولي أيضًا، فورد في تقرير لجنة الشؤون الدستورية عن المشروع ردٌ على 9 توصيات تضمنها تقرير سابق للأمم المتحدة.
في كل الأحوال، يتحرك قطار مشروع قانون الإجراءات الجنائية ببطء في مجلس النواب، وما زال هناك أملٌ يتمسك به المتفائلون في أن ينتبه صانع القرار ويوقف القطار قبل فوات الأوان.